لقد وضعت عنوان هذا المقال في صيغة استفهامية؛ لأنني سبق أن انتقدت وضع الفلسفة في الجامعات الخليجية أو- بمعنى أدق- غيابها عن تلك الجامعات؛ وهو النقد الذي قدمته في دراسة بعنوان «محنة الفلسفة والعلوم الإنسانية في الجامعات الخليجية»، منشورة أكثر من مرة في «مجلة نزوى» وفي أحد كتبي عن «أزمة الإبداع في ثقافتنا المعاصرة». وقد كان نقدي هذا مؤسسًا على معايشة وخبرة شخصية أثارت شجوني وعبرت عنها في سيرتي الذاتية الأولى التي ظهرت مؤخرًا في صورتها المنقَّحة بعنوان «نشيج على خليج: حكايات وافد على الخليج العربي». أول خبرتي بتدريس الفلسفة في الخليج كانت في جامعة السلطان قابوس بعُمان، حيث كنت من الجيل الأول الذي خدم في تلك الجامعة الفتية آنذاك. كانت التجربة رائعة؛ إذ كان هناك قسمان للفلسفة لا قسم واحد: أحدهما في كلية الآداب، والآخر في كلية التربية، فضلًا عن تدريس الفلسفة لطلبة الأقسام العلمية الأخرى مثل: قسم الإعلام؛ وقد تخرج هؤلاء الطلبة وشغلوا أرقى المناصب في الدولة، وما زلت على ود واتصال ببعضهم، بل فاجأني أحدهم بالاتصال بي بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا، ليذكرني بنفسه. ما كان مبعث أساي أنه بعد عودتي إلى مصر بسنوات أتاني نبأ إغلاق قسم الفلسفة بالجامعة وتحويله إلى مجرد قسم خدمي، أي قسم يقوم على تدريس بعض المقررات الفلسفية المحدودة في أقسام أخرى. حدث الأمر نفسه في جامعة الإمارات، فقد عايشت تجربة تدريس الفلسفة بقسم الفلسفة بكلية الآداب وفي أقسام أخرى، ولكن هذا القسم تم إغلاقه فيما بعد. كل ذلك بسبب تصور خاطئ يسيء فهم دور الفلسفة في الثقافة والمعرفة الإنسانية بوجه عام، وليس فقط في مجال العلوم الإنسانية؛ بل يسيء فهم فلسفة التعليم والغاية منه، ويتصور أن دور التعليم هو تخريج موظفين يعملون في قطاعات الدولة الخدمية! فهذا التصور لفلسفة التعليم لا وجود له حتى في أكثر الدول تقدمًا، وبعض هذه الدول تُوجد فيها كليات للفلسفة وليس مجرد أقسام علمية! كان هذا كله مبعث استيائي وحسرتي.
ولكني بعد مرور قرابة عشرين سنة أرى تحولًا يجري على وضع الفلسفة في الخليج، حتى إن كان تحولًا يحدث على استحياء، وفي مواضع معينة من الخليج تبدو الآن كنقاط مضيئة على خريطة المعرفة والثقافة. يحدث هذا في دولة الإمارات من خلال إنشاء قسم يُعنى بالفلسفة، فضلًا عن مركز للدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد؛ ومن خلال إنشاء بيت للفلسفة في إمارة الفجيرة يقوم بدور مهم ومتميز، وقد تشرفت بالانضمام إليه؛ إذ يضم نخبة متميزة من أساتذة الفلسفة في العالم العربي، وهو لا يكتفي بإقامة المؤتمرات والندوات الفلسفية، بل يُعنى أيضًا بنشر الكتابات الفلسفية التي يمكن أن تُسهم في إثراء الثقافة والمعرفة في المجتمع الإماراتي والعربي عمومًا. وقد أقدم هذا البيت مؤخرًا على مشروع جريء لإصدار معجم فلسفي يحاول أن يكون مختلفًا عن غيره من المعاجم العربية التي تسير في فلك المعاجم الفلسفية الأجنبية، وقد صدر بالفعل الجزء الأول من هذا المعجم منذ شهر تقريبًا. ومهما كانت هناك من ملاحظات شكلية على هذا المعجم، فلا بد من الاعتراف بأن هذا المعجم هو محاولة جادة غير مسبوقة ومختلفة عن غيرها، ويمكن تطويرها والتأسيس عليها. ولا ينبغي أن يفوتنا هنا أيضًا الدور الذي تقوم به مؤسسة «كلمة» في نشر الثقافة والمعرفة الفلسفية ترجمةً وتأليفًا. وفي هذا الصدد أذكر أيضًا مشروع دائرة المعارف العربية القطرية «أرابيكا» Arabica الذي يرعاه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدولة قطر، وساهمتُ فيه بكتابة مادة عن عبدالرحمن بدوي، وإن كانت هذه الموسوعة في طور الإعداد.
وأود أيضًا أن أذكر في هذا الصدد ما جرى مؤخرًا في السعودية، إذ نشأت مؤسسات للنشر مثل: مؤسسة «معنى»، تهتم بترجمة ونشر الكتابات الفلسفية الرصينة، وقد ساهمتُ في ذلك أيضًا بترجمة كتاب الفيلسوف بيتر سينجر بعنوان «الحياة التي يمكنك إنقاذها». وقد علمت مؤخرًا أن هذه المؤسسة الواعدة تعاني من مشاكل لوجستية أرجو تذليلها قريبًا. وما أثار دهشتي وإعجابي أيضًا أنني سمعت بوجود «جمعية فلسفية» في السعودية. نعم، يحدث هذا الآن في السعودية بعد أن كان اسم الفلسفة محظورًا فيها، وهو يدل على أن هناك تحولًا ثقافيًّا بالغ الأهمية في دول الخليج.
