الترجمة عن الفرنسية: حافظ إدوخراز -

نشر الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران (Edgar Morin)، مدير الأبحاث الفخري في المركز الوطني للبحث العلمي والحاصل على الدكتوراة الفخرية من العديد من الجامعات حول العالم، مؤخّرا كتابا بعنوان «لنستيقظ» (صدر عن دار نشر دونويل، 80 صفحة). يستدعي مُنظِّر التعقيد في هذا الحوار ذكريات قرن من الحياة، عرف فيه الحرب والمقاومة، والشيوعية، والأخوة والحب، والبحث والكتابة، ولكن أيضا الموت، الذي عاشه طفلا، لأم أحبّها حبّا بلا حدود.

ما كنت لأصل إلى حيث أنا الآن لو أن...

...أمي، التي كنت أعشقها، لم تمت عندما كنت في العاشرة من عمري. لقد توقّف قلبها عن الخفقان وهي على متن قطار وصل إلى محطة سان لازار، ولم يخبرني أحد بشيء. جاء عمي جوزيف لاصطحابي من المدرسة وأخبرني أن والديّ قد ذهبا للعلاج. وفي يوم الجنازة، جاء والدي لرؤيتي وكان يرتدي ملابس سوداء. وعندما رأيته على تلك الهيئة، أدركت الأمر. أخبرني مرة أخرى أن أمي قد ذهبت في رحلة. كنت أعلم أنها أكاذيب وأغلقت على نفسي في غرفة صغيرة لكي أبكي. ثم قالت لي خالتي كورين، شقيقة أمي: «من الآن فصاعدا، أنا هي أمّك». ولقد بدا لي ذلك انتحالا. لم أعش وفاة أمي فحسب، وإنما أيضا القطيعة مع أشخاص أحببتهم، والدي وخالتي. لقد كانت عزلة مطلقة.

•ما الذكريات التي تحتفظ بها عن أمّك؟

لقد تعرّضت لإصابة في القلب ونُصحت بعدم الإنجاب. لقد حاولت إجهاضي، لكنني صمدت. كنت طفلها الوحيد. كانت أمي متعلّقة بي أكثر لأنه لم يكن بوسعها إنجاب أطفال آخرين. لدي ذكريات قوية وضبابية عنها. كانت تصطحبني إلى صالون الشاي في متاجر لافاييت أو إلى خيّاطتها لتصنع لي بِدلة البحّار الصغير. لم أكن أجد الرغبة في الذهاب إلى المدرسة، وكنت أفضّل البقاء قريبا منها. ذات مرة، وأثناء رحلة بالقرب من بحيرة جيرارميه، أُغمي عليها، وأتذكر كيف هلعت. لكني نسيت صوتها. كان اسم والدتي لونا. ولفترة طويلة، كنت أشبّهها بالقمر، وبالإلهة عشتروت التي تصلي لها سلامبو (كاهنة معبد تانيت في رواية الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير – المترجم). ولا تزال ذكراها تعود في لحظات الحزن حتى اليوم. ولم أتعافى قطّ من وفاتها. وحلمت بها طوال حياتي.

•ماذا كنت ترى في هذه الأحلام؟

أتذكّر أحد هذه الأحلام بوضوح شديد. كان ذلك في عام 1969، وكنت أعيش حينها في كاليفورنيا، حيث كنت في ضيافة معهد سالك (Salk Institute). دعوت والدي وخالتي للانضمام إليّ (تزّوجا بعد وفاة عمي جوزيف). وفي اليوم الذي سبق وصولهم، حلمت أنني في أسفل تلة وأن حافلة تظهر في قمتها. ينزل منها العشرات من الناس ويسيرون نحوي. وفجأة، ألمح بينهم أمّي. نركض نحو بعضنا البعض، ونتبادل القُبل. ثم إذا بها تقول لي: «لا أستطيع البقاء، يجب أن أستقلّ القطار». استيقظت وعيناي تدمعان. ولكن بعد ذلك مباشرة، شعرت بالارتياح لأنني تمكنت أخيرا من توديعها.

