ترجمة - بدر بن خميس الظفري -
خلال العقد الماضي، أرسلت المركبات الفضائية تقارير من بعض الوجهات المذهلة داخل نظامنا الشمسي، إذ كشفت المركبات الجوالة عن قنوات نهرية واسعة حفرتها فيضانات قديمة على المريخ. انطلقت المسابير عبر الينابيع الساخنة التي تفور من قمر زحل الجليدي الذي يسمى (إنسيلادوس)، بل حتى إننا قمنا بالطيران عبر جبال بلوتو المتجمدة. ولكن ماذا لو وسّعنا آفاقنا إلى أبعد من ذلك، إلى أبعد من ذلك بكثير؟
دعونا نتخيل أننا نستطيع التجول عبر مجرة درب التبانة في رحلةٍ لا مثيل لها، لمشاهدة معالمها. أين سآخذك؟ حسنًا، الثقوب السوداء الهائلة والنجوم الغريبة النابضة والعوالم الغريبة الشبيهة بالأرض الموجودة في خط سير الرحلة للمبتدئين. وبغض النظر عن المشاهد الهائلة التي سنشاهدها، سنكتشف كيف أن زيارة هذه المناظر الفضائية الغريبة قد تقدم أدلة لبعض الألغاز الكبيرة، بدءًا من كيفية تشكل النجوم الأولى، ومرورا بمعرفة ما الذي ينتج إشارات راديوية غريبة من الفضاء الخارجي، وما إذا كانت هناك حياة خارج الأرض. هنا، إذن، دليلي للسائح الراغب في السفر عبر المجرة.
تيار S1
لنبدأ رحلتنا، سنقفز إلى نهر من النجوم يمر بجوار بابنا الأمامي عبر مجرة درب التبانة بأكملها. لتقدير المساحة الحقيقية لتيار S1، علينا إعادة معايرة إحساسنا بالحجم، لأن طول التيار وعرضه يُحسبان بآلاف السنين الضوئية، فنظامنا الشمسي الواقع في منتصف النهر يشبه حبة رمل في نهر الأمازون.
للعثور على مصدر تيار S1، نحتاج إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ما يقرب من 9 مليارات سنة إلى مرحلة شباب مجرتنا المضطرب، فعند النظر إلى مجرة درب التبانة من الخارج، نشاهدها محاطة بسرب من «مجرات قزمة» أصغر حجما تنحني وتتقوس في مدارات حولها. ولكن عندما دار أحدها في مدار قريب جدًا، وقع ضحية إحدى آكلات النجوم في المجرة.
لقد تم طمس هذه المجرة القزمة قليلة الحظ، لكن نجومها الفردية استمرت في التحرك بين نجوم مجرة درب التبانة، وهو عبارة عن مساحة فارغة في الغالب. واليوم، لا يزال هذا التدفق الممتد من النجوم متميزًا. وفي عام 2017، رصد علماء الفلك، باستخدام المركبة الفضائية (جايا)، 94 نجمًا تتحرك عكس اتجاه مجرة درب التبانة. ولتأكيد شكوكهم، قاموا بقياس التركيب الكيميائي لهذه الأجسام، ووجدوا أنها تحتوي على مستويات أقل من العناصر الأثقل، مثل الحديد، مقارنة بنجوم درب التبانة الأصلية. كان الدليل واضحا لا يمكن دحضه، فتيار S1 هو بقايا مجرة قزمة قديمة.
من المغري الاعتقاد أن السفر عبر تيار S1 سيمنحنا الفرصة لحلّ أحد أكثر الألغاز صعوبة في الفيزياء. تم وضع فرضية المادة المظلمة منذ عقود مضت عندما لاحظنا أن المجرات تتحرك بشكل أسرع مما ينبغي، مما دفعنا إلى استنتاج مفاده أنه لا بد من وجود المزيد من المادة المظلمة، حتى لو لم تتفاعل مع الضوء. تخبرنا قياسات مماثلة لحركات النجوم أن المجرات القزمة غنية بشكل فريد بالمادة المظلمة. لذا فإن تيار S1 هو في الأساس نهر من المادة المظلمة، والذي يصادف أنه يصطدم مع مربع النظام الشمسي وجها لوجه، إلا أنه في الوقت الذي تشير فيه الدراسات إلى أن التحليق باستخدام أفضل أجهزة الكشف لدينا من شأنه أن يحسن احتمالات تحديد المادة المظلمة إذا تشكلت في صورة جسيمات تسمى المحاور، فالحقيقة هي أننا ربما نستطيع فعل ذلك أيضًا من الأرض.
السقوط في عالم مجاور قابل للسكن
لقد اكتشفنا حتى الآن أكثر من 5000 كوكب خارجي يدور حول نجوم أخرى في مجرتنا. ولكن لا يزال هناك مئات المليارات من العوالم الأخرى التي لا يزال يتعين اكتشافها، بمعدل واحد تقريبًا لكل نجم في درب التبانة.
إذا تمكنا من زيارة أي من هذه الكواكب، فسنرغب بالتأكيد في اختيار كوكب خارج المجموعة الشمسية لديه فرصة جيدة لإيواء الحياة. والمشكلة هي أننا لا نعرف ما إذا كانت الحياة يمكن أن تنشأ في ظروف تتجاوز تلك الموجودة على الأرض، ولا نعرف طيف البيئات التي يمكن أن تنشأ عندما تتشكل الأنظمة الكوكبية، لذا فإن الرهان الأكثر أمانًا هو اختيار كوكب يشبه كوكبنا.
خلال العام الماضي، اكتشف تلسكوب جيمس ويب الفضائي (JWST) علامات محيرة تدل على وجود ثاني أكسيد الكربون والميثان وبخار الماء في أجواء بعيدة عن الكواكب الخارجية. لكن هناك كوكب أقرب كثيرًا إلى الأرض وأود أن أختاره، وهو كوكب (بروكسيما سنتوري بي)، الذي يدور حول أقرب نجم إلى الشمس.
ما زلنا لا نعرف ماهية الظروف على سطح هذا العالم، فنجمه الأصل ضئيل، وهو قزم أحمر كتلته ثُمن كتلة الشمس فقط، كما أنه أضعف بنحو ألف مرة. وهذا أمر جيد، لأن نجمًا قوته تعادل قوة الشمس سيشوي هذا الكوكب الذي يدور حوله حتى يصبح هشا، إلا أن كوكب (بروكسيما سنتوري بي) يمكن أن يتمتع بظروف مثالية للحياة.
