استمرار مجلة نزوى في مرحلة أفول الكثير من المجلات المهمّة إنجازٌ في حدّ ذاته -

لم يعد الجنس الأدبيُ يهمّني، بقدر التعبير عمّا أريد -

بيروت تظلّ مدينة حرة رغم الحروب التي التهمتها -

أكملت مجلة نزوى عقدها الثالث، وسط أمواج رقمية عاتية تحط المجلة في الميناء الثلاثين، مقدمة تأثيرًا ثقافيًا وقيمة عالية. وصف رئيس تحريرها سعادة سيف الرحبي الثلاثين (الثلاثة عقودٍ) بالمُفعمة بالأحداث المفصليّة عربيًّا، وعالميًّا، بالمنحى السيئ والسلبيّ أمام انعطافات العالم وتحوّلاته التقنيّة والفكريّة والسياسيّة، وإن بقيتْ المركزية الحضارية نفسها مع إزاحاتٍ غير جوهريّة في المشهد الكونيّ، ويقول: «إذ أحدّق في مرآة العالم، المُقلق حتمًا، فالذاتيّ ربما أكثر انعكاسًا له، وربّما أكثر إقلاقًا وتوتّرًا؛ كيف مرّت هذه السنين من عمر الفرد الحالم بعالمٍ أفضل، أكثر عدلًا وجمالًا، أمام بشاعة ما نشاهد ونعيش بشكل يوميّ ولحظيّ من استباحاتٍ وإباداتٍ، وانعدام للحدّ الأدنى من القيم الإنسانيّة والقانونيّة التي درج البشرُ على تمييزِ ذاتهم بها عن عالم الغابِ والعصور الحيوانيّة والوحشيّة».

وتابع: «التّحديق في مرآة الذات والزمن والصيرورة أكثر قسوة ربّما، الجسد الذي يأخذ في الضعف والهبوط، الوجوه والأصدقاء، عشرة العمر الذين أخذوا في الرّحيل والغياب تباعًا جرّاء الأوبئة القتّالة، وغيرها من دواعي الخراب والزوال، وهي بالغة الوفرة في الأرض العربية، الشرقية خاصّة».

في حديث الرحبي عن تجربته مع المجلة وعن العقبات التي تعترض مسارها، يقول: «لا أستطيع الحديث التقييمي حول المجلة وإنجازاتها في المشهد الثقافيّ، وتفاعُلها مع ثقافات العالم؛ لكنّ استمرارها عبر هذا الزّمن في مرحلة أفول الكثير من المجلّات المهمّة والمنابر الثقافية الورقيّة على وجه الخصوص إنجازٌ في حدّ ذاته، وهي الآن بطبعتها الورقيّة وموقعها الإلكتروني، الأكثر قراءة بطبيعة الحال في ضوء التحوّلات التقنيّة في القراءة والذائقة لدى الأجيال الجديدة، وسهولة الوصول والانتشار».

وأضاف: «قطعًا هناك عقباتٌ اعترضت مسار المجلّة، كأيّ مفهوم أو منصّة أفكار وإبداعاتٍ تُخالف السائد المُتراكم كعادةٍ وموروثٍ مقدّس، لا تطوله المساءلة والنقد، خاصّة في بلد مثل (عُمان)، كان مغلقًا وبعيدًا عن العالم وتحوّلاته الفكريّة والأدبيّة. مما جعل الانكفاء على نتاجات الأسلاف واعتبارها شيئًا متعاليًا، يقاوم كل جديد وحديث يخدش الذائقة والأفكار القارّة شبه المقدّسة، لكن في السنين الأخيرة بدأ المشهد الثقافي في عُمان يأخذ مسارًا آخر، في التحديث والمغامرة الإبداعيّة أسوة ببلدان عربية، سبقت زمنيًّا وتراكمًا إبداعيًّا، وأسوة بالعالم، واستلهام قيم العصر، وتجلّياته الثقافية والفكريّة.