•كيف كان تأثير وفاة أمّك على حياتك؟

لقد أدركت مبكّرا جدّا مأساة الوجود، وكنت أعاني بسبب الحاجة غير المُشبعة إلى الحب، وإلى الأخوة أيضا. لقد كنت طفلًا منعزلًا للغاية، وفي خِضمّ هذه العزلة الكاملة، عملت على تثقيف نفسي. لقد قرأت، وذهبت إلى السينما، واستمعت إلى الموسيقى، وقمت بزيارة متحف اللوفر. باختصار، لقد كوّنت نفسي. تركت بعض الأعمال التي اكتشفتها في تلك الفترة أثرًا دائمًا في نفسي. ففي الموسيقى، وضعتني الحركة الأولى للسيمفونية التاسعة لبيتهوفن في حالة قريبة من المسّ. وفي السينما، ترك كلّ من فيلم «الحرية لنا» للمخرج الفرنسي رونيه كلير (René Clair)، والمسرحية الأوبرالية «البنسات الثلاثة» للمخرج النمساوي جورج فيلهلم بابست (Georg Wilhelm Pabst)، بصمة على مرحلة مراهقتي. وفي ميدان الفنون، أُعجبت بفن القرن الخامس العشر في إيطاليا (Quattrocento)، وبلوحة الراقصة الصغيرة للرسام الفرنسي إدغار دوغا (Edgar Degas)، خلف إطارها الزجاجي. أما في الأدب، فقد بقيت بصمة رواية «الجريمة والعقاب» للأديب الروسي فيودور دوستويفسكي طوال حياتي.

•ما الذي يلمسك في أدب دوستويفسكي؟

تبهرني شخصياته، وخاصة النساء منها، مثل: الصغيرة صونيا، العاهرة والقديسة في الوقت نفسه، التي تتحمّل أبا سكّيرا وأبلها. ثمة ذلك الشعور بالبؤس الإنساني وبالمعاناة الممزوج بالرحمة والقدرة على الخلاص. يقول فرويد إننا نشعر دائما بالذنب بسبب وفاة والدينا: ربما أكون قد شعرت بالذنب لوفاة أمّي، وكنت أقول لنفسي إنني أستطيع أن أعوّض عن ذلك. على أية حال، وجدت في دوستويفسكي عمق المعرفة بالنفس البشرية، بتناقضاتها، وغرائبها، وقد عشت ذلك كاستنارة. هذا الكاتب يلمس قلبي وروحي في نفس الوقت.

•بعد عام من وفاة أمّك، أُصبت بالمرض...

أعتقد أن جسدي، كياني العميق، كان يتخلى عن الحياة. لم يفهم أحد مما كنت أعاني. استدعى طبيب الأسرة مجموعة من الأطباء الذين قاموا في آخر الأمر بتشخيص مرض الحمى القلاعية. كنت أعاني من قروح في الحلق، تقوم خالتي بإزالتها الواحدة تلو الأخرى كما تحاول خفض الحمى بواسطة الثلج. لقد شعرت بالخيانة عندما رأيت والدي وخالتي يتبادلان القُبل ذات يوم، لكن هذه المرأة قد أنقذت حياتي.

•في أيّ بيئة عائلية نشأت؟

كانت عائلتي سفاردية، من أصل إسباني وإيطالي. وفي بداية القرن التاسع عشر، هاجر كلا الفرعين من العائلة إلى سالونيك، وهي مدينة يونانية ذات أغلبية يهودية إسبانية. كان والدي ينتمي إلى برجوازية سالونيك التي كانت تتمتع بثقافة فرنسية عظيمة. كان يعرف جميع أغاني المقهى الاحتفالي الباريسي، وكان يحلم بباريس. وهاجر إلى فرنسا في الأخير عام 1915 أو 1916. كما هاجرت عائلة أمّي أيضا إلى فرنسا. لقد ولدت في باريس عام 1921، في شارع ميرون، في الدائرة التاسعة.