تبلغ درجة حرارة التوازن الطبيعية في كوكب (بروكسيما سنتوري بي) سالب 39 درجة مئوية، بناءً على كمية إنتاج الطاقة من شمسها. ومع ذلك، إذا وجد نوع مناسب من الغلاف الجوي، فإن تأثير الحرارة المحبوسة في الغلاف الجوي يمكن أن يرفع هذا إلى شيء أكثر قابلية للحياة. وبالتوقف هنا، سنكتشف ذلك بالتأكيد من خلال نظرة عن قرب على غلافه الجوي، وبالنظر إلى تركيبة الهواء، قد تكون بداية نشأة كوكب (بروكسيما سنتوري بي) أي شيء، بدءًا من عالم المحيط الدافئ إلى كرة متجمدة من الجليد. (وإذا كنت تتساءل عن قدرة الغلاف الجوي على تغيير ظروف الكواكب، فإن درجة حرارة توازن الأرض تبلغ حوالي سالب 20 درجة مئوية أي سالب 1 درجة فهرنهايت، وهي درجة حرارة صالحة للسكن تمامًا بفضل الغازات التي تغطيها، في الوقت الحالي، على الأقل).
إنّ مجرد وجود شيء من السحب أو المحيطات قد يشير إلى إمكانية وجود حياة في هذا العالم الغريب، ولكن حتى لو كانت مجرة درب التبانة قاحلة، يمكنني على الأقل أن أعدكم بغروب للشمس يعد الأكثر روعة فيها. يدور (بروكسيما سنتوري بي) حول نجمه الأم كل 11 يومًا بشكل مغلق، أي أن نفس الجانب من هذا العالم يواجه الداخل دائمًا، مثلما يواجه جانبا واحدا من القمر الأرض دائمًا. أحد جوانب الكوكب يعيش نهارًا دائمًا، بينما الجانب الآخر محاصر في الليل الأبدي، وبين الجانبين يوجد شريط الشفق، المعروف باسم منطقة «الفاصل». هنا، تهب الرياح العاتية من المناطق الحارة جدًا إلى المناطق الباردة المتجمدة، وإذا ما تمكنا من مواجهته، فسنرى مشهدًا غريبًا حقًا، سنرى غروب الشمس معلقًا إلى الأبد في السماء.
منكب الجوزاء
وجهتنا التالية هي نجم ضخم، منتفخ مع تقدم العمر وأكثر إضاءة من الشمس بـ 100 ألف مرة. الكثير منا قد شاهده في وقت أو آخر، متوهجًا باللون الأحمر الداكن في سماء الشتاء الباردة، جالسًا تحت إبط مجموعة نجوم (أوريون)، وهو غير مستقر بشكل مثير للاهتمام، مما يشير إلى أنه يمكن أن ينفجر كمستعر أعظم في أي لحظة.
هذا العملاق النجمي، المعروف باسم (منكب الجوزاء)، ضخم جدًا بحيث يمكن أن مساحته الداخلية تتسع لمئات الملايين من حجم شمسنا، ولو كان موجودا في مركز نظامنا الشمسي لابتلع عطارد والزهرة والأرض والمريخ، ولاقترب من ابتلاع المشتري أيضًا. إنه كبير جدًا في الحجم، وسبب هذا الكبر يعود جزئيًا لأنه وُلِدَ كبيرًا، ولكن في الغالب لأنه وصل إلى المراحل النهائية من حياته وتوسع ليصبح عملاقًا أحمر فائقًا. بعد نفاد الهيدروجين الذي يبقي النار النووية مشتعلة في شمسنا، يقوم منكب الجوزاء بحرق الهيليوم، فيؤدي اندماج نواة الهيليوم إلى إطلاق طاقة أكبر بكثير من اندماج نواة الهيدروجين، مما يؤدي إلى نفخ النجم من الداخل.
وهذا ما يوحي بأن النهاية قد اقتربت. في العادة، لا يكفي الهيليوم الموجود لإيقاد النجم، إلا لمدة مليوني سنة، فبمجرد اختفائه، يحترق النجم بشكل محموم باستعمال عناصر أثقل متبقية، مثل قبطان سفينة يائسة يمزق ألواح الأرضية لإشعال الفرن. يمكن للنجم أن يحرق الكربون لبضع مئات من السنين، ثم الأكسجين لمدة ستة أشهر. وسوف يقضي يومًا أخيرًا في حرق السيليكون وتحويله إلى حديد قبل أن يتوقف الاندماج تمامًا.
ينكسر الضوء المحيط بالنجم المغناطيسي في قاعة كونية كبيرة من المرايا.
عند تلك النقطة، ينهار وزن النجم إلى الداخل تحت تأثير الجاذبية. عندما تهبط المادة الخارجية نحو المركز، فإنها تتسارع إلى جزء لا بأس به من سرعة الضوء. ثم تصطدم بنواة النجم الكثيفة، وترتد مرة أخرى كموجة مفاجئة تتفوق على مليار نجم، هذا هو انفجار نجم مستعر.
لسنوات، ظل علماء الفلك يراقبون عن كثب منكب الجوزاء، على أمل معرفة مدى تقدمه على هذا المسار، والوقت الذي سيتعين علينا انتظاره حتى انفجاره النهائي. وفي وقت سابق من هذا العام، قام علماء الفلك بوضع نموذج لكيفية نبض منكب الجوزاء، حيث يصبح أكثر خفوتًا وأكثر سطوعًا بشكل واضح في السماء. ومن هذا المنطلق، يعتقد العلماء أن النجم في المراحل المتأخرة من احتراق الكربون، مما يعني أن الانفجار سيحدث خلال قرون. ويرى علماء فلك آخرون أن الخفوت ناجم عن حجب سحب المواد الغبارية التي يقذفها النجم المحتضر. في هذه الحالة، ربما لا يزال أمام منكب الجوزاء مئات الآلاف من السنين.
ستخبرنا الرحلات الفضائية المستقبليّة بما يحدث بالفعل. قد نحجز لأنفسنا مقعدًا في الصف الأمامي لواحدة من أروع عروض الألعاب النارية في الكون، مع موجات من الألوان تتدحرج على الطبقات الخارجية للنجم استعدادا للعرض النهائي الحارق. فقط تأكد من أن تأمين السفر الخاص بك محدث، لأن انفجارات النجم المستعر عنيفة بشكل لا يصدق، فحتى لو كنا نراقب من الأرض، فعندما يطلق منكب الجوزاء أخيرًا، سوف يلمع تقريبًا مثل البدر المكتمل لأسابيع متتالية.
مصدر الإشارات الغريبة في الفضاء
لقد حيرت الانفجارات الراديوية السريعة (FRBs) علماء الفلك لفترة طويلة. في عام 2007، كُشف عن ومضة سريعة للغاية من موجات الراديو، أقصر بعشر مرات من ضربة البرق، في بيانات أرشيفية من تلسكوب في أستراليا، إذ أظهرت الإشارة علامات رحلة طويلة أيضًا. وتشير الطريقة التي انتشرت بها ترددات الموجة إلى أن هذا الانفجار قد قطع أكثر من 3 مليارات سنة ضوئية قبل أن يصل إلى الأرض.
