حجب دوي الانفجارات وهدير الطائرات في الحرب الاقتلاعية التطهيرية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبرلـ«طوفان الأقصى» وسيل التكهنات التي لا تهدأ بشأن مستقبلها، المخاطر التهويدية التي تلاطمها مدينة القدس المحتلة، ويرتفع منسوبها هذه الأيام، في موسم الاقتحامات لأولى القبلتين، الأرض الأم بالنسبة للفلسطينيين.

فما أن شبت عاصفة النار التي ضربت غزة وأخذت تلفح خانيونس ورفح ودير البلح، كبركان انفجر وألقى بحممه الملتهبة على سائر أرجاء القطاع، حتى أطفأت كل عناوين الاصطدام مع جيش الاحتلال، إذ بالكاد يجد المراقبون مكانًا لاستذكار مشاهد الاقتحام شبه اليومية للمسجد الأقصى المبارك، تبعًا لمقتضيات مواكبة العدوان الاقتلاعي التطهيري في قطاع غزة، الذي بدا كمختبر لقياس توازن الردع، وإعادة ضبط قواعد الاشتباك، بين المقاومة الفلسطينية وجيش الكيان.

ربما كان وهج وقائع الميدان على أرض غزة، أقوى من كل العناوين الفلسطينية الأخرى، لا سيما في ضوء اتساع رقعة العدوان، وتسارع وتيرة أعداد الضحايا من الشهداء والجرحى والمفقودين، لكن هذا لا يعني أن جبهة القدس كانت هادئة.

إذ تاريخيًّا كانت القدس ولا تزال شرارة المقاومة الفلسطينية، من مجزرة الأقصى إبان الانتفاضة الأولى عام 1990، والتي تصدى خلالها أهل القدس لجماعة الهيكل المزعوم، وافتدوا أرض الإسراء والمعراج بالدماء والأرواح، إلى هبة النفق عام 1996، والتي جاءت ردًّا على حفر الأنفاق تحت أساسات المسجد الأقصى المبارك، إلى الانتفاضة الثانية المعروفة بـ«انتفاضة الأقصى» عام 2000، والتي اندلعت كرد حتمي على تدنيس رئيس وزراء الاحتلال آنذاك أريئيل شارون لباحات المسجد الأقصى، وتاليًا معركة البوابات الإلكترونية على أبواب الأقصى المبارك عام 2017، ولاحقًا هبة مصلى باب الرحمة عام 2018، وليس انتهاء بـ«طوفان الأقصى» الذي أبقى على جبهة القدس مشتعلة، وإن كان وهج النار في غزة. فإلى أين تتجه جبهة القدس؟. وأي معادلة ستحكم المدينة المقدسة فيما لو وضعت الحرب أوزارها في غزة؟.. أسئلة ازدادت توهجًا في الأيام الأخيرة، مع بدء موسم الأعياد اليهودية، لتمضي القدس على حبل مشدود، بل إنه أقرب إلى خيط رفيع يفصلها عن الوقوع في الوعاء المغلي، خصوصًا أن مصادر متعددة، توقعت أن يكون خروج جبهة القدس عن ضوابطها أمر مرجح في المرحلة المقبلة، وأقله في 15 مايو الجاري الذي يصادف الذكرى الـ76 للنكبة الفلسطينية، و«عيد الاستقلال» لدولة الكيان «حسب التسمية الإسرائيلية».

الاحتلال لا ينفك يرفع وتيرة تهديداته بشأن القدس المحتلة، وفي ذكرى النكبة (15 مايو) تستعد منظمات استيطانية عدة لرفع 500 علم لكيان الاحتلال في ساحات المسجد الأقصى المبارك في هذه المناسبة، وعليه، ثمة غبار كثيف يتصاعد في سماء القدس، معطوفًا على ما صرح به مستوطنون متطرفون من نيتهم تحريك وليمة النار كل تطال مدينة القدس وأخواتها في الضفة الغربية، فيما يبدو ترجمة سريعة لتهديدات 15 مايو وما بعده.