•ما الذكريات التي تحتفظ بها عن والدك؟

كان يودّ أن يكون طبيبا، لكن والده أخبره أن التعليم الجامعي جد مكلّف، فافتتح متجرا لبيع الجوارب بالجملة في حيّ سونتييه بباريس. لقد كان رجلا طيّب النفس، وكان يغني طوال الوقت. لقد كان يحميني أكثر من اللازم، الأمر الذي كان يزعجني. عندما كان عمري خمسة عشر عاما، أردت الذهاب إلى اليونان. لم تكن هناك رحلات سياحية بعدُ في ذلك الوقت. في البداية قال نعم، ثم قال لي في آخر لحظة: «إذا أردت أن تقتل أباك فاذهب إلى اليونان». لقد كان رجلًا شرقيًا! أعمالي السياسية الأولى قمت بها دون علمه. لكن حينما توجّب عليّ، في فترة المقاومة، أن أتّخذ لنفسي هويّة أخرى، اضطررت إلى إخباره. لقد حشد العائلة بأكملها لثنيي عن ذلك. وبعد ذلك بوقت طويل، أمضيت سنوات أتصالح معه، وأتعرّف إلى فضائله، وطيبته، وميزاته الأخلاقية. ورثت منه الاستمتاع بالحياة. وورثت عن أمّي كآبة عميقة. أعيش الاثنين بشكل متناوب.

•كيف اخترت مسارك الدراسي؟

عندما كنت في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة من عمري، ناضلت في صفوف حزب صغير، وهو الحزب الجبهوي، الذي كان يريد النضال على جبهتين، ضد كلّ من الستالينية والفاشية. وبعد حصولي على البكالوريا، قال لي أحد زملائي، وهو جورج دلبوي (Georges Delboy): «لكي نفهم عصرنا جيدا، لا بد من أن نسير على خطى كارل ماركس الذي كان في الوقت نفسه فيلسوفا ومفكرا اقتصاديا وعالم أنثروبولوجيا ومؤرخا وسياسيا». ولذلك، فقد قمت بالتسجيل في مسالك الفلسفة (حيث كان علم الاجتماع يُدرّس أيضا)، والتاريخ والجغرافيا، والقانون (من أجل دراسة الاقتصاد أيضا) والعلوم السياسية. كانت هذه اللحظة حاسمة. فلقد حصلت على تكوين متعدد التخصصات، والذي سوف يروي بعد ذلك مغامرتي الفكرية بأكملها.

•متى غادرت منزل والدك؟

حين تمّ تجنيد والدي في عام 1939، استقبلتني أخته هنرييت. وفي يونيو 1940، عندما كنت في التاسعة عشرة من عمري، سمعت في الراديو أن الامتحانات في باريس قد عُلّقت بسبب الزحف الألماني، فاستقلت آخر قطار يغادر إلى مدينة تولوز. سجّلت نفسي في مركز الطلاب اللاجئين، والذي سأصبح مسؤولا عنه. وقد أسعدني أن أكون مفيدا للآخرين. اكتشفت معنى الأخوة وعالما بأكمله: كلارا مالرو (Clara Malraux)، التي ستحظى بأهمية كبرى في حياتي، والكاتب والمقاوم جون كاسو (Jean Cassou)، الذي أُكنّ له تقديرا كبيرا، والمؤرخ جون بيير فيرنون (Jean-Pierre Vernant)، الذي كان قد انضم للتو إلى المقاومة... لقد حظيت بحياة حافلة من الناحية الفكرية والعاطفية.