وقد سعى علماء الفلك المتحمسون، إلى اكتشاف المزيد من هذه الأحداث الغامضة. ومن خلال البحث في سجلات التلسكوبات الراديوية القديمة في المكان المناسب وفي الوقت المناسب، اكتشفوا العشرات من الإشارات الجديدة، إلا أن أحدا لم يتمكن حتى الآن من فهم سبب حدوثها. وقع أحد الانفجارات في عام 2012 عشر مرات خلال شهرين قبل أن يتوقف. ثم، في عام 2018، زقزقت 21 مرة في ساعة واحدة، إذ صرخت بعض التدفقات الراديوية السريعة مرة واحدة ثم اختفت إلى الأبد.
يبدو أن جميع التدفقات الراديوية السريعة تأتي من الفضاء العميق، بعيدًا عن مجرة درب التبانة، مما جعل دراستها صعبة جدا، لكن في عام 2020، التقط علماء الفلك التدفقات الراديوية السريعة داخل مجرتنا لأول مرة. ومن المثير للاهتمام أن الانفجار جاء من جسم معروف، وهو النجم المغناطيسي SGR 1935+2154، وهو المحطة التالية في جولتنا.
لا يزال علماء الفلك يحاولون التعاطي مع النجوم المغناطيسية، فنحن نعلم أن هذه الأجسام البعيدة تبدأ كبقايا انفجارات نجم مستعر أعظم، فعندما ينهار نجم عملاق ويتحول إلى نجم مستعر أعظم، فإنه يسحق الجزيئات، ثم يجمعها معًا لتشكل كرة كثيفة بشكل لا يصدق، تدور على بعد بضعة كيلومترات فقط، تسمى النجم النيوتروني. وهي كثيفة جدًا لدرجة أن ملعقة صغيرة من مادة النجم النيوتروني تزن حوالي 10 ملايين طن.
تتحول النجوم النيوترونية إلى نجوم مغناطيسية عندما يقوم باطنها بطريقة أو بأخرى باستحداث أقوى المجالات المغناطيسية في الكون، أقوى بمليون مليار مرة من مجال الأرض. لذا يجب على السائحين أن يكونوا حذرين: حتى على بعد ألف كيلومتر من SGR 1935+215، فإن المغناطيسية الشديدة ستمزق ذراتك إلى ضباب ناعم. ومع ذلك، من مسافة آمنة، سنشاهد أنماطًا غريبة ومتلألئة من الضوء تتألق عبر السطح، حيث يقوم النجم المغناطيسي بتشويه الزمكان حوله، بحيث ينكسر الضوء الذي ينتقل بالقرب منه إلى قاعة كونية كبيرة من المرايا.
قد تساعدنا نظرة فاحصة في معرفة كيفية إنتاج النجوم المغناطيسية للتدفقات الراديوية السريعة، ففي شهر يناير، قام SGR 1935+2154 فجأة بتهدئة دورانه الشرس، المعروف باسم خلل الدوران إلى الأسفل، قبل إطلاق ثلاث رشقات راديوية جديدة. تفترض إحدى الأفكار أن رياح الجسيمات المشحونة تتدفق من القطبين الشمالي والجنوبي للنجم المغناطيسي، وتصطدم بالمجالات المغناطيسية وتطلق الانبعاثات، بينما ترى فكرة أخرى أن الدفقات الراديوية السريعة تنتج عن هزات هائلة في قشرة النجم المغناطيسي تسمى «الزلازل النجمية»، وإذا ما كنا محظوظين، فقد نتمكن من رؤية ذلك بأنفسنا.
تأمل في ثقب أسود وحشي
لن تكتمل أي جولة في المجرة دون زيارة الثقب الأسود الهائل في قلب مجرة درب التبانة، حيث نضمن لك عرضًا ضوئيًا ساحرًا، وربما نكتشف أيضًا إشارات مهمة حول الطبيعة الحقيقية للزمكان.
التقط مهندس الراديو (كارل جانسكي) الإشارات الأولى لبرج القوس أ، كما هو معروف، منذ ما يقرب من قرن من الزمان عندما كان يحقق في حالة الكهرباء الساكنة التي كانت تعيق الاتصالات اللاسلكية المبكرة، لكن علماء الفلك أكدوا في عام 1998 بما لا يدع مجالا للشك أن هناك ثقبًا أسود عملاقًا في مركز مجرتنا، ومن خلال المراقبة الدقيقة لكيفية دوران النجوم حول مركز المجرة، أثبتوا وجود جسم تبلغ كتلته حوالي 4 ملايين مرة كتلة الشمس، تُظهر صور التلسكوب نجومًا منغلقة في مدار تحيط بما يبدو أنه لا شيء على الإطلاق.
في العام الماضي، التقط علماء الفلك صورة لهذا الثقب الأسود، إذ قام الفريق الذي يقف وراء (تليسكوب أفق الحدث) بتوصيل مراصد في جميع أنحاء الأرض لبناء ما هو في الأساس تلسكوب بحجم الكوكب. تكشف الصورة الدائرية البرتقالية الغامضة الناتجة عن القرص المتراكم حول برج القوس أ، والتي تصدرت عناوين الأخبار في جميع أنحاء العالم، حلقة من الغاز والغبار المنكوبة، قطرها أصغر من مدار عطارد، تدور حول فتحة كونية.
يتمتع التلسكوب بأعلى دقة حققها علماء الفلك على الإطلاق، فمراقبة برج القوس أ يشبه قراءة الحروف الموجودة على عملة معدنية في نيويورك باستخدام تلسكوب في لندن. ولكن هناك بعض الأسئلة التي لن يتمكن الفيزيائيون من الإجابة عليها إلا من خلال إلقاء نظرة فاحصة.
لطالما كانت البيئات القاسية داخل الثقوب السوداء وما حولها بمثابة ساحة للمنظرين الذين يحاولون إعطاءنا فهما أفضل للفيزياء الأساسية. حاليًا، لدينا نظريتان غير متوافقتين تشرحان كيفية عمل الكون، فنظرية النسبية العامة تعمل على مقاييس وكتل كبيرة، فهي تصف تأثيرات الجاذبية في الكون، ومن ناحية أخرى، فإن نظرية ميكانيكا الكم هي علم الأشياء الصغيرة جدًا. ولمعرفة ما يحدث عندما تتعارض هاتان النظريتان، وأنت تحاول التوفيق بينهما، فأنت بحاجة إلى شيء ثقيل وصغير جدًا في الوقت نفسه. لا يوجد شيء مثل هذا في المختبر، لكن الثقب الأسود مثالي.
تسمى حافة الثقب الأسود، التي لا يمكن حتى للضوء أن يهرب بعدها، بـ«أفق الحدث». يمكن للتجارب الدقيقة التي تراقب كيفية تسارع المادة عند هذه الهاوية الكونية أن تقدم دليلا على نظريات مختلفة حول الجاذبية الكمية، والتي تقول كل واحدة منها أن الزمكان يمكن تقسيمه إلى حزم كمومية صغيرة بطرق مختلفة. وفي الوقت نفسه، فإن دراسة القرص التراكمي المحيط سيعلمنا الكثير عن سلوك الثقب الأسود، فعندما يتدفق الغاز إلى الداخل، فإنه يمكن أن يشعل نوافير الإشعاع للأعلى وللخارج بسرعة تقترب من سرعة الضوء، ولكن نظرًا لأن نوى الثقوب السوداء عادة ما تكون مغطاة بالغبار، فليس لدينا فكرة تذكر عن كيفية حدوث ذلك.
