يُعدُّ كتاب «الماء» للأزدي الصحاري (ابن الذهبي) الصادر عن وزارة التراث والثقافة 1996م من الكتب التراثية المهمة التي ضمّت بين أوراقها ضروبا شتّى من فنون العلم؛ فهو معجم طبي لغوي أدبي تاريخي جغرافي فلسفي معرفي إلى آخر التصنيفات التي يمكن تصنيف الكتاب إليها. وإذا كان الكتاب مرآة لفكر مؤلِّفه، فإننا حتما أمام مؤلف واسع المعرفة، مُلمّ بفنون مختلفة من العلوم؛ فهو طبيب ولغوي وعالمٌ بالنباتات والأدوية ومُطّلع على الأمكنة والأدب والتاريخ والتفسير.

وعلى الرغم مما نستنتجه من المعرفة الواسعة التي يمتلكها ابن الذهبي، فإننا أمام شخصية مجهولة؛ إذ لم تحمل كتبُ التراجم والتاريخ أيّ تفصيل عن حياة الأزدي ما عدا النبذة المختصرة عن سيرته التي أوردها ابن أبي أصيبعة في كتاب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء): «هو أبو محمد عبدالله بن محمد الأزدي ويعرف بابن الذهبي، أحد المعتنين بصناعة الطب، ومطالعة كتب الفلاسفة، وكان كّلِفا بصناعة الكيمياء، مجتهدا في طلبها. توفي ببلنسية في جمادى الآخرة سنة 456 للهجرة. ولابن الذهبي من الكتب مقالة في أنّ الماء لا يغذو».

إنها فقرة مختصرة عن حياة ابن الذهبي، قسّمت اهتماماته إلى الطب والفلسفة وصناعة الكيمياء، كما لم تُشر الفقرة إلى مكان الولادة أو تاريخها أو تلقيه العلم على يد أحد من أهل العلم، الأمر الذي دفع باحثين عدة للبحث في حياة ابن الذهبي وإعادة قراءتها لعلّ أحدهم يُقدّم إجابة شافية إلى القارئ.

لقد تناولتُ الحديث عن الأسئلة والغموض اللذين رافقا حياة ابن الذهبي وما جاء به الباحثون عنه في الندوة العلمية: (قراءات في فكر العلامة أبي محمد عبدالله بن محمد الأزدي الصحاري) التي أقامتها وزارة الثقافة والرياضة والشباب ممثّلة في المنتدى الأدبي بولاية صحار بتاريخ 24-25 أكتوبر 2023م، ولعل أكثر الأسئلة التي طُرحت من الحضور كانت متعلقة بحياة ابن الذهبي وبنسبته إلى عمان ولادة ونشأة. أما في مقالتي هذه فأحببت عدم تكرار ما ذُكِر، والانطلاق من حضور عُمان في كتاب (الماء) حضورا نتعرّف منه ارتباط المؤلف بعمان سواء جاء على سبيل الإشارة أو الذكر المرتبط بالرؤية لمشاهد معينة.

لقد وردت الإشارة إلى عُمان في كتاب (الماء) في غير موضعٍ؛ فقد ذكر المؤلف بعض المناطق الجغرافية فيها، والنباتات والأشجار الموجودة بأرضها، وفي هذه الإشارات معرفة مسبقة للمؤلف أو الاطلاع الجيد لما هو متوفر فيها. لقد وردت الإشارة بالتحديد إلى عُمان في كتاب الماء في خمسة عشر موضعا، وترد هذه الإشارة متنوعة من النواحي الجغرافية والنباتية والعلمية، ويمكن تفصيلها كالآتي:

أولا: إشارة المؤلف إلى مواضع معينة من عُمان؛ فقد وردت بلدان مختلفة في ثمانية مواضع، لعلّ أهمها هي الإشارة إلى (صُحار) وفيها استشهاده ببيت الشعر الذي من خلاله يبيّن انتماءه إليها، يقول عنها (2/388): «وصحار: قصبة عُمان، مدينة طيبة الهواء كثيرة الخيرات، سُمّيت بصحار بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام.

ديارٌ بها شُدَّتْ عليَّ تمائمي وأوّلُ أرضٍ مَسَّ جلدي ترابها».

وذكر صحار عند حديثه عن التامول قائلا: «وقد رأيت الناس في صحار ومكة يمضغونه بقليل كلس ليطيب طعمه...». (1/206)، كما ذكر منطقة تعرف بشغف بأنها «موضع معروف بعمان ينبت الغاف والعظام. وهو شجر كثير الشوك». (2/346)، وذكر منطقة الشَّحْر بأنها: «ساحل البحر بين اليمن وعُمان»، ثم ذكر أنها «موضع بعمان، سُمّي بشجر فيه هو الشَّحْر». (2/334)، وذكر توأم قائلا: «تَوْأم: قصبة عمان، يُنسب إليها الدُّرّ». (1/191)، كما ذكر مزون معرّفا لها بأنها من أسماء عمان (3/351). وفي تعريفه للمصطكي إشارة لمسقط، وبها يكثر اللبان المسقطي، قال: «المصطكي: اللبان المسقطي، نسبة إلى أرض مسقط في ديار عُمان ويسمى خطأ بالعلك الرومي...». (3/359)، وعن العنب الجرشي قال: «جاء عن العنب الجرشي: وهو جيّد بالغ النفع وكانت أشجاره تُغطّي الرؤية ما بين مسقط وصحار، ولم يبق منها اليوم إلا ما تفرّق هنا وهناك». (1/260).