دفعني صديقي كلود دريفوس (Claude Dreyfus)، الشيوعي الذي كان لديه ثلاثة أصنام: ستالين وروبسبير (Robespierre) ويسوع، إلى العمل. بدأت معه وبصحبة شريكتي فيوليت في كتابة نقوش على الجدران: «يسقط بيتان، لافال...». وعندما دخل الألمان إلى المنطقة الجنوبية، غادرت إلى مدينة ليون من أجل مواصلة المقاومة إلى جانب زميلي جاك فرونسيس رولون (Jacques-Francis Rolland)، ضمن صفوف القوات المتحدة للشباب الوطني. ثم عرّفتني كلارا مالرو على أندريه أولمان (André Ulmann)، وهو سجين سابق أنشأ حركة مقاومة برفقة ميشيل كايو (Michel Cailliau)، ابن شقيقة الجنرال دوغول؛ قام أولمان بتجنيدي. لقد اندمجت هذه الحركة لاحقا مع حركة فرونسوا ميتيرون (François Mitterrand)، الذي تزعّم التنظيم المنبثق عن هذا الاندماج.

•قُلتَ في مناسبات عديدة أن المقاومة قد أعطت معنى لحياتك...

لقد خضت معركة داخلية ضد خوفي ورغبتي في الاختباء. ثم أدركت الفرق بين العيش والبقاء على قيد الحياة. أن تعيش هو أن تكون قادرا، عند الضرورة، على المخاطرة بحياتك. في ذلك اليوم أصبحت بالغا. كان المقاومون، حتى أولئك الذين لم يكونوا شيوعيين، يعتقدون أن مجتمعا أفضل سيولد من ثنايا الحرب. لذلك كان هناك هذا الأمل الكبير، والشعور بخوض مغامرة جماعية. لقد كانت فترة كنت فيها على وفاق تام مع نفسي.

•كيف شكّلتك هويّتك اليهودية؟

هويّتي متعددة. أشعر أنني فرنسي، ومتوسطي جدّا (نسبة إلى البحر الأبيض المتوسط – المترجم)، ومرتبط بإيطاليا وإسبانيا، وأشعر أنني يهودي، كما أشعر أنني مواطن عالمي. أشعر بكل هذا دفعة واحدة. لم أتلقّ أي تعليم ديني. لقد أصرّت شقيقة والدي على أن أؤدي طقوس البلوغ في اليهودية (بار ميتسفا)، وهو ما فعلته على عجل، دون أن أفهم أي شيء، لأنني لم أكن أتكلم كلمة واحدة بالعبرية. لم أعانِ قطّ شخصيا من معاداة السامية، غير أني كنت أرى ما يشهد عليها في صحف مثل كونديد (Candide) أو غرانغوار (Gringoire)، وكنت أعرف أنني أنتمي إلى مجتمع عانى من الاضطهاد في الماضي. بالنسبة إلي، يتعلق الشعور بيهوديتي، بالتضامن مع ضحايا الاضطهاد الذي تعرّض له الناس عبر التاريخ. ولهذا السبب ناضلت طوال حياتي ضد كافة أشكال العنصرية، إلى حدّ التعاطف مع الفلسطينيين. وهو الشيء الذي بسببه لُقّبت بعدو إسرائيل. وهذا محض افتراء، وأمر غبي، وأرجو أن تدوّن ذلك! تحدّث فيكتور هوغو (Victor Hugo) عن «هذا الشر الذي يسمّى النّصر». الفائز يحتقر ويغتصب ويضطهد. والخاسر يستحق الرحمة، لأنه تعرّض للإذلال. أنا دائما أقف إلى جانب المهزومين والمظلومين. وباختصار، أنا من الشعب الملعون، ولست من الشعب المختار.