وبغض النظر عما قد نتعلمه، فلا يزال لدينا العرض الضوئي، فأي شيء يعبر أفق الحدث لبرج القوس أ يبتلعه الثقب الأسود، ولكن خارج هذا المحيط مباشرةً، فإنّ الالتواء الشديد للزمكان يشير إلى أن الضوء يمكن سحبه إلى دوائر لا نهائيّة. إنّ الضوء القادم من جميع النجوم في مجرة درب التبانة وخارجها محصور في هذه الطبقة المعروفة باسم «كرة الفوتون». إذن، هذه هي فرصتنا لرؤية فيلم كوني حقيقي لا نهائي.
كوكب ألماس
متى يكون الكوكب ليس كوكبا؟ تكمن إجابة هذا اللغز على بعد حوالي 4000 سنة ضوئية من الأرض، في أحد أغرب الأنظمة الشمسية التي نعرفها. يوجد في المركز نجم نيوتروني سريع الدوران يسمى النجم النابض، والذي يصدر أشعة قوية من الإشعاع مثل المنارة. يدور حول هذا النجم كوكب غامض، كوكب PSR J1719-1438 ب، والذي كان في حد ذاته نجمًا في السابق.
من خلال مراقبة رقصة هذين الكوكبين الغريبين، وحسب علماء الفلك، فإن هذا العالم لا بد أن يكون كثيفًا بشكل لا يصدق، أربع مرات أكثر كثافة من الأرض، وهو الكوكب الأكثر كثافة في نظامنا الشمسي. الطريقة الوحيدة لتفسير ذلك هي أن PSR J1719-1438 ب يتكون في الغالب من الكربون البلوري. وبعبارة أخرى، لدينا هنا عالم الماس العملاق.
ويشتبه علماء الفلك في أن هذا الكوكب قد صنع عن طريق تجريد نجم، فالنجوم الصغيرة مثل الشمس تنتهي حياتها على شكل كرات مدمجة من الكربون والأكسجين تسمى الأقزام البيضاء. من المحتمل أن أشعة النجم النابض قد قشرت الطبقات الخارجية لهذه البقايا النجمية، تاركة النواة البلورية تتلألأ في فراغ الفضاء.
والآن، بما أن سطح هذه الجوهرة الكونية أصبح مغطى بالغبار الواقع بين النجوم ومتفحمًا بإشعاع النجم النابض، فقد يكون سطح هذه الجوهرة الكونية أسود، لا يمكننا أن نتيقن من ذلك، إلا إذا توجهنا إلى هناك. وقد نجد أيضًا أن كوكب PSR J1719-1438 b ليس كوكبًا ماسيًا على الإطلاق، ولكنه كتلة من «مادة الكوارك» الغريبة. يمكن أن تحدث هذه المرحلة الغريبة من المادة عندما ترغم الجسيمات على الاقتراب من بعضها البعض أكثر من الجسيمات في النجم النيوتروني. لا يزال خليط جزيئات مادة الكوارك الأساسية الناتج نظرية افتراضيًا، لكن بعض المنظرين يعتقدون أنه يتحرك مثل سائل عديم اللزوجة.
المجرة القزمة
تظهر مجرة النحات القزمة على شكل كتلة من الريش المجري على مشارف مجرة درب التبانة، لتأخذنا إلى المحطة الأبعد والأخيرة في جولتنا. إنها تستحق رحلة تستغرق 300 ألف سنة ضوئية، حيث إن جارتنا المجرية هي كبسولة زمنية من الماضي العميق للكون.
قبل ثلاثة عشر ونصف مليار سنة، بعد الانفجار الكبير، كان الكون باهتًا بلا ملامح، وخاليًا من الضوء، واستمرت ما تعرف بالعصور المظلمة مئات الملايين من السنين حتى ظهرت النجوم الأولى إلى الحياة من الغاز البدائي.
هذه النجوم الأولى، أو ما تسمى بنجوم السكان الأصليين (III) تختلف كثيرًا عن تلك الموجودة في مجرتنا اليوم. منذ العصور المظلمة، عاشت وماتت أجيال عديدة من النجوم، وأصبحت العناصر الأثقل التي تشكلت في قلب النجوم، مثل الأكسجين والكربون والحديد، جزءًا من الجيل التالي، مما أدى إلى تغيير كيميائيتها وخصائصها إلى الأبد. لكن النجوم الأولى لم تحتوِ على أي من هذه الملوثات. صُنعت نجوم السكان الأصليين III من العناصر التي تكونت في اللحظات التي تلت الانفجار الأعظم وهي: الهيدروجين والهيليوم ورشات من الليثيوم. ونتيجة لذلك، كانت هذه النجوم الأولى أكبر بكثير وأكثر سخونة.
تعد النجوم الأولى أو نجوم السكان الأصليين (III) محورية في تطور الكون لأن حجم هذه المجرات ووفرتها يمكن أن يكشف عن أدلة حول كيفية تشكل المجرات الأولى ونموها، لذلك من المفهوم أن يرغب علماء الفلك في العثور عليها. لقد وجد تلسكوب جيمس ويب الفضائي دلائل عنها، إلا أن النظر إلى هذا الحد البعيد في الزمن الماضي يعني أيضًا النظر بعيدًا، مما يعني الحصول على صور منخفضة الدقة.
وهنا يأتي دور مجرة النحات القزمة، فمعظم نجومها قديمة بطيئة الاحتراق، ويبلغ عمرها حوالي 12 مليار سنة، وهو عمر ليس بعيدًا عن عمر النجوم الأولى، مما يجعل هذه النجوم بمثابة مرسلين مُبشِّرين قادمين من الكون المبكر. في عام 2021، اكتشف علماء الفلك نجمًا معينًا، يُدعى (AS0039) يعاني من نقص شديد في العناصر الأثقل بحيث يبدو أنه ينحدر مباشرة من نجم من النجوم الأول، ونشأ من المادة التي نشأت من موت هذا النجم البدائي. إن استخدام تلسكوب جيد، ودراسة (AS0039 ) عن قرب، سيساعدنا في فهم هذه الأفران الكونية البدائية.
تصادف أيضًا أن مجرة النحات القزمة هي المكان المثالي لانتهاء جولتنا. حتى بالعين المجردة، فإن موقعها سيقدم لك مشهدًا فريدًا من نوعه للدوامة العظيمة لمجرة درب التبانة المتناثرة عبر السماء المتشكلة، وإذا ما أردنا الحديث عن التقاط الصور أثناء الإجازة، فلن تجد منظرا أفضل من هذا لتلتقط الصور بجانبه.
