«تحدث عن حروب الموتى، قال: إنهم يخرجون بالليل، يتصايحون، ويتقاتلون بالفؤوس والحجارة»

علي المقري، اليهودي الحالي، الساقي لندن ٢٠٠٢م، ص١٤٨

تمهيد:

مَن يكون المرء بحياته القصيرة ليحكم على هوية ما ويضعها في إطار تصنيفي؟ كأن الهوية شيء جامد وليست شيئا حيّا بحياة صنّاعها؛ حسب المرء أن استطاع أن يقرأ ويتأمل، ولا ترمي هذه القراءة إلى أكثر من محاولة فهم التصوّر الذي يحمله اليهودي المعاصر لهويته وثقافته، وفهم سمة التطرف البادية للعيان في الدوافع السياسية لدولة إسرائيل اليوم، وما تجره من ويلات على نفسها وغيرها، ففي المحصلة كل هوية هي في مدار تحولات كأصحابها، سواء هويتي ذاتها، أو هنا، هوية اليهودي، وهي ليست هوية جامدة ككل هوية، وفوق ذلك هي هوية متنوعة كما سيأتي، لكن تصوراتها وتمثلاتها قديمة، وضعتها في إطار، ويمكن النظر إليها من أكثر من زاوية.

إلى يومنا هذا لا تزال بعض شواهد اليهود باقية في المدن والحواضر الشرقية، كمقبرتهم في صحار العمانية مثلًا، وحضورهم الفعلي كبقية يهود اليمن الذين لم يضطروا إلا مؤخرًا للخروج من اليمن، ضد المنطق الطبيعي، وخدمة لفكرة دولة إسرائيل، الدولة التي بقي اليهود قبلها متعايشين في الشرق إلى زمن قريب، ثم حين قامت دولتهم عملت بطبيعتها على نزع وجودهم الشرقي في كل مكان آخر، لتذيبهم في مصهرها اللاهب.

في الثقافة الإسلامية يستعيد المرء نكبات بني قريظة وبني قينقاع وبني النضير، القبائل اليهودية في عصر نشوء الدولة الإسلامية، لكنهم ليسوا وحيدين في ذلك فقد طالت التصفيات السياسية اللاحقة حتى البيوت المؤسسة نفسها، ولا يمكننا إغفال واقعة أن تاريخهم يشكّل جزءًا معتبرًا ولافتًا من القرآن نفسه، فالقرآن يعتمد أغلب الرواية التوراتية الأقدم للتاريخ الديني، ويحفل بذكر بني إسرائيل وقصصهم التأسيسية، وحتى الأفضلية التي يدّعيها اليهود مثبتة في القرآن (يَٰبَنِيٓ إِسرَٰٓائيلَ ٱذكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَٰالَمِينَ) ١٢٢: البقرة، (وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِيٓ إِسْرَٰٓائِيلَ ٱلْكِتَٰابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَٰاهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰاتِ وَفَضَّلْنَٰاهُم عَلَى ٱلْعَٰالَمِينَ) ١٦: الجاثية. وكما جاء في آية أخرى فإن الدين هو ما اصطفاه الله لآل إبراهيم ويعقوب، ١٢٣: البقرة، وتفضيل آل إبراهيم وآل عمران مثبت، مع تمييز كون إبراهيم وأبنائه أسبق على اليهودية والنصرانية، فكأن النص القرآني يشارك ويناقش وينفي الاحتكار اليهودي والمسيحي لتلك الجذور ويعمل على تحررها وشيوعيتها، كما أن القرآن من جهة أخرى يسم اليهود باللعنة في بعض مواضعه، وقد يبدو هذا التعارض محيّرًا، وعدد معتبر من الباحثين كالفلسطيني الراحل زكريا محمد يقول بوجود بني إسرائيل تاريخيين مختلفين عن اليهود المعاصرين، وهو ما يؤكده كذلك الباحث المصري المتخصص في اليهودية عبدالوهاب المسيري، الذي يخلص بعد التتبع التاريخي إلى أن اليهود شكلوا جماعات وظيفية حيثما حلوا وبالتالي:

«الواقع أن هناك هويات يهودية مختلفة متعددة بعدد المجتمعات التي تكزن فيها هذه الهويات».

