مصباح قطب - القرارات مقامات، شيء يشبه قولنا «الناس مقامات»، ولكل قرار كبير حكاية كبيرة، وقبل وبعد أي قرار كبير حكايات وحكايات، ولا يوجد قرار كبير إلا وله قبل وبعد وأثناء، وعادة ما يمر تاريخ الأمم أمام أعين الناظرين إليه من خلال القرارات الكبيرة في حياتها، وعلى المستوى الشخصي يمكننا أن نقول: قل لي ما هي قراراتك؟ أقل لك من أنت؟ وكلنا يذكر أن قصيدة الشاعر الراحل محمود درويش (العابرون في الكلام العابر) كانت قد سببت هستيريا للإسرائيليين، وأنه بعدها لقى من المتاعب ما لقى حتى اضطر إلى ألا يزور موطنه، لأن العابر السريع في جملة عابرة بطبيعتها لا وزن ولا قيمة ولا تاريخ ولا ماضي له، اعتبروها أكبر إهانة لحقت بهم، وشيء من هذا القبيل يمكن أن يقال على أي شخص يمضي عمره كله دون أن يتخذ قرارا مهما أو فارقا أو قرارا ينطوي على موقف أو نزعة مبدئية أو وطنية أو عائلية أو إنسانية واضحة ومؤثرة، إنه يكون كمن مر في صحراء قاحلة ومحت الريح كل أثر لأقدامه على الرمال. القرارات الكبيرة على الدولة أو القيادة هي أيضا لها أوزان ومقادير فليس كل كبير يشبه كل كبير في هذا الأمر، من أجل هذا أصبح هناك علم القرار، وهو علم يدرس أدوار الأفراد والمؤسسات في القرارات الكبيرة، والأوزان النسبية للعوامل الداخلية والخارجية، المؤثرة على القرار، وبيت المعلومات الداعمة، وخطط التمويه والخداع والتعبئة الشعبية، ومستوى الخبرات المتاحة وجودة البحوث السابقة على القرار، وفرق الإعداد للقرار والعلاقات بينها والعوامل المؤثرة في القرار وبنيته وتوقيته وتوابعه والمخاطر والتوقعات واستراتيجية إنجاح القرار وحمايته..... إلخ. وقد ذكرني بكل ذلك أنه مرت يوم أمس الذكرى الواحدة والستون لقرار تأميم قناة السويس البحرية (26 يوليو 1956)، وهو القرار الذي اعتبرته دوائر عديدة واحدا من بين أهم 5 قرارات عربية في القرن العشرين، وتأتي الذكرى هذا العام وسط سجال بالغ الحدة بين ألوان الطيف السياسية في مصر من ناحية تقييم قرار التأميم وأثره وهل كان من الأفضل أن تنتظر مصر إلى 1968 وتستلم القناة وفق عقد الامتياز الذي ينص على انتهاء امتياز الشركة الفرنسية الإنجليزية مالكة القناة ومديرتها في هذا التوقيت أم أن التأميم كان أفضل لمصر؟. طرح كل طرف أقصى ما لديه من حجج، فالرافضون للتأميم قالوا أنه قرار متسرع وشعبوي أدى إلى إلحاق خسائر رهيبة بمصر بسبب العدوان الثلاثي واشتعال العداء مع الغرب، والمؤيدون قالوا على افتراض أن الغرب كان سيترك القناة لمصر في الموعد المقرر فرض حسن نية، وأن الإنجليز والفرنسيين شنوا حملة ضارية منذ مطلع الخمسينيات (وفى بدايات القرن العشرين أيضا قبل ذلك) لمد عقد الامتياز لـ 99 سنة أخرى، ثم مده إلى نصف قرن آخر فقط تعطفا منهم، ثم طرحوا فكرة أن يتم المد إلى 12 عاما إضافية، وبعدها تحصل مصر على نصف الدخل والشركة الأجنبية على النصف، وعندما أمم عبد الناصر القناة طرحوا فكرة تدويل إداراتها وهكذا، ثم أنه كان واضحا أنهم إذا اضطروا لإعادتها فسيعيدونها خربة. لكل هذه الأسباب رجعت بالذاكرة إلى كتاب قديم كان قد ضاع من ذاكرتي ما قرأته فيه منذ ثلاث عقود، وإذا بالصديق المحامي الدولي الأبرز في المنطقة العربية الدكتور علي الغتيت (والده هو من صاغ قرار تأميم قناة السويس) يهديني نسخة منه. الكتاب صدر في نوفمبر 1984 عن مركز دراسات الوحدة العربية ومنتدى العالم الثالث ومكتب الأمم المتحدة ومشروع المستقبلات العربية البديلة، واسمه  «صناعة القرار في الوطن العربي»، يتضمن الكتاب بحثين علميين أحدهما عن قرار تأميم قناة السويس، والآخر عن قرار حظر تصدير النفط إلى الولايات المتحدة والغرب خلال حرب أكتوبر المجيدة، الجديد أن كل بحث خضع لكل ألوان العصف الذهني من مجموعة من الخبراء المصريين والعرب والعالميين فضلا عن شهود عيان تلك المرحلة، وتم نقل كل ذلك