خدمة تربيون عن مجلة «New Scientist»
خلال العقد الماضي، أرسلت المركبات الفضائية تقارير من بعض الوجهات المذهلة داخل نظامنا الشمسي، إذ كشفت المركبات الجوالة عن قنوات نهرية واسعة حفرتها فيضانات قديمة على المريخ. انطلقت المسابير عبر الينابيع الساخنة التي تفور من قمر زحل الجليدي الذي يسمى (إنسيلادوس)، بل حتى إننا قمنا بالطيران عبر جبال بلوتو المتجمدة. ولكن ماذا لو وسّعنا آفاقنا إلى أبعد من ذلك، إلى أبعد من ذلك بكثير؟
دعونا نتخيل أننا نستطيع التجول عبر مجرة درب التبانة في رحلةٍ لا مثيل لها، لمشاهدة معالمها. أين سآخذك؟ حسنًا، الثقوب السوداء الهائلة والنجوم الغريبة النابضة والعوالم الغريبة الشبيهة بالأرض الموجودة في خط سير الرحلة للمبتدئين. وبغض النظر عن المشاهد الهائلة التي سنشاهدها، سنكتشف كيف أن زيارة هذه المناظر الفضائية الغريبة قد تقدم أدلة لبعض الألغاز الكبيرة، بدءًا من كيفية تشكل النجوم الأولى، ومرورا بمعرفة ما الذي ينتج إشارات راديوية غريبة من الفضاء الخارجي، وما إذا كانت هناك حياة خارج الأرض. هنا، إذن، دليلي للسائح الراغب في السفر عبر المجرة.
تيار S1
لنبدأ رحلتنا، سنقفز إلى نهر من النجوم يمر بجوار بابنا الأمامي عبر مجرة درب التبانة بأكملها. لتقدير المساحة الحقيقية لتيار S1، علينا إعادة معايرة إحساسنا بالحجم، لأن طول التيار وعرضه يُحسبان بآلاف السنين الضوئية، فنظامنا الشمسي الواقع في منتصف النهر يشبه حبة رمل في نهر الأمازون.
للعثور على مصدر تيار S1، نحتاج إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ما يقرب من 9 مليارات سنة إلى مرحلة شباب مجرتنا المضطرب، فعند النظر إلى مجرة درب التبانة من الخارج، نشاهدها محاطة بسرب من «مجرات قزمة» أصغر حجما تنحني وتتقوس في مدارات حولها. ولكن عندما دار أحدها في مدار قريب جدًا، وقع ضحية إحدى آكلات النجوم في المجرة.
لقد تم طمس هذه المجرة القزمة قليلة الحظ، لكن نجومها الفردية استمرت في التحرك بين نجوم مجرة درب التبانة، وهو عبارة عن مساحة فارغة في الغالب. واليوم، لا يزال هذا التدفق الممتد من النجوم متميزًا. وفي عام 2017، رصد علماء الفلك، باستخدام المركبة الفضائية (جايا)، 94 نجمًا تتحرك عكس اتجاه مجرة درب التبانة. ولتأكيد شكوكهم، قاموا بقياس التركيب الكيميائي لهذه الأجسام، ووجدوا أنها تحتوي على مستويات أقل من العناصر الأثقل، مثل الحديد، مقارنة بنجوم درب التبانة الأصلية. كان الدليل واضحا لا يمكن دحضه، فتيار S1 هو بقايا مجرة قزمة قديمة.
من المغري الاعتقاد أن السفر عبر تيار S1 سيمنحنا الفرصة لحلّ أحد أكثر الألغاز صعوبة في الفيزياء. تم وضع فرضية المادة المظلمة منذ عقود مضت عندما لاحظنا أن المجرات تتحرك بشكل أسرع مما ينبغي، مما دفعنا إلى استنتاج مفاده أنه لا بد من وجود المزيد من المادة المظلمة، حتى لو لم تتفاعل مع الضوء. تخبرنا قياسات مماثلة لحركات النجوم أن المجرات القزمة غنية بشكل فريد بالمادة المظلمة. لذا فإن تيار S1 هو في الأساس نهر من المادة المظلمة، والذي يصادف أنه يصطدم مع مربع النظام الشمسي وجها لوجه، إلا أنه في الوقت الذي تشير فيه الدراسات إلى أن التحليق باستخدام أفضل أجهزة الكشف لدينا من شأنه أن يحسن احتمالات تحديد المادة المظلمة إذا تشكلت في صورة جسيمات تسمى المحاور، فالحقيقة هي أننا ربما نستطيع فعل ذلك أيضًا من الأرض.
السقوط في عالم مجاور قابل للسكن
لقد اكتشفنا حتى الآن أكثر من 5000 كوكب خارجي يدور حول نجوم أخرى في مجرتنا. ولكن لا يزال هناك مئات المليارات من العوالم الأخرى التي لا يزال يتعين اكتشافها، بمعدل واحد تقريبًا لكل نجم في درب التبانة.
إذا تمكنا من زيارة أي من هذه الكواكب، فسنرغب بالتأكيد في اختيار كوكب خارج المجموعة الشمسية لديه فرصة جيدة لإيواء الحياة. والمشكلة هي أننا لا نعرف ما إذا كانت الحياة يمكن أن تنشأ في ظروف تتجاوز تلك الموجودة على الأرض، ولا نعرف طيف البيئات التي يمكن أن تنشأ عندما تتشكل الأنظمة الكوكبية، لذا فإن الرهان الأكثر أمانًا هو اختيار كوكب يشبه كوكبنا.
خلال العام الماضي، اكتشف تلسكوب جيمس ويب الفضائي (JWST) علامات محيرة تدل على وجود ثاني أكسيد الكربون والميثان وبخار الماء في أجواء بعيدة عن الكواكب الخارجية. لكن هناك كوكب أقرب كثيرًا إلى الأرض وأود أن أختاره، وهو كوكب (بروكسيما سنتوري بي)، الذي يدور حول أقرب نجم إلى الشمس.
ما زلنا لا نعرف ماهية الظروف على سطح هذا العالم، فنجمه الأصل ضئيل، وهو قزم أحمر كتلته ثُمن كتلة الشمس فقط، كما أنه أضعف بنحو ألف مرة. وهذا أمر جيد، لأن نجمًا قوته تعادل قوة الشمس سيشوي هذا الكوكب الذي يدور حوله حتى يصبح هشا، إلا أن كوكب (بروكسيما سنتوري بي) يمكن أن يتمتع بظروف مثالية للحياة.