•كيف بدأت الكتابة ولماذا؟

يرجع الفضل في ذلك إلى ديونيس ماسكولو (Dionys Mascolo) وروبير أنتيلم (Robert Antelme). في بداية عام 1945، كنت أعمل في مقرّ هيئة الأركان العامة للجيش الفرنسي الأول، والذي انضممت إليه بسبب خيبة الأمل التي شعرت بها عندما اكتشفت تفاهة الحياة «الطبيعية»، بعد تحرير باريس. كنت أقصّ على أصدقائي ما عاينته في ألمانيا من تدمير. فإذا بروبير، الذي كان قد أنشأ دار نشر صغيرة، يقول لي: «اجعل من هذه المرويات كتابا، وسأقوم بنشره». وهذا ما دفعني إلى كتابة «العام صفر لألمانيا». ولاحقا، بين عامي 1948 و1950، أمضيت عامين في المكتبة الوطنية من أجل تأليف كتاب «الإنسان والموت» (دار لوسوي، 1951)، وهو كتاب متعدد التخصصات استخدمت فيه معارف تنتمي إلى حقول معرفية مختلفة بغرض فهم المواقف الإنسانية تجاه الموت. وهذا ما قرّر مصيري. لقد ظهر الكتاب سنة 1951، وهي السنة نفسها التي انضممت فيها إلى المركز الوطني للبحث العلمي. أصبح لدي راتب منتظم يسمح لي بالكتابة بحرية كاملة.

•لماذا لم تسعَ قطّ وراء منصب في الجامعة؟

في الستينيات، أُنشئت كراسي لعلم الاجتماع في كل مكان تقريبا في فرنسا، وكان بإمكاني بالفعل الترشّح لها. لكنني قلت لنفسي إذا أصبحت أستاذا في الأقاليم، فسوف تغمرني الرغبة في المجيء إلى باريس. عندما نريد الحصول على مثل هذا المنصب الفخري، نعتقد أنه لا بد من التودّد إلى البعض من أجل استمالتهم، ونتمنى التقاعد أو الموت السريع للآخرين، فنحن نعلق في دائرة الطموح المثيرة للغثيان. لقد كان طموحي أنا هو إنتاج عمل صالح في نظري. وأنا سعيد لأنني اخترت الحرية.

•لقد قلت مرارا: إن الشيوعية كانت تجربة عميقة جدا بالنسبة إليك، وإن كنت قد تحلّلت منها. ما الذي يدفعك إلى الالتزام؟

كانت لدي ثقافة معادية للستالينية واضحة للغاية. لكنني قمت بكَبتها أثناء مقاومة الاتحاد السوفييتي لجيوش هتلر، ظانّا مني، بسبب تأثير كتاب «من روسيا المقدّسة إلى الاتحاد السوفييتي» لصديقي جورج فريدمان، أن رذائل الستالينية ترجع إلى تطويق الرأسمالية للاتحاد السوفييتي وإرث التخلف القيصري. لقد اكتشفت بفضل الشيوعية أخوّة الرفاق.

المنحدرين من كل البلدان. كما خُضت كذلك تجربة دينٍ رائع هو دين الخلاص الأرضي، وهو دين يحمل من الأوهام أكثر مما يحمله دين الخلاص السماوي. عندما كنا نذهب إلى مبنى الحزب، كان الأمر أشبه بالذهاب إلى الكنيسة. وكانت صحيفة «الإنسانية» نصّا مقدّسا. وحين يقول أحد القادة «الحزب يطلبك»، فكأن الأسقف يقول للمؤمن «الله يطلبك».

من لم يعش داخل الحزب ليس بوسعه أن يفهم. وتدريجيا مع الوقت، بدأت آخذ مسافة منها، بعد أن اكتشفت لاحقا بعد الحرب أن كل رذائل الستالينية التي ترجع لفترة ما قبل الحرب كانت تعود إلى الواجهة. لم يعد بإمكاني تحمّل ذلك الكمّ من السخافة والتعصّب. وشعرت بالاشمئزاز بعد محاكمة راجك (Rajk) في بودابست عام 1949، حيث اتُهم زعيم شيوعي بطل بالتجسس لصالح النازيين، ثم للأمريكيين؛ لم أجدّد بطاقة عضويتي في الحزب، لكني لم أجرؤ على الحديث حول ذلك. وبعد عامين، تم استبعادي من الحزب، عقب مقال نشرته لي صحيفة France Observateur، بسبب أني كتبت في «مجلة خدمة الاستخبارات» هذه. بكيت في ذلك اليوم، لكني كنت سعيدا في اليوم التالي.