العارفين بخفايا الأحداث في القدس، اعتبروا المدينة المقدسة كأنها في فوهة بركان، ينذر بأن يجرف صمتها، خصوصًا وأن عدة عمليات فدائية دشنها مقاومون فلسطينيون في القدس منذ 7 أكتوبر، ولم يتردد صداها كثيرًا، ذلك أن ميدان المواجهة كان مزدحمًا بالأخبار العاجلة حول الأحداث المتسارعة في قطاع غزة، فهل تسابق القدس ساعة الصفر، ولحظة الانفجار، التي تبدو وشيكة، ولن يكون بعدها كما قبلها؟.

يجيب الكاتب والباحث السياسي رائد عبد الله في تصريحات لـ«عمان» بأن مدينة القدس بدت في الأيام الأخيرة كـ«طنجرة ضغط» تزداد سخونتها كلما اقتربنا من الأعياد اليهودية، كما أن المدينة تبدو على الدوام وكأنها تسير فوق جمر المحرقة في قطاع غزة، فلم يوقف الاحتلال استهداف المسجد الأقصى، ومحاولات تهويد القدس وطمس معالمها التاريخية، أو محاولات تهجير المقدسيين في أحياء الشيخ جراح وسلوان وغيرها، مشددًا على أن مدينة القدس تتعرض لهجمة تهويدية محمومة من قبل الكيان الصهيوني، الذي يستغل الحرب الدموية المستمرة على قطاع غزة، للمضي قدمًا في سياساته لتغيير معالم المدينة، وتهويدها تمهيدًا لابتلاعها.

ويواصل «جيش الاحتلال عدوانه على المسجد الأقصى المبارك ومحاولات المساس به من خلال الاقتحامات اليومية التي تنفذها عصابات المستوطنين بحماية جيش الاحتلال، ويمعن في استهدافه لأحياء المدينة ومخططات تهجير المقدسيين من منازلهم كما يجري في الشيخ جراح وسلوان، مستغلًا انشغال العالم بعدوانه الوحشي على قطاع غزة، ما ينذر بتصعيد كبير ربما يتدحرج إلى مواجهة جديدة تكون القدس عنوانها العريض». واستنادًا إلى خطيب المسجد الأقصى، رئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس الشيخ عكرمة صبري، فإن الاقتحامات للمسجد الأقصى المبارك التي تنفذها قوات الاحتلال وعصابات المستوطنين مستمرة على مدار الساعة، وتكثر هذه الأيام، حيث تتزامن مع موسم الأعياد اليهودية، فيتم إغلاق المسجد وتفريغه من المصلين ومنع الفلسطينيين من الوصول إليه، تحت حجج وذرائع واهية، لافتًا إلى أن دعوات المنظمات الاستيطانية وفي مقدمتها جماعة «أمناء الهيكل» لا يكاد يخلو منها يوم. وأبان صبري في حديث لـ«عمان»: «هذه الاقتحامات التي تنطلق من باب المغاربة في المسجد الأقصى، فيما أعين العالم على غزة، وكيفية نجاتها من الحرب الاجتثاثية المستعرة عليها منذ سبعة أشهر، سيتصدى لها أهل القدس من منطلق العقيدة ووجوب حماية القدس ومقدساتها.. المقدسيون يستشعرون الخطر الكبير المحدق بمدينتهم، والتهديدات الإسرائيلية التي بدأ يعلو صوتها، مع اقتراب الذكرى الـ76 للنكبة الفلسطينية التي يحتفلون بها كذكرى لـ(الاستقلال) تزيد من حبس أنفاسهم.. اللعب بالنار يتواصل في القدس، وممارسات الاحتلال قد تفجر جبهتها في أي لحظة».

وأيًّا كانت مشاهد الحرب والدمار في قطاع غزة، فلا يمكن وفق مراقبين حرف الأنظار عن أولى القبلتين، وصحيح أن الهدف الأساسي الذي ثار لأجله «طوفان الأقصى» لم يتحقق بعد لجهة وقف اقتحامات المسجد الأقصى، وفك الحصار عنه، ووقف معاول الهدم التي تحفر تحت أساساته، إلا أن أبناء القدس لا يخشون استدراجهم إلى «الطوفان» وتبقى جبهتهم مفتوحة على كل الاحتمالات، وشعارهم: «عيوننا على غزة، لكن قلوبنا معلقة بالقدس».