تبلغ درجة حرارة التوازن الطبيعية في كوكب (بروكسيما سنتوري بي) سالب 39 درجة مئوية، بناءً على كمية إنتاج الطاقة من شمسها. ومع ذلك، إذا وجد نوع مناسب من الغلاف الجوي، فإن تأثير الحرارة المحبوسة في الغلاف الجوي يمكن أن يرفع هذا إلى شيء أكثر قابلية للحياة. وبالتوقف هنا، سنكتشف ذلك بالتأكيد من خلال نظرة عن قرب على غلافه الجوي، وبالنظر إلى تركيبة الهواء، قد تكون بداية نشأة كوكب (بروكسيما سنتوري بي) أي شيء، بدءًا من عالم المحيط الدافئ إلى كرة متجمدة من الجليد. (وإذا كنت تتساءل عن قدرة الغلاف الجوي على تغيير ظروف الكواكب، فإن درجة حرارة توازن الأرض تبلغ حوالي سالب 20 درجة مئوية أي سالب 1 درجة فهرنهايت، وهي درجة حرارة صالحة للسكن تمامًا بفضل الغازات التي تغطيها، في الوقت الحالي، على الأقل).
إنّ مجرد وجود شيء من السحب أو المحيطات قد يشير إلى إمكانية وجود حياة في هذا العالم الغريب، ولكن حتى لو كانت مجرة درب التبانة قاحلة، يمكنني على الأقل أن أعدكم بغروب للشمس يعد الأكثر روعة فيها. يدور (بروكسيما سنتوري بي) حول نجمه الأم كل 11 يومًا بشكل مغلق، أي أن نفس الجانب من هذا العالم يواجه الداخل دائمًا، مثلما يواجه جانبا واحدا من القمر الأرض دائمًا. أحد جوانب الكوكب يعيش نهارًا دائمًا، بينما الجانب الآخر محاصر في الليل الأبدي، وبين الجانبين يوجد شريط الشفق، المعروف باسم منطقة «الفاصل». هنا، تهب الرياح العاتية من المناطق الحارة جدًا إلى المناطق الباردة المتجمدة، وإذا ما تمكنا من مواجهته، فسنرى مشهدًا غريبًا حقًا، سنرى غروب الشمس معلقًا إلى الأبد في السماء.
منكب الجوزاء
وجهتنا التالية هي نجم ضخم، منتفخ مع تقدم العمر وأكثر إضاءة من الشمس بـ 100 ألف مرة. الكثير منا قد شاهده في وقت أو آخر، متوهجًا باللون الأحمر الداكن في سماء الشتاء الباردة، جالسًا تحت إبط مجموعة نجوم (أوريون)، وهو غير مستقر بشكل مثير للاهتمام، مما يشير إلى أنه يمكن أن ينفجر كمستعر أعظم في أي لحظة.
هذا العملاق النجمي، المعروف باسم (منكب الجوزاء)، ضخم جدًا بحيث يمكن أن مساحته الداخلية تتسع لمئات الملايين من حجم شمسنا، ولو كان موجودا في مركز نظامنا الشمسي لابتلع عطارد والزهرة والأرض والمريخ، ولاقترب من ابتلاع المشتري أيضًا. إنه كبير جدًا في الحجم، وسبب هذا الكبر يعود جزئيًا لأنه وُلِدَ كبيرًا، ولكن في الغالب لأنه وصل إلى المراحل النهائية من حياته وتوسع ليصبح عملاقًا أحمر فائقًا. بعد نفاد الهيدروجين الذي يبقي النار النووية مشتعلة في شمسنا، يقوم منكب الجوزاء بحرق الهيليوم، فيؤدي اندماج نواة الهيليوم إلى إطلاق طاقة أكبر بكثير من اندماج نواة الهيدروجين، مما يؤدي إلى نفخ النجم من الداخل.
وهذا ما يوحي بأن النهاية قد اقتربت. في العادة، لا يكفي الهيليوم الموجود لإيقاد النجم، إلا لمدة مليوني سنة، فبمجرد اختفائه، يحترق النجم بشكل محموم باستعمال عناصر أثقل متبقية، مثل قبطان سفينة يائسة يمزق ألواح الأرضية لإشعال الفرن. يمكن للنجم أن يحرق الكربون لبضع مئات من السنين، ثم الأكسجين لمدة ستة أشهر. وسوف يقضي يومًا أخيرًا في حرق السيليكون وتحويله إلى حديد قبل أن يتوقف الاندماج تمامًا.
ينكسر الضوء المحيط بالنجم المغناطيسي في قاعة كونية كبيرة من المرايا.
عند تلك النقطة، ينهار وزن النجم إلى الداخل تحت تأثير الجاذبية. عندما تهبط المادة الخارجية نحو المركز، فإنها تتسارع إلى جزء لا بأس به من سرعة الضوء. ثم تصطدم بنواة النجم الكثيفة، وترتد مرة أخرى كموجة مفاجئة تتفوق على مليار نجم، هذا هو انفجار نجم مستعر.
لسنوات، ظل علماء الفلك يراقبون عن كثب منكب الجوزاء، على أمل معرفة مدى تقدمه على هذا المسار، والوقت الذي سيتعين علينا انتظاره حتى انفجاره النهائي. وفي وقت سابق من هذا العام، قام علماء الفلك بوضع نموذج لكيفية نبض منكب الجوزاء، حيث يصبح أكثر خفوتًا وأكثر سطوعًا بشكل واضح في السماء. ومن هذا المنطلق، يعتقد العلماء أن النجم في المراحل المتأخرة من احتراق الكربون، مما يعني أن الانفجار سيحدث خلال قرون. ويرى علماء فلك آخرون أن الخفوت ناجم عن حجب سحب المواد الغبارية التي يقذفها النجم المحتضر. في هذه الحالة، ربما لا يزال أمام منكب الجوزاء مئات الآلاف من السنين.
ستخبرنا الرحلات الفضائية المستقبليّة بما يحدث بالفعل. قد نحجز لأنفسنا مقعدًا في الصف الأمامي لواحدة من أروع عروض الألعاب النارية في الكون، مع موجات من الألوان تتدحرج على الطبقات الخارجية للنجم استعدادا للعرض النهائي الحارق. فقط تأكد من أن تأمين السفر الخاص بك محدث، لأن انفجارات النجم المستعر عنيفة بشكل لا يصدق، فحتى لو كنا نراقب من الأرض، فعندما يطلق منكب الجوزاء أخيرًا، سوف يلمع تقريبًا مثل البدر المكتمل لأسابيع متتالية.
مصدر الإشارات الغريبة في الفضاء
لقد حيرت الانفجارات الراديوية السريعة (FRBs) علماء الفلك لفترة طويلة. في عام 2007، كُشف عن ومضة سريعة للغاية من موجات الراديو، أقصر بعشر مرات من ضربة البرق، في بيانات أرشيفية من تلسكوب في أستراليا، إذ أظهرت الإشارة علامات رحلة طويلة أيضًا. وتشير الطريقة التي انتشرت بها ترددات الموجة إلى أن هذا الانفجار قد قطع أكثر من 3 مليارات سنة ضوئية قبل أن يصل إلى الأرض.