عبدالوهاب المسيري، من هو اليهودي، دار الشروق القاهرة ط٣، ٢٠٠٢م، ص٣٨

إن تأمل التاريخ يفضي إلى أن كل التبدلات والتغيرات مستمرة، لكن بمعزل عن الحوادث التاريخية فإن الفرد يحتفظ بتصوّر محدد ورؤية خاصة يبني عليها قراءته ومفهومه، وهو مدفوع في كل ذلك بلحظته، كما هذه المحاولة هنا مدفوعة براهنيتها، وكما يبدو في المحصلة، وكما يثبت المسيري ونظريته عن الجماعات الوظيفية التي شكّلها اليهود عبر التاريخ في كتابه المذكور، فإن اليهودي كهوية ثابتة انقرضت منذ زمن بعيد، وبقيت صورتها مرهونة ومتجمدة هناك بوصفها تشمل ما بعدها، وهو غير صحيح، وتلك الصورة المتجمدة هي التي تحاول الصهيونية اليوم اعتبارها الجذور والأصول، في إسرائيل وخارجها، والبناء عليها كهوية قانونية، وهي هوية في جانب كبير منها ديني وتاريخي، لذلك فإن كل قراءة هي رهن بذلك التصور.

إن كل هوية هي بناء متشابك يتورط حتمًا في عجزه عن فك الارتباط الديني التأسيسي، والتاريخي الثقافي بالتالي، لا عنا كمسلمين، ولا عنهم كيهود، ولا عن المسيحيين، عن هذه الأرحام الشرقية القديمة التي غيّرت وجه الشرق والغرب؛ وجعلت النزاع قائمًا على القدس نفسها، كما هو على المقدّس.

وسط كل هذا التاريخ الثقيل، وفي العصر الأثقل، يحاول الإنسان المعاصر التخفف من كل ذلك، ولا يحاول إسقاط حكم ناجز بقدر ما يحاول قراءة الآخر، وهو في ذلك مدفوع بمحاولته المتعثرة لقراءة وفهم ذاته ومكوّناته.

اليهودي في الإطار الغربي:

في كتاب (فرويد وغير الأوروبيين) يلمح إدوارد سعيد، بوصف إدوارد سعيد هنا ملتقى طرق شرقية في الغرب، إلى قراءة اليهودي اللايهودي لإسحاق دويتشر، وعند دويتشر لا نجده يفرّق كثيرًا بين الصهيونية واليهودية، كما يروق لكتّاب اليوم أن يفعلوا، تحاشيًا لربما لتهمة العداء للسامية، والتهمة في حد ذاتها خرقاء، فما السامية أمام الإنسانية، والآن في عالم يبرر ارتكاب المجازر بحق الإنسانية بحمله لواء معاداة السامية:

«الجزء الأساسي من المأساة اليهودية تكون نتيجة لتطورات تاريخية طويلة بحيث أصبحت الجماهير الأوروبية معتادة على تحديد هوية اليهودي بالتجارة والسمسرة وإقراض النقود والإثراء. وعليه فقد أصبح اليهودي بنظر العقل الشعبي، رمزًا ومرادفًا لهذه الأعمال. فإذا ما بحثنا في قاموس أكسفورد الإنجليزي وتابعنا كيف يعطي المعنى الشائع لعبارة «يهودي» نجده يقول في البدء إنه الشخص الذي ينتمي «للجنس العبري» ثم يقول عن الاستعمال العامي بأنه «شخص ميال لابتزاز الأموال، أو قادر على عقد صفقات يغبن فيها الطرف الآخر. ويقول المثل العامي «ثري كاليهودي». وتستعمل الكلمة بالعامية كفعل متعد فقاموس أكسفورد يفسّر كلمة يُهوّد To Jew بأنها تعني «يخدع أو يمكر بـ» إن هذا يمثل التصور العامي المألوف لليهودي، وهو في الوقت نفسه إجحاف شائع يلحق به وهذا الشعور مثبت في لغات عديدة وأعمال فنية عديدة لا تقتصر على الإنجليزية أو تاجر البندقية فقط».