وعما واجهته المجلّة في بداياتها، وخاصة في المتمثل في المواقف والسلوكيات من قبل «إداريين» أو قراء، وباحثين متزمّتين أيّما تزمّت حسب وصفه، يقول: «يصلُ بعض المواقف والسلوكيات أحيانًا حدّ السخرية والضحك، ويصل حدّ التكفير، وتحريم قراءتها لدى بعض محدودي الأفق، أو معدوميه تماما.. حتى كنتُ أصلُ أحيانًا إلى سؤال نفسي، ما الذي يجعلني أتحمّل كل هذا الهجوم والعداء، الذي يصل حدّ التفاهة والتشهير؟ خاصّة في مجتمعٍ الكثيرُ منه ما زال في طوره القبليّ والدينيّ الأول، لكنها تجربة ومحطّة في مسار هذه الحياة، وهي الوحيدة التي قُدّر لي فيها، أن أقيم وأنتج شيئا ذا بال في وطني عُمان، من هنا خصوصية وأهمية هذه التجربة. لو أصدرنا المجلّة أو ما يشبهها في بيروت أو القاهرة؛ فضلا عن باريس مثلا، لقلّت هذه المعاناة حتى التلاشي، لكنّها لن تضيف الكثير إلى تلك البلدان، السبّاقة منذ مطلع القرن العشرين إلى هكذا منابر تُعنى بالتجديد والتنوير والتحديث».

وحول نقده للمجلة وكيف ينظر إليها، قال: «أنا بطبيعتي، وأنا الآن في العقد السادس من العمر، الذي مرّ سريعًا وعاصفًا رغم الشتات، وربّما بسببه، أحملُ وما زلتُ، روحًا نقديّة، بداية من نتاجاتي الكتابيّة، ويشمل المجلّة هذا النقد؛ لكن في حدود الشروط الموضوعيّة. أعتبرها (المجلّة) منبرًا طليعيًّا ومتقدّمًا، أو هكذا.. لا أعرف على نحو حاسم».

الأمكنة ولحظة الكتابة

أصدر ثلاثة كتب كتبها خلال جائحة (كرونا) كوفيد 19، وهي: «في النور المنبعث من نبوءة الغراب» و «رحلة إلى جبال سراييفو» و«عاصفة على جناح متعب» فيتحدث عن هذه المرحلة قائلا: «صرتُ أكتب بشكلٍ يوميٍّ، وأنا غالبًا هكذا، إلا فتراتِ قرفٍ ويأسٍ مُطبق بالمعنى المُحبط؛ إذ لليأس والقرفِ، وهما من شروط الكينونة لدى البعض، خاصّة ممن جرفهم دوار الوجود، مسارًا خصبًا وثريًّا على الصّعيد الروحيّ والإبداعيّ.

في تلك الفترة المحدودة أنصرف وأتمرّد على الكتابة، وأكون قارئًا محضًا، وهذا أجمل.

«رحلة إلى جبالِ سراييفو» كتبتُها في العام الثاني من عمر الكوفيد، الذي حصد أرواحًا كثيرة من العائلة والأصدقاء، سُمح لنا بالسفر إلى (البوسنة والهرسك) وذهبت مع زوجتي والولدين، فجاءت هذه الرحلة بمثابة برهة تحريرٍ من سجن الوباء اللعين، الذي كانت عدالته الوحيدة هي توحيد الكوكب البشري، بشماله وجنوبه، بأغنيائه وفقرائه وهم الأغلبيّة السّاحقة مثل نتائج الانتخابات العربية وأضرابها، من 98 فصاعدًا، لكن حتّى عدالة هذا التوحيد تتّسم بنقصٍ جوهريّ؛ إذ كيف يتساوى من يملك المال والنفوذ، مع من لا يملك الحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة والمعيش؟

ذهبتُ إلى بلاد البلقان، فانفتح مشهد الذاكرة على مصراعيه، كنت أقمت فترة من الزمن في (بلغاريا) المُجاورة للبوسنة، إبان المعسكر الاشتراكيّ وخليفته الاتحاد السوفييتي، وفق رطانة تلك المرحلة، التي ما زال فيها البعضُ على نحوٍ من حلمٍ ولمعانِ سراب، انطفأ لاحقا بحكم توحّش التقنية والحروب الأهليّة، وغير الأهليّة، التي طحنت أجساد الشعوب وأرواحها وأحلامها، خاصّة في المشرق العربيّ. كنت على شيء من الدراية والذكريات لذلك المعسكر الآفل.