وقد سعى علماء الفلك المتحمسون، إلى اكتشاف المزيد من هذه الأحداث الغامضة. ومن خلال البحث في سجلات التلسكوبات الراديوية القديمة في المكان المناسب وفي الوقت المناسب، اكتشفوا العشرات من الإشارات الجديدة، إلا أن أحدا لم يتمكن حتى الآن من فهم سبب حدوثها. وقع أحد الانفجارات في عام 2012 عشر مرات خلال شهرين قبل أن يتوقف. ثم، في عام 2018، زقزقت 21 مرة في ساعة واحدة، إذ صرخت بعض التدفقات الراديوية السريعة مرة واحدة ثم اختفت إلى الأبد.
يبدو أن جميع التدفقات الراديوية السريعة تأتي من الفضاء العميق، بعيدًا عن مجرة درب التبانة، مما جعل دراستها صعبة جدا، لكن في عام 2020، التقط علماء الفلك التدفقات الراديوية السريعة داخل مجرتنا لأول مرة. ومن المثير للاهتمام أن الانفجار جاء من جسم معروف، وهو النجم المغناطيسي SGR 1935+2154، وهو المحطة التالية في جولتنا.
لا يزال علماء الفلك يحاولون التعاطي مع النجوم المغناطيسية، فنحن نعلم أن هذه الأجسام البعيدة تبدأ كبقايا انفجارات نجم مستعر أعظم، فعندما ينهار نجم عملاق ويتحول إلى نجم مستعر أعظم، فإنه يسحق الجزيئات، ثم يجمعها معًا لتشكل كرة كثيفة بشكل لا يصدق، تدور على بعد بضعة كيلومترات فقط، تسمى النجم النيوتروني. وهي كثيفة جدًا لدرجة أن ملعقة صغيرة من مادة النجم النيوتروني تزن حوالي 10 ملايين طن.
تتحول النجوم النيوترونية إلى نجوم مغناطيسية عندما يقوم باطنها بطريقة أو بأخرى باستحداث أقوى المجالات المغناطيسية في الكون، أقوى بمليون مليار مرة من مجال الأرض. لذا يجب على السائحين أن يكونوا حذرين: حتى على بعد ألف كيلومتر من SGR 1935+215، فإن المغناطيسية الشديدة ستمزق ذراتك إلى ضباب ناعم. ومع ذلك، من مسافة آمنة، سنشاهد أنماطًا غريبة ومتلألئة من الضوء تتألق عبر السطح، حيث يقوم النجم المغناطيسي بتشويه الزمكان حوله، بحيث ينكسر الضوء الذي ينتقل بالقرب منه إلى قاعة كونية كبيرة من المرايا.
قد تساعدنا نظرة فاحصة في معرفة كيفية إنتاج النجوم المغناطيسية للتدفقات الراديوية السريعة، ففي شهر يناير، قام SGR 1935+2154 فجأة بتهدئة دورانه الشرس، المعروف باسم خلل الدوران إلى الأسفل، قبل إطلاق ثلاث رشقات راديوية جديدة. تفترض إحدى الأفكار أن رياح الجسيمات المشحونة تتدفق من القطبين الشمالي والجنوبي للنجم المغناطيسي، وتصطدم بالمجالات المغناطيسية وتطلق الانبعاثات، بينما ترى فكرة أخرى أن الدفقات الراديوية السريعة تنتج عن هزات هائلة في قشرة النجم المغناطيسي تسمى «الزلازل النجمية»، وإذا ما كنا محظوظين، فقد نتمكن من رؤية ذلك بأنفسنا.
تأمل في ثقب أسود وحشي
لن تكتمل أي جولة في المجرة دون زيارة الثقب الأسود الهائل في قلب مجرة درب التبانة، حيث نضمن لك عرضًا ضوئيًا ساحرًا، وربما نكتشف أيضًا إشارات مهمة حول الطبيعة الحقيقية للزمكان.
التقط مهندس الراديو (كارل جانسكي) الإشارات الأولى لبرج القوس أ، كما هو معروف، منذ ما يقرب من قرن من الزمان عندما كان يحقق في حالة الكهرباء الساكنة التي كانت تعيق الاتصالات اللاسلكية المبكرة، لكن علماء الفلك أكدوا في عام 1998 بما لا يدع مجالا للشك أن هناك ثقبًا أسود عملاقًا في مركز مجرتنا، ومن خلال المراقبة الدقيقة لكيفية دوران النجوم حول مركز المجرة، أثبتوا وجود جسم تبلغ كتلته حوالي 4 ملايين مرة كتلة الشمس، تُظهر صور التلسكوب نجومًا منغلقة في مدار تحيط بما يبدو أنه لا شيء على الإطلاق.
في العام الماضي، التقط علماء الفلك صورة لهذا الثقب الأسود، إذ قام الفريق الذي يقف وراء (تليسكوب أفق الحدث) بتوصيل مراصد في جميع أنحاء الأرض لبناء ما هو في الأساس تلسكوب بحجم الكوكب. تكشف الصورة الدائرية البرتقالية الغامضة الناتجة عن القرص المتراكم حول برج القوس أ، والتي تصدرت عناوين الأخبار في جميع أنحاء العالم، حلقة من الغاز والغبار المنكوبة، قطرها أصغر من مدار عطارد، تدور حول فتحة كونية.
يتمتع التلسكوب بأعلى دقة حققها علماء الفلك على الإطلاق، فمراقبة برج القوس أ يشبه قراءة الحروف الموجودة على عملة معدنية في نيويورك باستخدام تلسكوب في لندن. ولكن هناك بعض الأسئلة التي لن يتمكن الفيزيائيون من الإجابة عليها إلا من خلال إلقاء نظرة فاحصة.
لطالما كانت البيئات القاسية داخل الثقوب السوداء وما حولها بمثابة ساحة للمنظرين الذين يحاولون إعطاءنا فهما أفضل للفيزياء الأساسية. حاليًا، لدينا نظريتان غير متوافقتين تشرحان كيفية عمل الكون، فنظرية النسبية العامة تعمل على مقاييس وكتل كبيرة، فهي تصف تأثيرات الجاذبية في الكون، ومن ناحية أخرى، فإن نظرية ميكانيكا الكم هي علم الأشياء الصغيرة جدًا. ولمعرفة ما يحدث عندما تتعارض هاتان النظريتان، وأنت تحاول التوفيق بينهما، فأنت بحاجة إلى شيء ثقيل وصغير جدًا في الوقت نفسه. لا يوجد شيء مثل هذا في المختبر، لكن الثقب الأسود مثالي.
تسمى حافة الثقب الأسود، التي لا يمكن حتى للضوء أن يهرب بعدها، بـ«أفق الحدث». يمكن للتجارب الدقيقة التي تراقب كيفية تسارع المادة عند هذه الهاوية الكونية أن تقدم دليلا على نظريات مختلفة حول الجاذبية الكمية، والتي تقول كل واحدة منها أن الزمكان يمكن تقسيمه إلى حزم كمومية صغيرة بطرق مختلفة. وفي الوقت نفسه، فإن دراسة القرص التراكمي المحيط سيعلمنا الكثير عن سلوك الثقب الأسود، فعندما يتدفق الغاز إلى الداخل، فإنه يمكن أن يشعل نوافير الإشعاع للأعلى وللخارج بسرعة تقترب من سرعة الضوء، ولكن نظرًا لأن نوى الثقوب السوداء عادة ما تكون مغطاة بالغبار، فليس لدينا فكرة تذكر عن كيفية حدوث ذلك.
