قد لا نتجاوز القول إذا قلنا أن الحراك الشعبي من شباب الجامعات الغربية، وانضمام بعض الأكاديميين فيها كمساندين لها، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، يعطي الدلالة الواضحة التي لا تقبل الجدل، أن هناك تغيرا ضخما فكريًا وسياسيًا في رؤية الجيل الجديدـ من الشباب الغربي عمومًا، وهو الجيل الذي وُلد ما بعد القرن الحادي والعشرين، الذي لم يعد يهتم أو لم يعرف ما يُطرح فكر الخوف من الإسلام (الفوبيا)، التي روّج لها اللوبي الصهيوني في الغرب من جانب، أو ما بثه الاستشراق غير المنصف منذ أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين من معارف وتصورات وتهويمات عن العرب والمسلمين. وقد أشرت في هذا الجانب من الفكر الاستشراقي في كتابي (الاستشراق بين الإنصاف والإجحاف)، لذلك أصبح هذا الجيل الجديد متحررًا من تلك الكتابات والرؤى المختزلة غير الصحيحة في مجملها، وهو ما وضعه الفكر الاستشراقي الذي سبق الحملة الاستعمارية وطرح رؤية في العادات والأفكار والمسالك والطرق، وغيرها، وهم الأغلب ممن كتب عن العرب والمسلمين بشكل أوسع. لكن هذا الجيل الآن من شباب الغرب، أصبح يطلع على الحقائق من القنوات المحايدة التي تبثها، والأهم من ذلك الاطلاع على وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من التقنيات الحديثة، التي كان لها الدور الأهم في كشف ما يجري في مدينة غزة في ظل هذه الحرب المدمرة، تلك المدينة التي تحترق، ويباد عشرات الآف من المواطنين الفلسطينيين دون ذنب فعلوه، مع التهجير والطرد وتدمير المساكن على رؤوسهم من نساء وأطفال وشيوخ، لا دخل لهم في ما يجري من قتال بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل الذين يطالبون بإجلاء المحتل وخروجه من أرضهم، ليعيشوا أحرارًا مثل بقية الشعوب الأخرى في ظل الحرية والكرامة الإنسانية. وبدلًا من الحصول على حقوقهم المشروعة، بموجب القرارات الدولية، تجري فيهم إبادة جماعية ممنهجة، منذ السابع منذ أكتوبر العام الماضي وحتى الآن، مع أن الإعلام الغربي الرسمي يتجاهل ما يجري، أو يعطي قراءة لا تعطي الحقيقة الكاملة والواضحة لما يحدث، بل وقامت دول غربية، مثل الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، بالدعم السياسي والعسكري لهذا الكيان المحتل، الذي يُبيد شعبا بالقوة المسلحة، ويطردهم من أرضهم ويهجرهم من بيوتهم، بحجة الدفاع عن النفس؟!.

فكيف يجتمع الاحتلال والاستيلاء على حقوق شعب مطرود من أرضه، وألّا يبقى حرًا في أرضه، مثل شعوب العالم، ويعيش حياة إنسانية كريمة كاملة وخالية من الاحتلال، ويقيم دولته المستقلة مع كل القوى الفلسطينية ـ بما فيها حركة حماس ـ إذ أعلنوا استعدادهم بإلقاء السلاح، عندما تقيم له هذه الدولة على أرضهم المحتلة، من هنا فإن شباب الجامعات في الولايات المتحدة، وبعض الدول الغربية، خاصة الدول الكبرى وفق التقسيم السياسي للدول في الأمم المتحدة، فهؤلاء الشباب في حراكهم السياسي المتواصل، لم يقبلوا هذه الازدواجية في المعايير الرسمية تجاه المطالب العادلة للفلسطينيين، ووقف الحرب عليهم، ومعاقبة من قام بالإبادة الجماعية، من مسؤولين وقيادات عسكرية، فعندما يشاهدون هذه الفظائع من الإبادة الجماعية والقتل يوميا على السكان، فإنهم لم يعد يقبلوا ما تقوله وسائل الإعلام الموجة التي روجّت للمقولة الشائعة (حق إسرائيل في الدفاع عن النفس)، التي أصحبت ممجوجة من كثرة تكرارها، من بعض السياسيين والإعلاميين وبعض الفلاسفة الذين أصبحوا مثل أي إنسان بسيط وساذج يصدق ما يقال دون البحث والتقصي لما يجري في غزة، فيردد مقولة الصهاينة في الدفاع عن النفس!، ويتجاهل حقائق احتلال فلسطين، وما جرى لهذا الشعب من مظالم منذ 76 عامًا.