حين أسافر، وكنت مصابًا بقلق المكان الواحد، وبإلحاح هاجس الموت والغياب، كنت أسافر كثيرًا وأكتب من غير دلال ولا نقيضه. هكذا فقط، في مهبّ العواصف والمحيطات. وما قبل ثلاثين عاما كنتُ أسافر كالمغامرين، بما تحمله المغامرة من معنى، من غير مالٍ أو في حدِّه القليل جدًّا. لكن العالم والكائن الذي كنتُه كان مختلفًا بالطبع. بعد ذلك صرتُ أترحّل بشكلٍ خارج ذلك التصنيف للمغامرة، حيث صار لديّ دخل شهري قارّ، طيران، حجوزات، فنادق إلخ. لكن مع التقدّم في العمر وهو شيء مُرعب، يحلّ التكاسُل، والحسابات المنطقيّة. تعب الجسد، وإن ما زال مقبولًا في الحركةِ والترحّل والمشي».

وأضاف: «الكتابة هي جزء أصيلٌ من الكينونة والقراءة والوهم اللطيف، وهي في حدّ ذاتها رحلةٌ في اللغة والنفس والجغرافيا والتاريخ، رحلةٌ في المعلوم والمجهول، وهذا الأخير يُغريها أكثر، وكل ما اقتربتْ أو اجتازت مناطق الخطر، صارت أقرب إلى الإبداعِ الحقيقيّ وأفق الحلم بالنجاة إذا تحقّق.

الأمكنة نسكنُها، نحن الساكنة، لكن في الحقيقة الجوّانية لهشاشة الكاتب، هي التي تسكنُه، فهي أزليّةٌ أمام محدوديّتنا الطافحة بالهشاشة والانكسار حتى النهاية الحتميّة.

وهناك كتابات أهملها، لا تأخذ طريقها للنشر، ليست لأنها أضعف أو غير ذلك، بمعنى ليس نتيجة فرزٍ واختيار، وإنما هكذا بشكل فوضويّ غير مدروس. ولأنّي أكتب النصوص الطويلة على الورق، ثم تُعاد على الكمبيوتر، يأخذني السأم، فأرميها جانبًا، أتركُها لمصيرها المجهول.

أما منذ زمن، فيضيع الكثيرُ من المكتوب نتيجةً للشّتات، وعدم الاستقرار، لكن لحظة الكتابة؛ لحظة إنجازها، هي الجوهريّة في خلقِ العزاء والتحرّر من اللحظة المُحتدمة للوجود، وليس نشرُها إلا أمرًا ثانويًّا درَجَ بحُكم العادة والاتباع».

أيديولوجيا أم ميثولوجيا؟

عن تصنيف الشاعر وتأثره بالتنظيرات وما يحدد مسار الكتابة لديه يقول الرحبي: «الأيديولوجيا نقيضُ الإبداع الحقيقيِّ الذي نحلُم به، إنها مجموعة قناعاتٍ وأفكارٍ جاهزة، يقينيَّة مُسبقة، سواء كانت لاهوتيّة أو حداثيّة، علمانيّة ماركسية أو ليبرالية. تكون الكتابة بهذا المعنى نوعًا من الدوغما. الكتابة هي التي تتوسّل آفاق الحرية والمُغامرة، خارج المفاهيم والمعارف الجاهزة سلفا، لذلك على سبيل المثال لم يبقَ من أدب الواقعية الاشتراكية، وهي الأبرز في العقود المنصرمة، تراثا إبداعيًّا ذا بالٍ وقيمة؛ حتى بعض رموزها الكبار، مثل غوركي، وناظم حكمت، وبابلو نيرودا، وآخرين، ما بقي واستمرّ من إنجازاتهم المهمّة، ما كتب خارج المنظومة الأيديولوجية والحزبيّة السائدة».