•في الولايات المتحدة، سوف تُصاب بالمرض، وستكون تلك لحظة قطيعة...

بعد سفري إلى أمريكا اللاتينية، برفقة صديقتي «ماغدا»، وعَدت زوجتي «فيوليت» بأنني سألتقي بها في مؤتمر علم الاجتماع في واشنطن عام 1962، وأننا سنذهب بعد ذلك إلى كاليفورنيا. شعرت طوال الرحلة بالنعاس والتعب. ظنّت «فيوليت» أن الحنين إلى «ماغدا» هو ما كان يغمرني. وحينما كنا على جسر البوابة الذهبية في سان فرانسيسكو، بدأت أشعر بالحمى. نُقلت بعدها إلى مستشفى مونت سيناي بنيويورك لتلقي العلاج ضد التهاب الكبد الحاد. وضعني الأطباء في حالة غيبوبة اصطناعية. لقد كان هذا المرض نقطة قطيعة، وتلا ذلك فترة من المساءلة العميقة على المستويين الشخصي والفكري. أدركت أنني كنت أعيش حياة مشتّتة، وأنني كنت بحاجة إلى التركيز من أجل تحديد الأفكار التي أكترث لها حقّا. وعندما عدت إلى فرنسا، أقمت في الجنوب، وعملت خلال فترة النقاهة على تأليف كتاب جديد بعنوان «لبّ الموضوع» (دار لوسوي، 1969)، تأمّلت فيه حول مفهوم العالم والحياة وحول حياتي الخاصة. عند عودتي إلى باريس، انفصلت عن زوجتي ورفيقتي المخلصة في المقاومة، «فيوليت»، وتركت شقّتي، وكتبي (باستثناء عشرة كتب)، وسيارتي، وعشت في غرفة للضيوف في زُقاق «Blancs-Manteaux». وبدأت حياتي من جديد.

•لقد ألّفت عشرات الكتب. أيّ واحد منها أكثر أهمية في نظرك؟

لا ريب أن كتاب «المنهج» هو أهمّها. لقد استثمرت فيه كل مواردي الشخصية والفكرية. لقد تطلّب عملا طويلا للغاية. صدر الجزء الأول منه عام 1977، وآخر جزء عام 2000. يعدّ هذا العمل في نظري ضروريا من أجل إصلاح المعرفة والفكر، ولمواجهة تعقيدات الحياة الفردية والاجتماعية والسياسية والكوكبية. لقد تأسّفت مرارا لكون هذا الكتاب ليس معروفا على نطاق أوسع، ولم يدخل إلى الثقافة. لفترة طويلة، كان الأشخاص الذين أصادفهم في الشارع يقولون لي كلمات طيبة لأنهم قد استمعوا إليّ على راديو فرنسا للثقافة أو شاهدوني على التلفاز. كانوا يخاطبون موران الإنساني والإعلامي، وليس الشخص الذي عمل دون كلل أو ملل طوال حياته على المعرفة.

•يحتلّ الحب أيضا مكانا مركزيا في حياتك...