وبغض النظر عما قد نتعلمه، فلا يزال لدينا العرض الضوئي، فأي شيء يعبر أفق الحدث لبرج القوس أ يبتلعه الثقب الأسود، ولكن خارج هذا المحيط مباشرةً، فإنّ الالتواء الشديد للزمكان يشير إلى أن الضوء يمكن سحبه إلى دوائر لا نهائيّة. إنّ الضوء القادم من جميع النجوم في مجرة درب التبانة وخارجها محصور في هذه الطبقة المعروفة باسم «كرة الفوتون». إذن، هذه هي فرصتنا لرؤية فيلم كوني حقيقي لا نهائي.
كوكب ألماس
متى يكون الكوكب ليس كوكبا؟ تكمن إجابة هذا اللغز على بعد حوالي 4000 سنة ضوئية من الأرض، في أحد أغرب الأنظمة الشمسية التي نعرفها. يوجد في المركز نجم نيوتروني سريع الدوران يسمى النجم النابض، والذي يصدر أشعة قوية من الإشعاع مثل المنارة. يدور حول هذا النجم كوكب غامض، كوكب PSR J1719-1438 ب، والذي كان في حد ذاته نجمًا في السابق.
من خلال مراقبة رقصة هذين الكوكبين الغريبين، وحسب علماء الفلك، فإن هذا العالم لا بد أن يكون كثيفًا بشكل لا يصدق، أربع مرات أكثر كثافة من الأرض، وهو الكوكب الأكثر كثافة في نظامنا الشمسي. الطريقة الوحيدة لتفسير ذلك هي أن PSR J1719-1438 ب يتكون في الغالب من الكربون البلوري. وبعبارة أخرى، لدينا هنا عالم الماس العملاق.
ويشتبه علماء الفلك في أن هذا الكوكب قد صنع عن طريق تجريد نجم، فالنجوم الصغيرة مثل الشمس تنتهي حياتها على شكل كرات مدمجة من الكربون والأكسجين تسمى الأقزام البيضاء. من المحتمل أن أشعة النجم النابض قد قشرت الطبقات الخارجية لهذه البقايا النجمية، تاركة النواة البلورية تتلألأ في فراغ الفضاء.
والآن، بما أن سطح هذه الجوهرة الكونية أصبح مغطى بالغبار الواقع بين النجوم ومتفحمًا بإشعاع النجم النابض، فقد يكون سطح هذه الجوهرة الكونية أسود، لا يمكننا أن نتيقن من ذلك، إلا إذا توجهنا إلى هناك. وقد نجد أيضًا أن كوكب PSR J1719-1438 b ليس كوكبًا ماسيًا على الإطلاق، ولكنه كتلة من «مادة الكوارك» الغريبة. يمكن أن تحدث هذه المرحلة الغريبة من المادة عندما ترغم الجسيمات على الاقتراب من بعضها البعض أكثر من الجسيمات في النجم النيوتروني. لا يزال خليط جزيئات مادة الكوارك الأساسية الناتج نظرية افتراضيًا، لكن بعض المنظرين يعتقدون أنه يتحرك مثل سائل عديم اللزوجة.
المجرة القزمة
تظهر مجرة النحات القزمة على شكل كتلة من الريش المجري على مشارف مجرة درب التبانة، لتأخذنا إلى المحطة الأبعد والأخيرة في جولتنا. إنها تستحق رحلة تستغرق 300 ألف سنة ضوئية، حيث إن جارتنا المجرية هي كبسولة زمنية من الماضي العميق للكون.
قبل ثلاثة عشر ونصف مليار سنة، بعد الانفجار الكبير، كان الكون باهتًا بلا ملامح، وخاليًا من الضوء، واستمرت ما تعرف بالعصور المظلمة مئات الملايين من السنين حتى ظهرت النجوم الأولى إلى الحياة من الغاز البدائي.
هذه النجوم الأولى، أو ما تسمى بنجوم السكان الأصليين (III) تختلف كثيرًا عن تلك الموجودة في مجرتنا اليوم. منذ العصور المظلمة، عاشت وماتت أجيال عديدة من النجوم، وأصبحت العناصر الأثقل التي تشكلت في قلب النجوم، مثل الأكسجين والكربون والحديد، جزءًا من الجيل التالي، مما أدى إلى تغيير كيميائيتها وخصائصها إلى الأبد. لكن النجوم الأولى لم تحتوِ على أي من هذه الملوثات. صُنعت نجوم السكان الأصليين III من العناصر التي تكونت في اللحظات التي تلت الانفجار الأعظم وهي: الهيدروجين والهيليوم ورشات من الليثيوم. ونتيجة لذلك، كانت هذه النجوم الأولى أكبر بكثير وأكثر سخونة.
تعد النجوم الأولى أو نجوم السكان الأصليين (III) محورية في تطور الكون لأن حجم هذه المجرات ووفرتها يمكن أن يكشف عن أدلة حول كيفية تشكل المجرات الأولى ونموها، لذلك من المفهوم أن يرغب علماء الفلك في العثور عليها. لقد وجد تلسكوب جيمس ويب الفضائي دلائل عنها، إلا أن النظر إلى هذا الحد البعيد في الزمن الماضي يعني أيضًا النظر بعيدًا، مما يعني الحصول على صور منخفضة الدقة.
وهنا يأتي دور مجرة النحات القزمة، فمعظم نجومها قديمة بطيئة الاحتراق، ويبلغ عمرها حوالي 12 مليار سنة، وهو عمر ليس بعيدًا عن عمر النجوم الأولى، مما يجعل هذه النجوم بمثابة مرسلين مُبشِّرين قادمين من الكون المبكر. في عام 2021، اكتشف علماء الفلك نجمًا معينًا، يُدعى (AS0039) يعاني من نقص شديد في العناصر الأثقل بحيث يبدو أنه ينحدر مباشرة من نجم من النجوم الأول، ونشأ من المادة التي نشأت من موت هذا النجم البدائي. إن استخدام تلسكوب جيد، ودراسة (AS0039 ) عن قرب، سيساعدنا في فهم هذه الأفران الكونية البدائية.
تصادف أيضًا أن مجرة النحات القزمة هي المكان المثالي لانتهاء جولتنا. حتى بالعين المجردة، فإن موقعها سيقدم لك مشهدًا فريدًا من نوعه للدوامة العظيمة لمجرة درب التبانة المتناثرة عبر السماء المتشكلة، وإذا ما أردنا الحديث عن التقاط الصور أثناء الإجازة، فلن تجد منظرا أفضل من هذا لتلتقط الصور بجانبه.
خدمة تربيون عن مجلة «New Scientist»