وعندما اشتد هذا الحراك الشعبي في عشرات الجامعات الأمريكية والغربية وانتشارها في جامعات أخرى، حيث أثّر في دول غربية أخرى من الجامعات في فرنسا وأسبانيا وكندا، وربما نسمع في الأيام المقبلة عن جامعات غربية أخرى، تنتهج نفس المطالب بوقف الحرب في غزة ووقف الإبادة المستمرة، وعدم دعم إسرائيل عسكريًا وسياسيًا من قبل هذه الدول الغربية، والتحرك لمحاسبة المجرمين في محكمة العدل الدولية، بموجب ما تم إثباته من جرائم، وجاءت من منظمات غربية نفسها، حتى لا يقال إنها منحازة للعرب أو المسلمين، أو غيرها من المبررات التي قد تحاول هذه الدول التنصل من أحكام الإبادة الجماعية، لذلك تحولت هذه المظاهرات والحراك الشعبي من شباب الجامعات الغربية، إلى قيامهم باعتصام داخلي ثابت في داخل أسوار الجامعات، وبعضها أمام قبالة مبنى الجامعات كاحتجاج على ما يجري والمطالبة بوقف الحرب، وقد تعرض المئات منهم للضرب وبعضهم للسجن، بهدف إخلاء اعتصامهم المستمر. لذلك لجأت السلطات المحلية في الولايات المتحدة وألمانيا إلى تسمية قديمة وبغيضة، كانت تنسب إلى العصر النازي الألماني في فترة حكم هتلر، الذي زُعم أنه عمل محرقة لليهود، لذلك قام بعض السياسيين أو حكام بعض الولايات إلى اتهام مطالب هؤلاء الشباب الجامعي، بوقف الحرب في غزة ومحاسبة من قاموا بالإبادة الجماعية، بأنهم (معادون للسامية)!! وهذه تهمة غريبة لا يقبلها العقل، ولا يستسيغها المنطق، وهذا جزء من التعبير الحر ونوجه إنسانيا لوقف القتل والإبادات المستمرة.

في كتابه مرآة الغرب المنكسرة اعتبر د.حسن أوريد بأن الغرب تحولت فيه القيم إلى سلعة وعلى هذا المنوال، وفي الآونة الأخيرة، ظهرت كـتابات نقدية غربية، استنطقت الحال كما في كتاب (ما بعد الإنسان)، للكاتبة الأسترالية الإيطالية «روزي بريدوتي»، والتي أثارت الجدل بعد نقاشاتها حول دور النخبة السياسية الغربية في الترويج للنظريات الرأسمالية التي وصفتها بـ«المتوحشة». لذلك فإن ما يجري ويطرح من هذه التهم للمطالبين بوقف الحرب، كأنها تعني أن من حق الصهاينة المحتلين، أن يفعلوا ما يريدون، دون أن يتم نقدهم أو اتهامهم، أو المطالبة بإقامة القانون عليهم، بموجب القوانين التي وضعتها المنظمات الدولية، وصاغها الغرب أنفسهم، -فيما الحربان الكونيتان- وليس غيره من طَرَح هذه القوانين؟ فلمَ التهرب منها، ومن تطبيقها؟، وهذه الرؤية تبعث على الضحك أكثر مما تدعو للبكاء! فهل هذا الحراك الشعبي من شباب الجامعات في الغرب، أن يغير مواقف الدول الغربية في سياساتها غير العادلة تجاه القضية الفلسطينية؟ أو أن يدفعها إلى نهج مغاير لما سارت عليه في مواقفها في مسألة الاحتلال الإسرائيلي البغيض وإنهاء الصراع بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة؟. لا نستطيع التكهن بما يحدث، لكن يبدو أن الظروف لم تعد تجري لصالح إسرائيل، بعد جرائم الإبادة الجماعية وما تبعها من فظائع لا تقبلها الإنسانية.