تعجبني هذه العبارة التي قالها القديس بولس: «إن كنتُ فاقدا للحب، فلست شيئا». لقد قلت إن موت أمي قد جعلني أشعر بعطشٍ كبير للحب. حتى أني لم أحبب إلا النساء اللاتي عانين أثناء مرحلة الطفولة. كنت أتعرّف على هذا الألم الذي يشبه ألمي. كان هذا هو حال إدفيج (Edwige)، التي عنت لي الكثير، والتي عشت معها لمدة عشرين عاما. التقيتها عندما وصلت إلى تشيلي عام 1961. لقد أسرتني منذ الوهلة الأولى بوجهها النقي ذي العينين الزرقاوين، لكنها كانت متزوجة وكان لديها عشيق تزوجته فيما بعد. كنّا نعلم أننا سنلتقي مرة أخرى ذات يوم، وانتظرنا عشرين عاما. كانت إدفيج بالنسبة إليّ شِعرا لا ينضب بفضل روحها وجمالها. عندما توفيت في عام 2008، لم يكن لي عزاء. ثم في عام 2009، التقيت بصباح التي كانت قد تعرّفت عليّ من خلال كتاباتي، في مهرجان فاس للموسيقى الروحية. لقد فقدت أحد والديها مثلي عندما كانت في العاشرة من عمرها، واكتشفت نفسها مثلي في دوستويفسكي، وناضلت مثلي في صفوف حزب ثوري قبل أن تصاب بخيبة الأمل. لقد جمعنا القدر. وعثرت مجددا على الحب وكثافة الحياة في عمر التاسعة والثمانين.

•هل أنت مؤمن؟

لقد أرغمت نفسي على الإيمان بالشيوعية خلال الحرب، ثم شعرت بخيبة الأمل. وأثناء الثورة المجرية، آمنت بالحرية ورغبت في مواكبة هذه الحركة المنتفضة في وجه الظلم. أما اليوم، فإيماني يتعلق بالأخوة والمحبة. لكنني أؤمن أيضا بفضائل الشك. لقد كنت دائما في أعماقي مدفوعا بهذا الصراع بين العقل والعاطفة، وبين الإيمان والشك. العيش والتفكير بالنسبة إلي، يعنيان مواجهة هذه التناقضات. وحتى إن كنت لا أملك إيمانا ميتافيزيقيا، فلدي شعور دائم بالغموض يلفّ كل شيء، وبالأشياء التي تستعصي على الفهم. لا أزال لا أعرف لماذا ولدت، ولماذا أنا موجود، ولماذا أنا في هذه الغرفة أتحدث إليك؟ لدي دائما هذا الشعور.

•بعد نصف قرن من نشر «الإنسان والموت»، كيف هي علاقتك بالموت؟

لقد بلغت مائة عام من عمري في العام الماضي، ويشير هذان الصفران إلى أنني أقترب أكثر... أحيانا تطوّقني فكرة وينتابني شعور بما هو عصيّ على التفكير، بـ «الأنا» تتحول إلى عدم مطلق. ثم تذهب هذه اللحظات وتحلّ مكانها أخرى. وطالما أنني مدفوع بقوى الفضول والاهتمام والصداقة والحب، فإنني لا أفكر في الموت. ومع أنني أعلم أن لا مستقبل لدي، فإني أستمر في العمل على مشاريع، وخاصة الكتابة.

•هل تؤمن بالحياة بعد الموت؟

لا.

•لكنك تحب المتصوّفين...

نعم، أحب الشعر العميق للقديس يوحنا الصليب، وفكرته التي تقول إنه كلما زادت المعرفة، كلما نقصت، وكلما كان الإنسان عالما كلما قلّت معرفته. البُعد الصوفي ليس بُعدا دينيا. إن الموسيقى التي تلمسني، أو الوجه الذي يأسرني، أو الطبيعة يمكن أن يشعروني بالدهشة ويمنحوني مشاعر صوفية.