إسحاق دويتشر١٩٨٦م، اليهودي اللايهودي، ت. ماهر الكيالي، ص٢١

ما يثبته دويتشر هو ظل ذلك الإطار المادي المالي للصورة القديمة المتراكمة في اللغة وفي المفاهيم العامة الشائعة لدى الناس، ومثلها كثير حتى في ماضي المدونة الشرقية القديمة، فمثلًا في الليلة السابعة والعشرين من الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي ترد حكاية اليهودي والمجوسي، ومدار القصة ديني أخلاقي، يجيب اليهودي في الحكاية على سؤال عن ماهية عقيدته بقوله:

«أعتقد أنّ في هذه السماء إلها هو إلّه بني إسرائيل، وأنا أعبده وأقدّسه وأضرع إليه، وأطلب فضل ما عنده من الرزق الواسع والعمر الطويل، مع صحّة البدن، والسّلامة من كلّ آفة، والنّصرة على عدوّي، وأسأله الخير لنفسي ولمن يوافقني في ديني ومذهبي، فلا أعبأ بمن يخالفني، بل أعتقد أنّ من يخالفني دمه لي يحلّ، وحرام عليّ نصرته ونصيحته والرحمة به».

أبو حيّان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، نسخة إلكترونية.

اليهودي في هذا التصور كاره لغير اليهودي، بل ويصرح بمعاداته، وإذا تبناه المرء بمقدوره أن يفهم ويقرأ بسهولة ما يفعله الصهيوني المتطرف وما تقوم به إسرائيل المعاصرة، التي تريد، بانفصام سلبي واضح، تقرير مصير اليهودي عبر سلخه من تاريخ علاقته بالعربي والشرقي وتنصيبه عدوًا من جهة، وإثبات ملكيته الشرقية من جهة أخرى.

لكن المسألة اليهودية تبقى مسألة غربية، طرحت هناك وجرت إعادة تعبئتها وتصديرها للشرق في الكيان الإسرائيلي، وإسرائيل ولدت غربية وترعرعت هناك وجرى التنظير والتقعيد لها في الغرب، ومن هناك ربّيت، وما تزال، كما هو واضح، حتى الساعة تحت الكفالة الغربية، وهي عاجزة بكل معنى الكلمة، كما هو واضح من عدوانيتها المتطرفة، كوريث للاستعمار والإمبريالية، أن تكون شرقية، كما هو الفلسطيني بالمقابل شرقي عربي بطبيعته وتاريخه.

لكن هذا الانبعاث الصهيوني لليهودي، كما هو واضح من نتائجه، انبعاث مأساوي مروّع:

«إنها لمأساة وحقيقة مروّعة أن يكون هتلر هو أكبر «مجدد» للهوية اليهودية، وهذه تعتبر أحد أصغر الانتصارات التي حققها بعد موته. لقد كانت مذبحة أوشفيتز بمثابة السرير الهزاز والمرعب للوعي اليهودي الجديد وللأمة اليهودية الجديدة. وإنه لأمر غريب ومؤلم أن يفكر أولئك الذين أكدوا على اليهودية وبقائها، بأن إبادة ستة ملايين يهودي قد أعطت الحياة لليهودية. لقد كنت أفضّل أن تهلك اليهودية مقابل أن يحيا ستة ملايين رجل وامرأة وطفل، فمن رماد الموتى أطلت العنقاء اليهودية. فيا له من انبعاث!

وها هي الهوية الجديدة التي انبعثت بشكل مفجع تصرخ الآن وتئن وهي تحاول أن تحدد ذاتها وتستقر في الحقيقة التي تحطمت بالماضي القريب».

إسحاق دويتشر، مصدر سابق، ص٣٢.

