إيهاب الملاح

(1)

مناسبتان لم أكن أفوتهما أبدًا منذ كنت في العاشرة (أو قبلها بقليل)، أحتفل بهما على طريقتي الخاصة وبطقسي المخصوص المقرر، أولاهما حلول شهر رمضان المبارك، وقد كتبت كثيرًا حول ما أسميته نوستالجيا «رمضان المعرفي»، وما كان يصاحب حلول الشهر الكريم من رغبة مضاعفة ومساحة وقت مخصوصة لنوعية محددة من القراءات والسياحات المعرفية المرتبطة بالتراث الروحي والتصوف والتاريخ والتراث الإسلامي، وما اتصل بالشهر الكريم من لطائف وقطايف ثقافية ومعرفية مبهجة.

أما المناسبة الثانية؛ فهي يوم الوقوف على جبل عرفات، يوم الحج الأعظم وأداء المنسك المقدس. المناسبة التي تحتفل بها الأمة الإسلامية كلها بأطهر الرحلات وأقدسها التي يتوجه فيها الملايين إلى مكة المكرمة، والمدينة المنورة، لأداء شعائر الحج، قبل أن يتشارك المسلمون جميعًا الاحتفال بعيد الأضحى المبارك.

كان الاحتفال هنا (وأقصد احتفالي الشخصي أو طقسي الخاص أو التقليد الذي ما زلت أتبعه حتى وقتنا هذا) يمتد لثلاثة أو أربعة أيام قبل وقفة عيد الأضحى المبارك، كنت أستعدُّ روحيا وذهنيا بإعداد نخبة منتقاة من كتب «السيرة النبوية المشرفة»، وأحدد مواضع بعينها أقرأها وأعيد قراءتها وأحاول أن أنفذ إلى ما وراء السطور إلى المعاني والدلالات الكامنة والدروس المستجلاة من هذه السيرة العطرة، وخاصة ما يتصل بالسنوات الأخيرة في حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وبالأخص فتح مكة في السنة العاشرة من الهجرة وأداء النبي صلى الله عليه وسلم لحجة الوداع، وطواف الوداع، وإلقائه خطبة الوداع التي كدت أحفظها من كثرة ما قرأتها ورددتها، وعدت إليها.

(2)

لكن قبل الوصول إلى هذه المرحلة -التي ربما كانت على أعتاب النضج- سبقتها مرحلة أخرى أقرب إلى البراءة والبكارة منها إلى الوعي والنضج والاختيار المحدد والانتقاء المقصود! مرحلة تعود إلى ذكرياتٍ دفينة في قلبي عن سنوات قراءاتي الأولى؛ عن تلك اللحظات التي كنا نُعاين فيها سحر التعرف، ولذة الاكتشاف، والانتقال إلى دنيا غير الدنيا.

فبالتوازي مع قراءة كتب السيرة أو فصول منها (قديمة كانت أو تراثية أم حديثة ومعاصرة على السواء) كنت أعيد مشاهدة بعض الأفلام والمسلسلات التي تسرد قصة الإسلام، ورحلة الإسلام منذ الجاهلية وحتى وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (أشهرها على الإطلاق فيلم الرسالة من إخراج الراحل مصطفى العقاد، وإن كانت أفلام «هجرة الرسول»، و«فجر الإسلام»، و«بلال مؤذن الرسول»، و«الشيماء».. كل تلك الأفلام كانت أسبق في المشاهدة والتأثير من فيلم «الرسالة»)

ولا أنكر أن الدراما الدينية التاريخية «المصرية تحديدًا» قد لعبت دورا لا ينكر بل شديد التأثير في ترسيخ بعض المعاني والقيم الدينية السامية وساعدتنا كذلك (أي أبناء جيلي من مواليد النصف الثاني من السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات) على تلمس معرفة أولى ببعض الحوادث الكبرى والشخصيات البارزة في فجر الدعوة الإسلامية، وما لاقاه الرسول من عنت ومشقة وأذى في سبيل الدعوة ونشر الإسلام.

لا أنسى أبدًا المسلسل الديني «لا إلا الله» بأجزائه الأربعة، و«محمد رسول الله بأجزائه الخمسة (وكلا المسلسلين من كتابة أمينة الصاوي وإخراج أحمد طنطاوي) فضلًا على مسلسل «الكعبة المشرفة».. كل هذه المسلسلات التي بدأ عرضها في نهايات السبعينيات، واستمر عرضها في عقد الثمانينيات بأكمله، كانت النافذة الأولى -لي ولأبناء جيلي كله- لانطلاق الخيال إلى أبعد مدى ممكن في تصور مسيرة أنبياء الله الكرام منذ خلق آدم عليه السلام، ومرورا بأصحاب الرسالات السماوية، ووصولًا إلى الدعوة الإسلامية الإنسانية، وعظمة الرسول الكريم والصحابة الأوَل..