وخلاصاته إلى القراء في الكتاب. يفحص بحث القناة - المنقح أي البحث بعد مناقشته - قرار التأميم من جذوره، ويتتبع كل شاردة وواردة تخصه، ورغم أنه سبق لي أن أعددت فيلما تلفزيونيا عن القناة بعد 50 عاما من التأميم، ما كان أتاح لي وقتها أن أدخل بيوت معظم المسؤولين الأحياء عن التحضير للقرار واستلام القناة بعد التأميم وإدارتها، كما أتاح لي فرصة قراءة عشرات المراجع حول القناة والتأميم، إلا أن الفحص العلمي للقرار أعطاني زوايا غابت عن ذهني، على سبيل المثال فقد أخذ الباحثون على الرئيس عبد الناصر أنه تعامل مع انجلترا وفرنسا باعتبار أن كل ما سيتخذانه من ردود أفعال بعد التأميم ستكون عقلانية بينما الحياة ليست كذلك. فقد ظن ناصر أن فرنسا المشغولة في الجزائر لن تشارك في العدوان، كما أن بريطانيا لا يمكن أن تفكر في أن تعتدى على مصر بالتحالف مع إسرائيل على أساس أن ذلك سيجعلها تخسر مصالحها في الوطن العربي، لكن ناصر نسي -والكلام للباحثين- الطبيعة المعرفية والإدراكية لمستر‏‏ ايدين -رئيس وزراء انجلترا- وكيف يرى ناصر، لقد أصيب ايدن بهاجس ناصر وكان يكن له كراهية شديدة ويشبهه بهتلر وبالتالي كان رد فعل الإنجليز (الاشتراك في العدوان الثلاثي) مطبوعا إلى حد كبير بهذه النظرة من رئيس وزرائهم أكثر مما هو مطبوع بالرؤية العقلانية للمصالح البريطانية، كان ناصر أيضا يظن -مثلا- أن انجلترا ستغزو مصر بالفعل لو حدث التأميم بنسبة 70%  لكن أكثر ما ستفعله هو أن تحتل القناة مرة أخرى، ولذلك أعد خطة لردم القناة حتى لا ينتفع منها الإنجليز إذا وقع العدوان وكان ناصر أيضا يظن أنه كلما مرت الأيام والأسابيع قل ميل الإنجليز أو الغرب عموما إلى العدوان العسكري، وهو ما ثبت أنه لم يكن صحيحا، وقد أشارت الندوة إلى أن المعلومات لم تغب عن ناصر فقد نشطت أجهزة المخابرات وجمع المعلومات المصرية على نحو غير مسبوق لجمع أدق التفاصيل التي تفيد في قرار تأميم القناة ومنها مثلا ما هو عن القوات البريطانية في الأردن وليبيا وقبرص ومالطا، والقوت الفرنسية وإمكانيات تعبئتها، لكن ناصر ووفق طبيعته هو الآخر ورؤاه اختار من المعلومات ما يتفق مع نسقه العقيدي، ومع فكرة الحد الأقصى للمنافع التي تملكته، أي التأميم وليس التأميم الجزئي أو رفع دعوى قضائية كما اقترح البعض. في كل الحالات فإن ما لفتني بقوة هو حجم التحضير المهول لقرار تأميم القناة بحيث يمكنني القول بكل ارتياح أنه لم يحدث وربما لن يحدث أن يتوفر لقرار مصري أو عربي كل هذا القدر من الاكتمال البحثي والدراسي والمعلوماتي، لقد عمل عليه أساطين رجال القانون والمال والمعلومات والسياسة والدبلوماسية والهندسة والبحرية والتعبئة والقانون الدولي، ومنهم من كان قد بدأ بالكاد التدريس في الجامعة لكن سمعتهم كعلماء كانت قوية، مثل الدكتور عصمت عبد المجيد الذي شغل موقع وزير خارجية مصر لسنوات ثم أمين عام الجامعة العربية، والدكتور عاطف صدقي رئيس الوزراء الراحل، والدكتور حامد سلطان والدكتور فؤاد رياض وقد توليا مناصب دولية قانونية رفيعة، والدكتور محمد علي الغتيت الذي صاغ قرار التأميم كما قلت، والمهندس محمود يونس والمهندس حلمي بهجب بدوى وغيرهم، كانت فرق العمل تعمل ولا تعرف الهدف النهائي مما تقوم به، ولا يعرف أحدها عن الآخرين شيئا، لكن لم يترك الخبراء شيئا إلا وأحاطوا به علما وقام منهم من قام بمغامرات للوصول إلى المعلومات في الأراشيف الغربية ومجلس العموم البريطاني وفي سجلات البحرية العالمية... الخ. لهذا فإن القرار بقي حيا في وجدان وعقول المصريين والعرب، ليس لأن جمال عبد الناصر ألقاه بطريقة مؤثرة، ولكن لأنه عبر عن حلم عميق للمصريين باستعادة القناة وتحقيق الاستقلال الكامل لبلادهم .. حلم شارك فيه جهابذة عصرهم تطوعا وبإخلاص نادر، وراء كل قرار عظيم ألف رجل عظيم وألف سيدة عظيمة. Mesbahkotb@gmail.com