يبدو الصهيوني اليوم، اليهودي الجديد، الناجي من المحرقة، مشبعًا بروح المحرقة المضادة، يحملها معه ويبحث عن مبرر شكلي لتكرارها وتصديرها، وهو متورط بذلك في خداع نفسه، عالق بأحابيل ذاته، أحاط به معسكر جديد يدعى إسرائيل بجدرانها العازلة، معسكر قام على أنقاض معسكرات المحرقة، وأسس نفسه مكان السجن التاريخي الأول الذي لم يستطع اليهودي الخروج منه، السجن القديم لفكرة تأسيسية أوهمته أنه وحده من اكتشف الله كما يقول فرويد:

«لم يكن شعور الاعتزاز والفخر الذي خالج أول شعب في التاريخ حقق مثل ذلك التكثيف والتركيز للصفات الإلهية (التوحيد)، بالشعور الباهت».

سيجموند فرويد، مستقبل وهم، الأعمال شبه الكاملة، ت. جورج طرابيشي، مدارك للنشر أبوظبي، ص٣٣.

مع هذا الشعور، الذي لا شك ترسخ مع مرور الزمن، بعد الخروج من مصر، سواء أصحّت نظرية فرويد حول مصرية موسى أم لم تصح، فإن الشعب المكتشف للتوحيد طالب باستحقاقات الاكتشاف:

«من بذل في سبيل الأب (الإله) ما بذل، تساوره الرغبة في أن يلقى على ذلك ثوابًا، كأن يكون على الأقل الابن الوحيد الأثير لدى الأب، أي الشعب المختار، وفي زمان لاحق ادّعت أمريكا الورعة بدورها أنها أرض الله الوحيدة».

فرويد، مصدر سابق، ص٣٣

عبارة فرويد الأخيرة حول الادعاء الأمريكي يربط بنظرنا اليوم الصهيونيتين اليهودية والمسيحية البروتستانتية، ما استشفه محمود درويش بحساسية عالية في قصيدة الهندي الأحمر الأخير، ويمكننا الإشارة لنظرية ماكس فيبر حول بروتستانتية الرأسمالية، دون أن ننسى أن المسيح يهودي الأصل لكننا سنعود لذلك، أما النقطة المركزية في عبارة فرويد فهي نزعة الملكية اليهودية التي تريد احتكار الله، وجعل اليهودي هو الموحد الفريد وسط الوثنيين، وهي فكرة دينية كارثية جرّت ويلات لاحقة لا حصر لها، ليس على اليهود وحدهم بل على المنطقة بأسرها، وأحكمت قبضتها على اليهودي حتى تسببت في شتاته ونفيه «خارج المكان» بشكل من الأشكال، لقرون عديدة، وحرمته تلك الفكرة نفسها حتى من الانتماء للمنفى فظل غريبًا فيه، معزولًا في سجن ذهني ولّد الجيتو، الفكري والواقعي، وأدى بالتالي لنبذه من بقية النسيج الاجتماعي الطبيعي، وظل مؤطرًا تثار حوله الشكوك وتنادي بموته مع كل حادثة، وإن كان المسيري يذهب أن الجيتو هو الوضع الطبيعي الأمثل للجماعات الوظيفية. مصدر سابق، ص٢٦.

في المحصلة ونتاج انعزاله فقد وقع اليهودي بسهولة، وسط تواطؤ اجتماعي نسبي، في قبضة العنصرية الآرية متمثلة في النازية، التي بدأت فعليًّا حملات إبادة اليهود، وجعلت الناجين يفرّون للمنافي، وبذلك غذّت النازية نشوء دولة سمّيت إسرائيل، تبنّت بدورها روح المحرقة المضادة، فقدمت إسرائيل اليهودي «الناجي» في عودته للشرق بأبشع صورة ممكنة، كـ«إرهابي» عنصري قاتل ومرتكب مجازر متسلسلة، يعمل على إبادة مستضيفيه وجيرانه التاريخيين.