ولا شك في أن هذا التحول كان نتاجًا لتحول في رؤية القيادات السياسية للبلاد، التي تسعى إلى حالة من الانفتاح على أفق المعرفة الراهنة مع الحفاظ على موروث القيم والثقافة. وهذا تحول محمود، ولكنه لا يمكن أن يحقق الغاية المرجوة منه ما لم يتحقق على المستوى الرسمي، أعني ما لم يتحقق حضوره في الجامعات والمراكز البحثية الحكومية وفي الفضاء العام أيضًا، وما لم تكن هناك قناعة حقيقية بأن الفلسفة هي الأساس المعرفي الذي يقوم عليه كل إبداع في الفنون والعلوم الإنسانية: فلا أدب، ولا فن عمومًا، ولا ثقافة أو فكر من دون فلسفة. والأهم من ذلك أن الفلسفة هي حائط الصد الأول في مواجهة الأفكار والنزعات الدينية المتطرفة المتأصلة في بلداننا.
د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة
ولكني بعد مرور قرابة عشرين سنة أرى تحولًا يجري على وضع الفلسفة في الخليج، حتى إن كان تحولًا يحدث على استحياء، وفي مواضع معينة من الخليج تبدو الآن كنقاط مضيئة على خريطة المعرفة والثقافة. يحدث هذا في دولة الإمارات من خلال إنشاء قسم يُعنى بالفلسفة، فضلًا عن مركز للدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد؛ ومن خلال إنشاء بيت للفلسفة في إمارة الفجيرة يقوم بدور مهم ومتميز، وقد تشرفت بالانضمام إليه؛ إذ يضم نخبة متميزة من أساتذة الفلسفة في العالم العربي، وهو لا يكتفي بإقامة المؤتمرات والندوات الفلسفية، بل يُعنى أيضًا بنشر الكتابات الفلسفية التي يمكن أن تُسهم في إثراء الثقافة والمعرفة في المجتمع الإماراتي والعربي عمومًا. وقد أقدم هذا البيت مؤخرًا على مشروع جريء لإصدار معجم فلسفي يحاول أن يكون مختلفًا عن غيره من المعاجم العربية التي تسير في فلك المعاجم الفلسفية الأجنبية، وقد صدر بالفعل الجزء الأول من هذا المعجم منذ شهر تقريبًا. ومهما كانت هناك من ملاحظات شكلية على هذا المعجم، فلا بد من الاعتراف بأن هذا المعجم هو محاولة جادة غير مسبوقة ومختلفة عن غيرها، ويمكن تطويرها والتأسيس عليها. ولا ينبغي أن يفوتنا هنا أيضًا الدور الذي تقوم به مؤسسة «كلمة» في نشر الثقافة والمعرفة الفلسفية ترجمةً وتأليفًا. وفي هذا الصدد أذكر أيضًا مشروع دائرة المعارف العربية القطرية «أرابيكا» Arabica الذي يرعاه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدولة قطر، وساهمتُ فيه بكتابة مادة عن عبدالرحمن بدوي، وإن كانت هذه الموسوعة في طور الإعداد.
وأود أيضًا أن أذكر في هذا الصدد ما جرى مؤخرًا في السعودية، إذ نشأت مؤسسات للنشر مثل: مؤسسة «معنى»، تهتم بترجمة ونشر الكتابات الفلسفية الرصينة، وقد ساهمتُ في ذلك أيضًا بترجمة كتاب الفيلسوف بيتر سينجر بعنوان «الحياة التي يمكنك إنقاذها». وقد علمت مؤخرًا أن هذه المؤسسة الواعدة تعاني من مشاكل لوجستية أرجو تذليلها قريبًا. وما أثار دهشتي وإعجابي أيضًا أنني سمعت بوجود «جمعية فلسفية» في السعودية. نعم، يحدث هذا الآن في السعودية بعد أن كان اسم الفلسفة محظورًا فيها، وهو يدل على أن هناك تحولًا ثقافيًّا بالغ الأهمية في دول الخليج.
ولا شك في أن هذا التحول كان نتاجًا لتحول في رؤية القيادات السياسية للبلاد، التي تسعى إلى حالة من الانفتاح على أفق المعرفة الراهنة مع الحفاظ على موروث القيم والثقافة. وهذا تحول محمود، ولكنه لا يمكن أن يحقق الغاية المرجوة منه ما لم يتحقق على المستوى الرسمي، أعني ما لم يتحقق حضوره في الجامعات والمراكز البحثية الحكومية وفي الفضاء العام أيضًا، وما لم تكن هناك قناعة حقيقية بأن الفلسفة هي الأساس المعرفي الذي يقوم عليه كل إبداع في الفنون والعلوم الإنسانية: فلا أدب، ولا فن عمومًا، ولا ثقافة أو فكر من دون فلسفة. والأهم من ذلك أن الفلسفة هي حائط الصد الأول في مواجهة الأفكار والنزعات الدينية المتطرفة المتأصلة في بلداننا.
د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة