(1)

لطالما استوقفني نموذج المثقف «العصامي» المكافح المناضل الذي استوفى بناء نفسه وفكره وثقافته بعوامل ذاتية بحتة، فلم يلتحق بمؤسسات تعليمية أو يدرس في الجامعة أو ينل شهادة تؤهله لممارسة عمل مؤسسي أو في منظومة تعتمد هذه الشهادات، إنما هو ذلك «المثقف» الذي قرر أن يبني نفسه بنفسه، وأن يحصِّل من العلم والمعرفة ما يؤهله للإنتاج والكتابة وإبداء الرأي والنظر في الموضوعات والقضايا الكبرى، وأن ينال الحظوة والمكانة التي تجعله في مصاف كبار المثقفين، بل في طليعتهم.

لو سألنا أحدا الآن عمن ينطبق عليه هذا الأمر في ثقافتنا العربية الحديثة، فلا أظن أن واحدا سيتردد في الإجابة فورا «عباس محمود العقاد». وذلك صحيح بوجه عام، فهو أشهر مثقف عربي «عصامي» في القرن العشرين بلا منازع، وسيرته وكفاحه معلومان ومسجلان في ثلاثية سيرته الذاتية الشائقة (أنا، سيرة قلم، في بيتي) فضلا عن عشرات الكتب التي دونها تلاميذه والمعجبون به، سجلت سيرته وكفاحه الإنساني، ونضاله الوطني، وتجربته الفكرية والثقافية ككل.

(2)

لكن العقاد لم يكن وحده في ذلك، ولم يكن النموذج الوحيد ولا الأوحد في عصامية الثقافة ونضال التكوين الفكري والتثقيف الذاتي مع أصالة هذا التكوين، وجمعه بين الرافدين الرئيسيين في تشكيل وتكوين أي معرفة حقيقية وناضجة؛ الرافد الذاتي (الثقافة القومية، التراث القومي، الثقافة المحلية) والرافد الموضوعي في الاتصال بالآخر وعلومه ومعارفه (القراءة بلغات أجنبية، أو الاتصال بجوانب تلك الثقافة عن طريق الترجمات حال تعذر القراءة بلغة أجنبية).

وهنا تبرز على الفور خصوصية وفرادة تجربة علي أدهم (1897-1981) الرائعة التي لم تنل ما تستحقه أبدا من تقدير وأضواء وشهرة، وربما يعود بعض ذلك لعزوف الرجل -بطبعه- عن الشهرة والأضواء، ونفوره الشديد -فيما أثر عنه- من الضوضاء والصخب والضجيج، فقد كان المرحوم علي أدهم من بين مثقفي زمنه الكبار مؤثرا الهدوء والعزلة والتفرغ للكتابة والقراءة وممارسة أدواره الثقافية الجليلة التي أداها على أتم وجه وأكمله الحقيقة!

وإذا كنا قد عرفنا به تعريفا موجزا في الحلقة السابقة من «مرفأ قراءة»، وألقينا بعض الضوء على سيرته الذاتية، فإننا في هذه الحلقة نحاول الإمساك بجذور هذا التكوين الفذ الذي أتاح لهذا النموذج المعرفي والثقافي الراقي أن يقدِّم للثقافة العربية إنتاجا غزيرا للغاية من ناحية الكم، ومتميزا ومحكما من ناحية الكيف، ومتنوعا من ناحية الإسهام في معظم مجالات الإنتاج الفكري والثقافي «الإنساني» ما بين تأليفٍ خالص، وترجمة، ومراجعة ترجمات، وتحرير المقالات والدراسات المطولة، فضلا على الإسهام في تحرير وإدارة تحرير عديد من الدوريات الرائعة التي تكحلت بها عين الثقافة العربية في منتصف القرن الماضي.

(3)

من بين سيرة حافلة وعامرة بالعمل الثقافي الجاد المنتج، ومؤلفات غاية في الرصانة والعمق والمعالجة الاستقصائية الدقيقة، وترجمات وافرة ونشاط لا يكل أو يمل في تلك المسارات، ربما لم يتسن لغير قليلين للغاية إنجازه على مدى رحلة عمرهم ومشوارهم في الحياة، يميِّز علي أدهم في هذه السيرة الحافلة جمعُه بين أمورٍ ودوائر وحقول جعلته حقّا مثالا للمثقف الموسوعي المؤمن بوحدة الثقافة الإنسانية وتداخلها وتشابكها.

ولكي أدلِّل على هذه الفكرة الجوهرية والحيوية في مقاربة فكرة «الثقافة» والمعرفة الإنسانية والإيمان بالتعددية والتنوع والاختلاف في إطار «وحدة إنسانية» شاملة تظلل هذه التعددية، وترعى هذا التنوع وتشجع عليه، أُلقي نظرة سريعة على بعض إنتاج علي أدهم الغزير الذي (أكرر) لم ينل أبدا ما يستحقه من ذيوع وانتشار رغم قيمته المعرفية الوافرة وصلاحيته التثقيفية الممتازة حتى وقتنا هذا.