رأي كارل ماركس في المسألة اليهودية:

كتب كارل ماركس مقالته حول المسألة اليهودية في عام ١٨٤٣م، قبل كتابه الشهير رأس المال ١٨٧٦م، ونشرت المقالة في الحولية الألمانية الفرنسية ١٨٤٤م، وهي رد على مقالة لبرونو باور١٨٤٣م عنوانها «قدرة يهود ومسيحيي اليوم على التحرر»، ونقلت مقالة ماركس للعربية بترجمة نائلة الصالحي عن منشورات الجمل ٢٠٠٣م، ولها ترجمة بالإنجليزية لعدة مترجمين على موقع منظمة الماركسيين https://www.marxists.org، وهما الترجمتان المشار إليها بالعربية والإنجليزية فيما يلي. وبالنسبة لكارل ماركس تبدو بوصلة القراءة في غاية التجريد والوضوح:

«علينا أن لا نبحث عن سر اليهودي في دينه، بل علينا البحث عن سر ذلك الدين في اليهودي الواقعي.

ما هو الأساس العلماني لليهودية؟ الحاجة العملية، المصلحة الشخصية. وما ديانته الدنيوية؟ التجارة (حرفيًّا: المساومة)، ومن ربه الدنيوي؟ المال»

كارل ماركس، المسألة اليهودية، الجمل كولونيا ٢٠٠٣م، ص٥٢، On The Jewish Qustion، نسخة إلكترونية، ص١٨

لا ننسى أن كارل ماركس هو صاحب مقولة «الدين.. أفيون الشعوب» وذلك في مقالة أخرى كتبها في العام التالي ١٨٤٤م، وكما يبدو أن جزءًا كبيرًا من نظرة ماركس للدين، والتي تبنّتها بعض الحركات الماركسية اللاحقة بتطرف مضاد للدين كما في الشيوعية اللينينية، مبنية على تحليل ماركس وقراءته للدين اليهودي والمسيحي بنسبة أقل، والدين اليهودي هو الدين المحوري في الديانتين اللاحقتين عليه المسيحية والإسلام، لكن كي لا نبتسر مقولته فإنه يقول كلامًا مهمًّا قبلها:

«الدين زفرة المخلوق المضطهد، روح عالم لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد(ت) منها الروح، إنه أفيون الشعوب»

ماركس وانجلز، حول الدين، الطليعة بيروت١٩٨١م، ط٢، ص٣٤.

في منتصف القرن التاسع عشر لم تكن الصهيونية بوصفها التطرف اليهودي قد ظهرت بعد، لذلك فالحدود نسبية حينها بين ما هو يهودي وصهيوني، لكننا كما نقرأ مع ماركس في المسألة اليهودية فإن الحدود في الواقع نسبية حتى بين ما هو يهودي ومسيحي، وكما يختصرها لنا ماركس بضربة سطرين ونصف:

«لقد تحرر اليهودي على الطريقة اليهودية، ليس فقط بامتلاكه سلطة المال، وإنما أيضًا بأن أصبح المال من خلاله ومن دونه سلطة عالمية، وأصبحت روح اليهودي العملية الروح العملية للشعوب المسيحية، لقد تحرر المسيحيون بالقدر الذي أصبح فيه المسيحيون يهودًا».

ماركس، العربية، ص٥٣

لا يفوت القارئ أن ماركس نفسه قادم من عائلة يهودية تحولت للمسيحية، وموقعه يسمح له بإلقاء نظرة فاحصة على المسيحي واليهودي، وأنه كذلك يقرأ موضوعه في لحظته وزمنه ودوافعه، لكن كل ذلك لا يعني أنه لا يخلص لنتيجة مهمة وجديرة بالتأمل هي أن اليهودي، بالأحرى صورته، نتاج دينه، ويركز ماركس على الجانب النفعي الصرف لهذا الدين، بوصفه تجارة، هذه المرة مع الله، خدمة دنيوية بمقابل أخروي ودنيوي، مسألة ربح وخسارة، وهو تصور ينسحب على الديانتين اللاحقتين.

من هنا يمكننا القول بأن الارتباط معقود بين اليهودي ودينه وتاريخه الذي يمثل سلطة الخطاب المؤثرة عقائديًّا واجتماعيًّا وفكريًّا عليه، وهذا الخطاب وسلطته هو ما تقودنا هذه القراءة إليه، فاليهودي نتاج سلطة ثقافية مؤثرة ظلت تصوغه خدمة لأغراض الخطاب التأسيسية القديمة، لكنها جعلته رهينة أبدية بيدها حتى وهي تذوي مع تقدم الزمن، وهكذا لم يعد من فكاك لليهودي إلا عبر الخروج من تأثير ذلك الخطاب، وكما ينبهنا ماركس يمكننا أن نرى الصهيونية، كما تبدو أمام أعيننا اليوم، وأعين العالم، وهي ليست بعد تجريدها، إلا الإنسان تحت قبضة آلاف السنين من سلطة الدين الخاص.

«إن احتقار النظرية والفن والتاريخ، والإنسان كغاية في حد ذاته، والذي تحتويه الديانة اليهودية بكل تجريد، هو موقف الوعي الحقيقي، لفضيلة رجل المال».

ماركس، الترجمة الإنجليزية، مصدر سابق، ص٢٠.

هكذا نكتشف بوضوح مع ماركس أننا حين نحاول قراءة اليهودي نجدنا أمام التاجر، رجل المال، الذي أبرم صفقة خاصة مع الله تجعله يرى لنفسه الحق في تصرفين؛ خاص مع قرنائه وعام مع البشر، ويؤمن أن لديه صكًا إلهيًّا:

«لقد أصبح إله اليهود علمانيًّا وأصبح إله العالم. الصك هو الإله الحقيقي لليهود. وما إلهه إلا صك وهمي».

ماركس، بالعربية ص٥٦، بالإنجليزية ص٢٠

الصك، الوثيقة، ورقة الدَّين أو ورقة المال، بين الدين والدّين تقرب اللغة بين جذورها ومغازيها، فها هو الإنسان العملي ذهب بعيدًا، فجعلها الميتافيزيقيا وعقيدته تابعة لمصلحته الشخصية وأنانيته، وبدل الإله القديم الذي جرى احتكاره في التأسيس، أصبح لدى اليهودي إله آخر خالص وأكثر تجريدًا:

«المال هو إله إسرائيل الغيور الذي لا ينبغي أن يوجد أمامه إله آخر» ماركس، بالعربية، ص٥٦

ومن الزاوية التي يقرأ منها ماركس الدين في الفرد المتدين فإنه يقدم رؤية مبنية على نظرة تاريخية صلبة:

«عاشت اليهودية إلى جانب المسيحية ليس فقط كنقد ديني للمسيحية، كشك متضمن في الأصل الديني للمسيحية، وإنما (بسبب) الروح العملية اليهودية، لأن اليهودية بقيت في المجتمع المسيحي نفسه وحصلت حتى على أعلى نمو لها». ماركس، العربية ص٥٥.

إذا كان اليهود في بدايات المسيحية هم قتلة المسيح، فإن المسيح وتلاميذه أنفسهم يهود، وإذا كان اليهود هم أبناء الله وشعبه المختار فإن المسيح من بينهم هو ابن الله في الاعتقاد المسيحي، وهذا التشابك المسيحي اليهودي أساسي، والقرآن كذلك تاريخه تاريخ أنبياء مشتركين، إلا فيما ندر، ويبني بروايته النصيّة تصورًا خاصًا عما هو مسيحي ويهودي، أما عند ماركس فالعلاقة بين الدينين تكاملية:

«نشأت المسيحية من اليهودية، ثم عادت واتحدت بها.

كان المسيحي من البداية هو اليهودي المنظّر، ولذلك كان اليهودي هو المسيحي العملي، وهذا المسيحي العملي رجع وأصبح يهوديًّا من جديد.