وأضاف: «بالنسبة لي، وأنا جزءٌ من جيلٍ عربيٍّ، بدأنا بدرجات متفاوتة، متأثرين بتلك التنظيرات والنزوعات الأيديولوجية، لكن متن الكتابة الرئيس كان خارج ذلك المسار أيضا. الشاعر والكاتب في تصوّري خارج التصنيف، فلا يصنف مثلا بأنه ميثولوجيٌّ أو أركيولوجيٌّ، وإن كان ثمة عناصر من تلك القيم والوقائع والاتجاهات بالضرورة، لكنّه في نهاية المطاف يسكنُ، أو يحاول، حريّته وأفقه الخاص، في الكتابة الحرّة، والكتابة ليست إلا أسئلة تتناسل هواجس وحدوساتٍ في رحلة الكائن الشاقّة من الطفولة وهواجسها الجنينيّة، هي التي تظلّ المعين الذي لا ينضب، حتى أواخر هذه الرحلة ونهاياتها».

مثلث برمودا

يصف الرحبي الطبيعة التي كبر بينها الصحراء والبحر والجبال بـ(مثلث برمودا) والتي أنسنها في نصوصه، يقول عن ذلك: «هذا، الصحراء، البحر، الجبال، هو أركان الطبيعة العُمانية المدهشة، الفريدة، وإن كان هو من أركان أي طبيعة بريّة بدئيّة في الكون، لكن بدرجاتٍ وخصائص مختلفة من بيئة إلى أخرى.

في عُمان التي هي جزءٌ رئيس من أرجاء الجزيرة العربيّة، اليمنُ تُشبهنا أكثر تاريخًا وجغرافيا. فمعظم العُمانيين من قبائل الأزد اليمانيّة، نزحت إلى عُمان بعد خرابِ سدّ مأرب، كما يقول التاريخ بأبعاده الواقعيّة والأسطوريّة، بقيادة ملكهم مالك بن فهم، وهذه وقائع وأساطير ملحميّة تُغري بالبحث والتنقيب. حضور هذا المثلّث الميتافيزيقيّ رغم واقعيّته الصارمة، في حياةِ العُمانيّ، وفي تفاصيل حياته وسلوكاته. هناك مناطق مثل (صور) ومدن (الباطنة) يُحكِم البحرُ والمحيطُ قبضتَه عليها، وفي أعاليها الجبال، برهبتها الروحيّة وحضورها المُتعالي. وهناك الربع الخالي، تلك الصحراء التي وصفها الرحّالة الإنجليزيّ مطلع القرن العشرين، بصحراء الصّحاري، الأكثر قسوة ورعبا. وفي نصّي الأدبيّ استحالت هذه الصحراء إلى أن تغطّي الكون بكامله، تشمله وتخترق نسيجه بأبعادها الوجوديّة الراغبة بالوحشة والفراغ».

وقال: «أنا نشأتُ في منطقة مُحاطةٍ بأحزمةٍ من الجبال العالية المقفرة وأطواقها، إلا من عُواء الذئابِ، ونحيب بناتِ آوى والجوارحِ الأخرى. وإن كان البحر والصحراء غير بعيدين عن مسرح هذه الطبيعة التي أبصرنا فيها نور الحياة، ولعبنا بحريّة وطفولة فوضويّة، لا ينقصها العراك والجراح، وإن كانت القيم السائدة قيمًا قبليّة ودينية صارِمة، هل أقول بطرياركيّة مثلا؟ وفق كتاب الراحل هشام شرابي.

لكنها لم تستطع منع تلك الحيوات الطفلة من التّحليق والصيد والانطلاق».