(3)

مثَّلت الدراما (المسلسلات والأفلام) عتبة أولى قبل الانتقال إلى مرحلة القراءة (سواء الكتب المصورة منها أم الكتب الكاملة الموجهة للبالغين والمراحل العمرية فوق العشرين)، وفي العموم لم تكن المسافة بين الاثنين كبيرة ولا متسعة، فقد كان أول ما صافح العين من كتب بمعنى قراءة كتب غير أدبية وغير خيالية وغير مصورة كانت الكتب الدينية أو القصص الديني بأشكاله وأحجامه المختلفة (قصص الأنبياء، وقصص القرآن، السيرة النبوية للأطفال والناشئين، وغزوات الرسول.. إلخ)، وبالجملة فإن جلّ ما قرأت -آنذاك- كان كتبًا دينية بحكم الاتجاه السائد بل المهيمن آنذاك في الثقافة المصرية والعربية، خلال ثمانينيات القرن الماضي وربما تسعينياته، وهي حقبة لم يكتب عنها بعد ما تستحقه من تأريخ وتحليل ودرس، ليس فقط في مصر إنما في العالم العربي كله، فيما أظن.

لا أنسى الشغف السحري الذي كنت أشاهد به حلقات مسلسل (لا إله إلا الله) ثم (محمد رسول الله) و(الكعبة المشرفة)، وكنت أسرح بخيالي البكر في تفاصيل «قصص الأنبياء» وحكاياتهم وكفاحهم الإنساني النبيل في سبيل الدعوة إلى ما كلفوا به من تبليغه؛ وكدت أحفظ قصص الأنبياء وقصص القرآن من كثرة ما كنت أقرأها أو أقرأ عنها أو أشاهد ما يمثلها بصريا من أفلام كارتون أو ما شابه.

(4)

وتحول الشغف البصري في تلك الفترة إلى شغف قرائي مضاعف؛ لأنني اكتشفت -أو هكذا تصورت- أن ما أراه على الشاشة الصغيرة هو الذي أقرأه بعيني من حروف وكلمات أراها أمامي في السلسلة التي اشتراها لي والدي بعنوان (قصص الأنبياء)، وسلسلة أخرى بعنوان (السيرة النبوية)، وثالثة بعنوان (العرب في أوروبا).. إلخ. ولما كبرت قليلًا عرفت أن مؤلف كل هذه الأعمال كاتب مصري كان صديقا لنجيب محفوظ في بدايات الكتابة، وأن اسمه هو عبد الحميد جودة السحار، الشقيق الأكبر للناشر الشهير سعيد جودة السحار؛ مؤسس مكتبة مصر ودار مصر للطباعة والنشر!

وأزعم أن هذه المجموعة الكاملة من القصص المبسطة التي لم تكن الواحدة منها تزيد على عشرين صفحة من القطع الأكبر من الصغير، وحروفها مكبّرة ومشكولة، كانت هي نقطة البدء والانطلاق لقراءاتٍ أوسع وأكبر وأكثر عمقًا وتخصصًا ودقة في الثقافة الإسلامية عامة، والتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية خاصة.

وبالتالي لم يكن مستغربًا أبدا أن أنهي -على سبيل المثال- قراءة سلسلة (السيرة النبوية) التي ألفها المرحوم الدكتور أحمد شلبي، وأصدرها في ستة عشر جزءًا، وأن أتم كذلك قراءة الأجزاء العشرة الضخمة المكونة لموسوعته الكبرى عن التاريخ الإسلامي في سنوات لاحقة، لكن هذه حكاية أخرى وتفاصيل أخرى يمكن أن نرويها لاحقًا..

(5)

عمومًا، ما زلتُ -وأنا على مشارف الخمسين- أستنشق عطر السيرة النبوية وأتنسم عبيرها وجمالها، وأستدعي صورًا ومشاهد من أيام الصبا الباكرة في مقاربة نصوصها، والتوقف أمامها وإعادة قراءتها، ولا أزال أذكر رغبتي -التي تولدت بدافع هذه القراءات- في أن يكون لي ذات يومٍ إسهام ولو بسيط في هذا المجال، وقررت -حينها- أن أقرأ كلَّ ما كتب عن السيرة النبوية من كتابات معاصرة أولًا، قبل أن أقرأ مصادرها التراثية الأصيلة، من أول «سيرة ابن إسحاق» و«تهذيبها لابن هشام» وصولًا إلى الشروحات الضخمة على كليهما، ولعل من أشهرها كتاب «الروض الأُنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام»، ويسمى اختصارًا «الروضُ الأُنُفُ» لمؤلفه أبو القاسم السهيلي (508هـ - 1114م/581هـ - 1185م).

كما أذكر جيدًا تتبعي لمجموعات السيرة النبوية المستخلصة من كتب التواريخ العامة والتفسير والحديث، ومنها على سبيل المثال «السيرة النبوية في تاريخ الطبري»، و«السيرة النبوية في تاريخ الكامل لابن الأثير»، وما سار على مثالهما، فكانت الصحبة عامرة والتفاصيل حاضرة والمعايشة كاملة، وخلصتُ إلى أن من أراد أن يتعرف على إنسانية الإسلام وقيمه وسموه، فإنه سيراها مجسدة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم..

وكل عام وحضراتكم بخير وسلام.