لم تتفوق المسيحية على اليهودية الواقعية إلا بشكل ظاهري، فقد كانت من النبل العقلي والروحاني بحيث تخلصت من فجاجة المنفعة العملية بتصعيدها للسماء.

المسيحية هي التنظير السامي لليهودية، واليهودية هي التطبيق العملي العادي للمسيحية، لكن هذا التطبيق لم يتعمم إلا بعد أن قامت المسيحية كدين مطوّر بإتمام الاغتراب النظري للإنسان عن نفسه وعن الطبيعة.

عندها فحسب استطاعت اليهودية تحقيق الهيمنة العالمية وتحويل الإنسان المغترب والطبيعة لأشياء قابلة للبيع والتصرف وخاضعة لعبودية الأنانية والتجارة».

ماركس، مصدر سابق، العربية ص٥٩، الإنجليزية ص٢٠.

وعن هذه العلاقة اليهودية وتنظيرها المسيحي يبسط لنا سيجموند فرويد قصة التأسيس المسيحية بإضافة تفاصيل حاسمة:

«في ذهن رجل يهودي، شاؤول الطرسوسي الذي كان يدعى بولس بصفته مواطنًا رومانيًّا ولدت الفكرة التالية «إذا كنا نكابد هذا القدر من الشقاء فلأننا قتلنا الله الأب» ولا يعسر علينا البتة أن ندرك أنه ما أمكن له أن يستوعب هذا الجانب من الحقيقة إلا تحت القناع المتوهم للبشارة بالخلاص «ها نحن قد تحررنا من كل إثم منذ أن ضحى واحد منا بحياته ليفتدي خطايانا كافة» وغني عن البيان أننا لا نجد في هذه الصيغة إشارة إلى مقتل الإله، ولكن ما الجريمة التي لا يمكن التكفير عنها إلا بالتضحية بحياة إن لم تكن جريمة قتل؟ .. ناهيك، أن المضحى به كان ابن الله بالذات، وهذا ما يصل الجسور بين الوهم والحقيقة التاريخية..

.. ولقد أمكن للعقيدة الجديد المستمدة قوتها من حقيقة تاريخية، أن تذلل العقبات جميعًا، فأحلت محل الشعور بالاصطفاء والإيثار، ذلك الشعور الساحر للألباب، عزاء الفداء الذي فيه خلاص النفس وطمأنينتها. بيد أن واقعة اغتيال الأب كان عليها حين انبثقت ذكراها من جديد في حافظة البشر، أن تذلل عقبات أعظم بكثير من تلك التي واجهتها واقعة الاغتيال الأخرى التي كوّنت جوهر التوحيد.. فقد استغني عن جريمة القتل، التي كان من المتعذر أن يرد لها ذكر بمفهوم غامض حقًا هو مفهوم الخطيئة الأصلية».

فرويد، مستقبل وهم، ت. طرابيشي، ص٣٧٥.

هكذا حين ولدت المسيحية من رحم اليهودية فإنها لم تقم لإلغائها بل بالعكس قامت بإثباتها وترسيخها وتخليصها من الشوائب التي تعوق انتشارها بثياب جديدة، فبدل يهوه في الدين القديم هنا الابن في الدين الناشئ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى جعلت الأصولية اليهودية نفسها تحت تهديد التجديد تتمسك بشدة أكثر بجذورها وأصولها، وهكذا رسخ الدين المولود (الابن) جذور الدين السابق (الأب) وتخلص من فروعه المزعجة، لكن ذلك التأسيس كما هو واضح تبنّى المرتكز الأساسي وجذر ذلك الدين بالضرورة وحمله معه وفي رحمه.

حسب ماركس فإن المرتكز الرئيس، ليس إلا النفعية والحاجة الأنانية المادية العملية، التي عادت وأسقطته في النهاية في أحضان أصوله، في دائرة مغلقة من القيود الذاتية والعجز عن استمرار التوسع والتطور التاريخي، كما يؤكد ماركس:

«إن دين الحاجة العملية بحكم طبيعته لا يكتمل نظريًّا وإنما في التطبيق، لأن حقيقته تطبيقية.