وأضاف: «سمتنيْ هذه الطبيعة بميْسَمها الخاص، وصرتُ لحظة الكتابة تنهال مثل صخور الجبال المنقضّة مع سباعها من الأعلى، ومثل كُثبان رمالِ الصحراء وأمواج بحر العرب، وبحر عُمان، المتصلان بالمحيط الهندي. فحين أكتب عن مدينة لا تنقصها الحضارة والتكنولوجيا، تخترقُني هواجسُ ومفردات تلك البيئة البريّة التي نشأنا في ربوعها وقفارها. الفن أقرب إلى الحياة البريّة منه إلى الحضارة. حين كبرتُ وعدت إلى البلاد بعد غياب استمرّ ما يقرب من عشرين عامًا؛ وجدتُ نفسي، ليس فقط إزاء تحوّل البشر والسلوكات، وإنما أيضا تجاه سطوة هذه الطبيعة، وإنني الخاسر الأكبر في هذه المنازلة، فردا أعزل إزاء أسطورة الجبال والزّمان، فصارت الكتابة نوعًا من محاولة أنسنةٍ لبطش هذه الطبيعة، وبطش التغيّرات والأزمنة».

البحث في اللغة والمعنى

النصوص المليئة بالهم والأسئلة واللغة المطواعة والمعنى المتدفق والمختلفة عما يحدث في عالم الشعر يقول عنها سيف الرحبي: «منذ البدايات المتعثّرة، كان لديّ نزوعٌ ما إلى كسرِ القالب والتّصنيف. اتّضحت هذه النزعةُ لاحقًا عبر كتب ونصوص تبلورت بمثابة مدارٍ تعبيريّ يتجاوزُ أكثر من معيارٍ محدّد ومتّبع كتابةً وتقييمًا.

نصٌّ عابرٌ للأجناس، مفتوحٌ على أكثر من جهة وعاصِفة، أو مزاج. نوعٌ من تعدديّة تعبيريّة، ونحاول لملمة هذا التشظّي وهذا الحطام الذي يخترق القلوب والأحداق. التحديقُ في المشهد العربيّ الرّاهن غزة، (فلسطين في الراهن المُلحّ) وهي ليست إلا التّعبير الكارثيّ المكثّف للمآسي العربيّة المُتعاقبة التي تُسرطن الجسد والرّوح. وأتصوّر أن غياب مشروع «الدولة الحديثة». بما يعنيه من قيم قانونيّة ودستوريّة ومؤسسيّة حقيقيّة، وليس ديكوريّة كما جرى منذ بدايات الاستقلال عن الهيمنة الاستعمارية المُباشرة».

وتابع: «بعض النخب طرحت هكذا مشروع، لكن من قفزوا على الدبابات والسبابيط إلى الحكم، حوّلوا المشروع والدولة إلى سلطة أمنيّة عسكريّة محضة، ولم يبقَ من الدولة إلا ظلها الشّاحب البعيد.

مأساة الذات بهواجسها الوجوديّة ذات النزوع العدميّ ربّما، والعيش وسط هذا المشهد القياميّ للدماء المُراقة والطاقات المُهدرة، يجعل الشاعر والأديب، في بحثٍ تجريبيٍّ مُستمرّ في اللغة والمعنى. بطش المشهد النازف، وبطش اللغة في محاولة تطويعها كي تستطيع أن تعبر عن هول المُعاش، وانكسار الذات والتاريخ. يوفق الكاتب في بعض ما يكتب ويخفق أحيانا أخرى».

شاعر لم يخض في الرواية

عن رأيه في التجارب الروائية لشعراء ذهبوا إلى الرواية، يقول: «بعض الأصدقاء والمعارف من الشعراء كتبوا الرّواية، ولا أقول تحوّلوا من الشعر إلى الرّواية، وقد قرأت الكثير منها، بعضها بمثابة إثراءٍ للرّواية العربية، ربّما الرواية تلبّي حاجة تعبيريّة أكثر تطلُّبًا واتّساعًا من الشعر الذي ينزع إلى التكثيف والإيجاز، كما قيل. رغم أن الشعر وسّع رقعته التعبيريّة، وكسر القولبة والتعريفات المُتراكمة التي تقاربه، كلها لا تعبر عن جوهره، إذ هو عصيٌّ على التعريف يظل».