إنّ جميع المواضع السابق ذكرها ارتبطت في كتاب الماء بتوفر النباتات في مناطقها، إلا أنه خص «مزون» و«صحار» بذكرٍ عام، فالاسم الأول جاء يحمل دلالة تاريخية لاسم عمان القديم، وللثاني دلالة حضور للولاية التي اشتهرت بتجارتها وصلاتها وسوقها التاريخي وله بها ارتباط وثيق هو انتماء الولادة والنشأة.

ثانيا: جاء ذكر عمان عاما، بما ارتبط بها من مكونات جغرافية ونباتية وغيرها؛ فعُمان متنوعة في بيئتها وجغرافيتها وعليه فإنها تضم نباتات عدة، ولعلنا نجد هذه الإشارة في مواضع مختلفة؛ نجدها مثلا الإشارة إلى أصابع فرعون (2/382) وهي: «أجسام حجرية كالسبابة، فيها رخاوة، تكثر في شواطئ عمان، مُجرّبة للحم الجراحات سريعا، وتُعرف بمدملة الجراح»، ونجدها في الإشارة إلى الرطب الدليك (2/84)، وفي الإشارة إلى العقاب (3/56)، وفي شجر العِلف (3/65)، وفي العنب (3/71)، وفي رطب الفرض (3/143)، وفي شجر القَصاص (3/206)، وفي نبات الكآدَى (3/247)، وفي اللياء (3/321)، وفي شجر المُرّان (3/344)، وفي شجر الأنبج (3/390)، وفي الهَدَس (3/450)، وفي ورد نصيبين (3/483).

ثالثا: ذكر المؤلف مشاهدات من عُمان؛ فقد تحدّث عن رؤيته لبعض الأشجار والنباتات أو ذكر ملاحظات تشير إلى وجوده في عُمان، وهنا نلمح من هذه المشاهدات إقامته بعُمان مدّة من الزمن، وهو في مرحلة عمرية قادر من خلالها على تمييز الأشياء ووصفها وصفا دقيقا. ومن هذه المشاهدات قوله عن الضجّاج: «صمغ أبيض يؤكل رطبا، وإذا جفّ وسُحِقَ تُغسلُ به الثياب. وشجرته كشجر اللبان غير عظيمة رأيتُها بأرض عُمان ولها حبّ أسود كحبّ الآس». (2/433). وقوله عن السُّعن: «والسُعْن: ظُلّة نتخذها في عُمان فوق السطوح من أجل ندى الومد. والجمع السعون». (2/263)، وعن التنومة: «شجرة رأيتُها في بادية اليمن وعُمان، يُضرب لون ورقتها إلى السواد». (1/207)، وعن التامول: «وقد رأيتُ الناس في صُحار ومكة يمضغونه بقليل كلس ليطيب طعمه...». (1/206)

لقد بيّن حضور عُمان في كتاب (الماء) القيمة العلمية والمعرفية والعلاجية المتوفرة بها، والمقومات التي تتمتّع بها هذه البلد والتي أحصى المؤلف بعضا منها، رابطا بين أهميتها الجغرافية وبين أهميتها الطبية والعلمية؛ فكان الحضور دالّا على أقسام مختلفة من الفنون التي جاء بها المؤلف في كتابه والتي يمكن الإشارة إليها بصورة موجزة كالآتي:

أولا: إلمامه بالطب والنباتات المختلفة المساعدة في العلاجات وطرق استخدامها وأماكن وجودها، والتي تدل فعلا على ممارسته الحقيقية لهذه المهنة سنوات طويلة، وتعلمها على أمهر الأطباء وأحذق المشتغلين بالعلاج والأدواء وما النباتات والأشجار المتوفرة في عُمان إلا جزء من هذه النباتات التي استعان المؤلف ببعضها وعمل على تسخيرها في الطب والكتابة عنها.

ثانيا: درايته بالجغرافيا والأمكنة، وهذا ساعده على فهم طبيعة البلاد وأماكن توزّع النباتات بها، واستخداماتها في بيئتها.

ثالثا: يظهر تكوينه العلمي الجيد من خلال اطلاعه على تجارب الآخرين أو مشاهداته الذاتية ووصفه للمشاهدات المختلفة التي عملت على توسعه المعرفي والعلمي، وقدرته على التوسع في بناء معجمه اللغوي.

إننا أمام مؤلف واسع المعرفة والاطلاع، كتب في مجالات عدة، وبرزت اهتماماته في مجالات مختلفة، وقد ظهر ذلك في مجالات الطب واللغة والنباتات والأدوية والأدب والجغرافيا وغيرها، ولذلك تبرز القيمة الفنية لكتاب الماء، ويظهر أثره العلمي واللغوي كونه موسوعة علمية لغوية استطاع مؤلفها إبرازها بصورة قيمة عكست المخزون المعرفي له.