لم تتمكن اليهودية من خلق عالم جديد، يمكنها فحسب أن تجتذب مبتكرات العالم الجديدة وأوضاعه إلى مجال عملها، لأن الحاجة العملية التي تتبع منطق المصلحة الذاتية هي سلبية، ولا تتسع تبعًا للإرادة، بل للحاجة، وتتضخم تبعًا للظروف الاجتماعية».

ماركس، العربية ص٥٨، الإنجليزية ص٢٠.

وكل تلك البنى الدينية لها مصب واحد هو الفرد نفسه، وبعبارة بيلاطس هذا هو الإنسان:

«إن الإنسان ما دام في قبضة الدين، لا يمكنه تجسيد طبيعته الحقيقية إلا عبر تحويلها لشيء غريب، خيالي، حتى يمكنه ممارسة نشاطه تحت سيطرة الحاجة الأنانية، عبر وضع نتاجه ونشاطه تحت تحكم كائن غريب -المال- ليضفي عليها القيمة». ماركس، العربية ص٥٩، الإنجليزية ص٢١.

وتحليل ماركس لا شك متأثر بنظرته حول الدين، لكننا هنا نستخلص قراءته لليهودي، والتي كما هي واضح مبنية على الإطار التاريخي القديم وسلطة الخطاب الموروث ونظريته اللاحقة في الاقتصاد.

في المحصلة فإننا بقراءة اليهودي في المدونة الغربية نقرأ الآثار الشرقية على الغرب، أي العوامل التي خلقت فيما بعد الاستشراق الذي قرأه إدوارد سعيد نفسه، الملتقى الغربي للطرق الشرقية، في عمله الأشهر:

«إن العداء للإسلام في الغرب المسيحي الحديث سار تاريخيًّا جنبًا إلى جنب، وانبثق من المصدر ذاته، وتغذّى من نفس منبع العداء للسامية».

إدوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق، ت. صبحي حديدي، المؤسسة العربية بيروت ١٩٩٦م، ص٤٦

ما الشرقي والغربي واليهودي والعربي وغيرها من التصنيفات في النهاية سوى هويات قاتلة على رأي أمين معلوف، لكنها هنا هويات قديمة، مرسومة ومؤطرة منذ آلاف السنين خاصة الشرقي منها، ومبنية على تشييد صنم الذات من ترسيمة صنم «الآخر»، ولا تود هذه القراءة بأي شكل من الأشكال أن تسقط القارئ في هذه الهاوية الفارغة.

أخيرًا لعله من الواضح للقارئ أن أغلب اقتباسات هذه القراءة مستمدة من كتاب يهود أو من أصول يهودية، وليس ذلك لإثبات صدقها الموضوعي ونزاهتها فحسب، بل كذلك لإثبات إمكانية الهوية الإنسانية الشاملة القابلة للاختلاف والواسعة، والمعاكسة لليهودي النفعي برأي ماركس نحو اليهودي الإنساني المتحرر من أسر هويته وثقافته الجمعية، الذي يقدم نظرته الثاقبة الصادقة مع ذاته، وهو ما يجب أن يكون محل كل احترام وتقدير فكريين، لأنه المؤسس الحقيقي لكل المعارضة اليهودية الداخلية والخارجية للخطاب الدوغمائي الصهيوني الذي يدعي إنقاذ اليهودي بينما يدفع باليهودي واليهودية إلى جحيم أبدي.

نقرأ الآخر ونرى أنفسنا فيه، فنحن مثله أبناء الماضي، والماضي يتحكم بنا أكثر مما نعتقد، ومن خلال تحكمه بنا يلد مستقبلًا تحت سيطرته ووصايته، ها نحن مجرد دمى بخيوط تلعب بها ضغائن قبور الماضي التي ظننا أنها دفنت وتحللت، موتى من قبورهم يواصلون انتقامهم من الحياة بواسطة الأحياء.