وأضاف: «من جهتي، صارت النّصوص والكتب التي تنحو وتتوسّل المنحى النثري في شساعته وتعدده كثيرة، ربما تفوق الشعريّة وفق هذه الثنائية التي لم أعد أتبنّاها. هناك بعض الكتب حين قرأها بعض الأصدقاء، قال لي: «يا أخي لو عملتَ كم شخصية وبعض التعديلات، كانت روايات منجزة» لكني لم أفعل. لم يعد الجنس الأدبيُ يهمّني، بقدر التعبير عمّا أريد وأحاول. وجدت نفسي نسبيًّا في مناخِ هذه التعدديّة التعبيريّة التي تُدمج عناصر من أجناسٍ مُختلفة ضمن سياقها ومناخها الخاص. أكتب بمزاجيّة وفق إيقاع اللحظة وخلجة النفس فيها، شعرًا، نثرًا، يوميات، شظايا من أدبٍ رحليّ وتأمّلي، ومن السينما والمشهد البصري أستمدّ الكثير. كان بودّي، وكنتُ أحلم أن أشتغل في سياق الكتابة أفلامًا، لكن لم يتحقّق ذلك. نَفَسيْ قصير في العمل ومزاجي ليس جماعيًّا، إلا من باب الضرورة، ومحاربة الكآبة طورًا. اكتفيتُ بمشاهدة الأفلام الجيّدة بشكلٍ شبه يوميّ، مثل القراءة تمامًا. المهمّ نحاول أن نكون قرّاء جيدين. القراءة والكتابة أوكسجين الحياة، وإلا اختنقنا على الفور في خضمّ هذه التّفاهات والسطحيّة والبروباغاندا التي تحُاصر عالمنا الدمويّ، الذي يدخل أطوارًا جديدة من التوحّش؛ بحيث تنعدمُ الفروق بين مشاهدة المجازر والإبادات، ومشاهدة مسلسلات تسلويّة هابطة.

ربّما نحن في برهة أفول الجنس البشريّ، ليحل محله آخر؛ لأنه استنفد الطاقة والقيم التي تميزه، كما قال أحد المفكرين».

دور الشعر

عن دور الشعر وما يفعله في عالم مدمى، قال الرحبي: «قيل كثيرًا عن دور الشعر والأدب، وسُفح حبرٌ كثيرٌ عن هذا الدور التغييري، كل من زاوية نظر ووجهة ما، وليس لديّ ذلك الرأي الواضح في كيفية هذا التغيير الشعريّ للواقع والكتابة في حدّ ذاتها (الشعر ضرورة، وآه لو أعرف لماذا) وفق جان كوكتو».

وأضاف: «الشعر والفن يضيفان أبعادًا جماليّة للفرد والتاريخ، وشاهدان حقيقيّان صادقان على زمنهما؛ لكن التغيير والالتزام الذي كان متداولا كان غامضًا غموضًا غير شفاف، وصعبًا ذا منحى أيديولوجي تبشيري. ومعظم الشعر الذي يتوهّم أصحابه هذا الدور جاء منبريًّا زاعقًا؛ لكنه ليس ذا قيمة إبداعيًا وفنيًّا، ويتلاشى مع تلاشي الحدث المحفّز. أن يكون الشعرُ وبقية الفنون على جانبٍ عميقٍ من الثراء الروحيّ والدلالي والجمالي؛ ذلك بمثابة إضافة للحضارة البشرية وللإنسان والتاريخ من غير زعم أو توهّم ذلك التغيير..

إنه يسهم في جعل العالم أفضل، ويؤثر ويوثق ويدل بأدواته ومنطقه الخاص».

ألبوم صورٍ يشتعل

ذكر الرحبي في أحد كتبه حادثة حرقه لألبوم صور وهي حقيقية كما يشير، وقال ساردا إياها: «في تلك الليلة، العاتية في بردها ووحشتها، كنتُ وحيدًا أتصفّح ذلك الألبوم من الصور الذي اصطحبته معي في أكثر من محطة ومدينة. وحين انتصف الليل الباريسيّ الأكثر بهجة من ليالي المدن، والذي لم يكن كذلك في تلك اللحظة معي.