•هل تفكر كثيرا في مسألة الأثر وبرأي الأجيال القادمة فيك؟

أعلم أن الخلَف (postérité) غالبا ما ينسى أو يقع في الخطأ. فعلى سبيل المثال، ألفونس دوديه (Alphonse Daudet) أو جيرار دو نيرفال (Gérard de Nerval)، اللذان يعنيان الكثير بالنسبة إليّ، قد أصبحا اليوم في طيّ النسيان. لا يكون الخلَف بالضرورة عادلا. وعلى الرغم من قول ذلك، فإني أودّ أن تلعب أعمالي، وخاصة كتاب «المنهج»، دورا تربويا في المدارس والعقول. أعلم أن البعض يعترضون عليّ، خاصة في العالم الأكاديمي العادي، لكنني أتحمّل بشدة مسؤولية الطريق الذي مضيت فيه. يقول لي بعض الأصدقاء أحيانا: «الوقت مبكّر جدا، سوف تكون على حقّ بعد خمسين عاما». « أتمنى ذلك. هناك مؤلفون، مثل ستندال (Stendhal)، انتظروا طويلا قبل أن يتم الاعتراف بهم».

•ما الذي تعلمته عن نفسك على امتداد عمرك؟

لقد تعلّمت ما الذي شكّل الخيط الناظم لحياتي. حسّ التعقيد والرغبة في التعاطف. إذا كان عليّ أن أعطي درسا في الحياة، فسيكون هذا: العطف والتسامح، وكن دائما في انتظار ما هو غير متوقّع.

•هل تشعر بأي ندم؟

إهمالي لبناتي. لم أكن أبا جيدا مع أنني أحببتهنّ كثيرا. لقد حظيت بحياة مزدحمة جدا بين علاقات الحب وما أسمّيه بـ «رسالتي»، وهي إتاحة نمط من المعرفة حول التعقيد وتقديم تشخيص للأحداث.

•في عام 1961، اشتركت مع المخرج جون روش (Jean Rouch) في إخراج فيلم «وقائع صيف»، حيث توجّه مارسولين لوريدون (Marceline Loridan)، العائدة من معسكرات الاعتقال، هذا السؤال للباريسيين في الشارع: «هل أنت سعيد؟ أعيد السؤال إليك».

في البداية، كان من المقرر أن يحمل الفيلم عنوانا آخر هو «كيف تعيش؟» أي «كيف تتعامل مع الحياة؟» هذا ما أردت فعله، لأنه سؤال كنت أطرحه على نفسي بشدّة: كيف يجب أن نعيش؟ لكن السؤال «هل أنت سعيد؟»، الذي كان مثار اهتمام بالنسبة إلى الفيلم، هو سؤال لا أطرحه على نفسي. ولذا لن أجيب عليه. تعتمد السعادة دائما على ظروف خارجية وداخلية متزامنة. وكلما كانت السعادة أكبر، كلما كانت أكثر هشاشة. من الممكن أن يختفي من تحب، إما أن يتركك أو يغيّبه الموت، كما كان الحال بالنسبة لإدفيج. لقد قضيت أوقاتا سعيدة جدا، لكن هل حياتي سعيدة؟ هذا ما لا أستطيع أن أجيبك عنه. لقد عرفت حياتي المعاناة، والسعادة، والنكسات، والأخطاء، والتيه... أفضّل أن أجيب على سؤال حول شِعر الحياة (الفيض، الاتحاد، الاستمتاع، إلخ)، لأنه هو المصدر الرئيسي للسعادة.

•كيف يجب أن نعيش إذن؟

أن نعيش على نحو شِعري. وأن ننحاز إلى جانب إيروس (الذي يوحّد) ضدّ ثاناتوس (الذي يدمّر). ما أحاول فعله الآن ليس البقاء على قيد الحياة، وإنما الاستمرار في العيش. إنني أستمتع بالخروج في الصباح للسير في أزقة مونبولييه (Montpellier) الصغيرة المشمسة، فألتقي أشخاصا أتبادل الحديث معهم. أنا أشعر حقّا بسرور عظيم بفضل هذه الأشياء اليومية الصغيرة.

•عندما تنظر خلفك نحو الصبي الصغير الذي كنته في الماضي، أيّ شيء تودّ قوله له؟

هل تقبلني صديقا؟

صولن دوغواييه صحفية فرنسية

عن صحيفة لوموند الفرنسية.