ترك علي أدهم ما يزيد على الثلاثين كتابا، وعددا كبيرا جدا من المقالات والدراسات والبحوث التي لم تُجمع بين دفتي كتابٍ واحد حتى الآن، فضلا على مقدماتٍ ضافية لترجماتٍ قدم لها أو راجعها أو عرَّف بين يديها، وهي تشكِّل في مجموعها ذخيرة وافرة بل رائعة لأي مقبل أو ناهل من الثقافة الإنسانية على تعدد فروعها ومجالاتها (في الأدب، والنقد، والتاريخ، والفلسفة، والاجتماع، والمذاهب السياسية.. إلخ)

(4)

كان علي أدهم (1897-1981) ابن ثقافة عصر النهضة، والفورة الثقافية الكبرى التي شهدناها منذ ثورة 1919 وحتى نهاية الستينيات من القرن العشرين. مؤمنا -كما أشرنا- بوحدة الثقافة الإنسانية، وقد تجلى ذلك كأنصع ما يكون في تكوينه وإنتاجه على السواء،

فقد عكف علي أدهم على ثقافته العربية الإسلامية، فنهل منها وتشبع بها وألمّ بدقائقها حتى صار فعلا من كبار العارفين بهذه الثقافة، وبكل فروعها وميادينها قديما وحديثا، واتصل اتصالا مذهلا بكل مناحي التراث العربي والإسلامي، الديني منه واللغوي، التاريخي والفلسفي، الأدبي والنقدي..

وتوفر بهدوء ودأب واستقصاء على دائرة التاريخ الإسلامي العام والتراجم والسير وطبقات الرجال، فأصبح من المتبحرين العارفين المدققين بهذا المجال على وفرة إنتاجه وغزارته في التراث العربي والإسلامي، ما انعكس على إنتاجه الذي شكَّل أكثر من ثلثه تقريبا كتبا في التراجم والسير أتصور أنها من أعمق وأدق وأمتع ما كتب في عصرنا الحديث في هذه الدائرة على الإطلاق!

لو ألقينا نظرة سريعة على إنتاجه في هذه الدائرة؛ فسنجد له الآتي: كتاب «صقر قريش» وهو ثاني كتبه والسبب الرئيسي في ذيوع شهرته واحتفاء كبار مثقفي عصره به، فكتب عنه العقاد وطه حسين وزكي نجيب محمود وتوفيق الطويل، وغيرهم كثير جدا.

كان ظهور هذا الكتاب في خمسينيات القرن الماضي إعلانا عن تأليف مميز ومنهج واضح في كتابة التراجم العصرية لأعلام الفكر والسياسة والثقافة والتاريخ في التراث العربي والإسلامي، ربما لم يلتفت أحد قبل علي أدهم لهذه الشخصية المحورية في التاريخ الإسلامي العام وتاريخ بني أمية خاصة، وتاريخ دولة الإسلام في الأندلس على وجه الخصوص!

وربما لن تتسع المساحة لحديث مستفيض عن هذا الكتاب، وربما خصصنا له حلقة أخرى من حلقات (مرفأ قراءة)، لكن من المهم الإشارة إلى أن علي أدهم قد استوفى تمام الاستيفاء سيرة هذا المؤسس ورجل الدولة الذي تأسست على يديه خلافة زاهرة ودولة قوية فتية عامرة أثمرت أدبا وفكرا وثقافة وحضارة لما يقرب من القرون الأربعة!

(5)

وفي الدائرة ذاتها؛ دائرة التراجم والسير العربية والإسلامية، أخرج علي أدهم عدة كتب أرّخت أو ترجمت لأعلام كبار بقيمة «أبي جعفر المنصور» الخليفة العباسي القوي والمؤسس الفعلي لدولة بني العباس في أول عهدها، و«منصور الأندلس»، و«المعتمد بن عباد»، و«عبد الرحمن الناصر».. هذا فضلا عن تراجم أخرى مفردة نشرها كفصول في كتب مجمعة أخرى؛ مثل «تلاقي الأكفاء» الذي أدار فكرته على سرد قصة الصراع المثير بين عدد من أكبر الشخصيات في تاريخ الإنسانية..

قد يبدو اسم هذا الكتاب صعبا عند النظرة الأولى، ولكنه في حقيقته سهل يسير، فكلمة «التلاقي» أصلها من «اللقاء» ومعناها معروف، وفي اللغة العربية قاعدة تقول «إن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى» ولذلك فإن كلمة «التلاقي» تعنى اللقاء القوى.

والكتاب بكل فصوله من أمتع وأجمل مؤلفات علي أدهم، وفي هذه الفصول المختلفة ما يكاد يكون مسرحية قوية عنيفة يدور فيها الصراع الجبار بين اثنين، ولا بد أن ينتهي الأمر بهزيمة أحد الطرفين وانتصار الآخر، وهذا الصراع الكبير لا يدور فوق خشبة المسرح، ولكنه يدور في واقع الحياة وعلى صفحات التاريخ..