ذهبت إلى النوم ولم أستطع. كان الأرق حادًّا وقاسيًا، وانهالتْ تلك الوجوه والغيابات من غير هوادة على رجل وحيدٍ في غرفته العارية، بالمدينة الكبيرة. تحوّل الماضي منذ أيام الدراسة ما قبل الجامعية كابوسًا مريعًا وليس العكس، فقمتُ بحركة لاشعوريّة، آخذا ذلك الألبوم إلى المطبخ مشعلا فيه النار، وحين تعالت ألسنةُ اللهب، صرتُ أحدّق فيها بحيرةٍ وألمٍ يفوقان الوصف.

الصور الضاجّة في رأسي احترقت أو أصلها، لكن ظلالها بقيت في الرأس لا تحترق ولا تتلاشى، وربّما الذي احترق الظلال وليس الأصل؛ إذ هو الباقي الذي يغذّي الذاكرة، إذ ما زالت تستطيع التذكّر والاستعادة. ترى ماذا فعل الزمن بتلك الوجوه التي خلفتُها ورائي، وكانت مفعمة بالحياة، حالمة بالمستقبل، هل ما زالت موجودة أم طواها النسيان مثل غيرها، والغياب؟»

بيروت..

لبيروت مكانة عند الرحبي قال عنها: «حرمنا من بيروت فصار صدع في الحياة ومحطاتها»، وعن هذه المدينة يقول: «في أواخر السبعينيّات، أقمتُ في بلاد الشّام (دمشق) فترة من الزمن، كنتُ فيها على ذهاب مستمرٍّ دائما إلى بيروت، رغم اشتعال نيران الحروب الأهليّة، كنّا نجد فيها نوعًا من من مستقرّ وألفة وحريّة. ورغم الكرم الدّمشقي والسوريّ والأصدقاء الذين أحمل وجوههم ومواقفهم النبيلة على الدوامِ ما زلت حيًّا. كنتُ في العشرينيّات من عمري، حالمًا بالكتابة والأدب، ولا شيء آخر؛ لكنّ بيروت تظلّ مدينة حرة، رغم الحروب التي التهمتها، وظلت متماسكة ومتمسّكة بحريّتها الإبداعية والحياتية، خارج السّرب العربيّ الذي تحكمه أنظمة الحزب الواحد، والرأي الواحد، والرمز الواحد الأوحد.

لذلك كان أهل الرأي والثقافة المختلفة يُهرعون إليها واحة ظليلة، وسط جلبة الديكتاتوريات؛ قمقمًا وجعجعةَ خطابٍ».

وأضاف: «كانت تلك المدينة الفريدة التي نشاهد الآن مصيرها ومآلها القاسي والمُنهار، ملاذًا لجميع الهاربين والحالمين بالحريّة والإبداع، حتى صار الغزو الصهيوني الشامل على المدينة ولبنان، والفلسطينيين الذين كانوا الذريعة لهذا الغزو الذي نفذّته الآلة الصهيونية بكامل قوتها وأدواتها المتقدّمة تكنولوجيا.

كان هذا الغزو علامة فاصلة في تاريخ لبنان والبلاد العربية، بعده ارتسم أفقٌ جديد، ملبّد بالتيه والانكسار، حتى الوصول إلى هذه المرحلة الجحيميّة في التاريخ.

اللبنانيون في الداخل والخارج قادرون على إنقاذ البلاد وإعادة السويّة إلى لبنان ودوره التاريخي، فهم حملة مشعل التنوير والتجديد؛ فكرًا وأدبًا، منذ أواخر القرن التاسع عشر، وما زالوا فاعلين خارج بلدهم أكثر من داخلها.

لكن كيف؟ صراعات داخليّة وتمزّق طائفي مريع، بحيث أصبحت لبنان رهينة ورقة تفاوض في يد القوى الأجنبية والإقليميّة، تفترسُها الحرابُ المسمومة من كل جهةٍ وصوب، وبلاد الشام والمشرق العربي كله، ليس أحسن حالا.

منذ غزو 1982 التدميري، أصبحت كلمة (الأمن القومي العربي) بالغة السخف والهراء.

منذ انفجار المرفأ الشهير، وقبله بقليل، لم أزر بيروت، وحتّى بعض الأصدقاء الذين ما زالوا صامدين ومقيمين هناك، لا يشجعون على الزيارة».