أثار فيلم المخرج البريطاني «كريستوفر نولان» «أوبنهايمر»، أدى بطولته النجم الإيرلندي «كيليان ميرفي»، أسئلة عديدة؛ بينها سؤال العلم والأخلاق. ورغم أن هذا السؤال بدا مركزيا وخيطا ناظما لسردية الفيلم، وحواراته، وتنقلاته المتقنة بين الحاضر والماضي والمستقبل في حياة ونشاط وعلاقات عالم الفيزياء الأمريكي «جي روبرت أوبنهايمر» (1904-1967) وعلى مدى ثلاث ساعات، إلا أن سؤال العلاقة بين العلماء والسلطة بدا هو الآخر مركزيا، بل لعله كان حاضرا عن قصد واضح بالتوازي مع سؤال الأخلاق وقلق الضمير الذي يمكن أن يلاحق رجلا وظفّ علمه، ليس لما يخدم البشرية، ولكن لما يدّمرها ويلحق بها الموت والخراب، غير أن أوبنهايمر لم يبدُ مُعذبا بضميره بالقدر الذي يُظهر ندمه عن عمله في إنتاج أول قنبلة ذرية في تاريخ البشرية، لكنه، في المقابل، بدا مُعذبا بما يُشبه «محاكمة الضمير» التي أقامتها له السلطة بسبب ميوله اليسارية وعلاقاته بمنتسبي الحزب الشيوعي الأمريكي في ثلاثينيات القرن العشرين.
لا يمكن القول إن منتجي الفليم أرادوا إدانة الإدارة الأمريكية والمؤسسة الأمنية التي موّلت مشروع «منهاتن» ومختبر «لوس ألاموس» حيث أُجريت الأبحاث وطُورت النظريات التي أنتجت أول أسلحة دمار شامل في العالم، لكنهم أظهروها سلطة أنانية متعجرفة كأي سلطة، ولقد حاول الفيلم إبراز العلاقة المتوترة بين السلطة والعلماء، أو بين السلطة وأصحاب الرأي، وهي مسألة لا يمكن افتعالها، كما لا يمكن رسم صورة حسنة لها في أي زمان ومكان، فكلاهما، السلطة وأصحاب الرأي، يحتقر الآخر ولا يثق به. ولقد نجح كريستوفر نولان في تصوير ذلك في لقاء أوبنهايمر بالرئيس الأمريكي «هاري ترومان» الذي ظهر في الفيلم مُدّعيا ومتعجرفا وهو يتحدث إلى العالِم الذي مكنّ الولايات المتحدة من انتصار سهل في الحرب العالمية الثانية، رغم كلفته الأخلاقية وكلفته البشرية على الطرف الآخر، فقد فتكت القنبلة، التي أسهم أوبنهايمر في إنتاجها، بنحو مائتي ألف إنسان في مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، وقد انتهى اللقاء القصير بين العالِم والرئيس، بمقولة لها دلالاتها، عندما طلب ترومان من أحد مسؤولي إدارته الذي حضر اللقاء، بأنه لا يريد أن يرى مرة أخرى هذا الرجل المتذمر، في الوقت الذي كان الفيزيائي العظيم يدير ظهره لهما مغادرا الغرفة. تلك اللقطة بين رجل السلطة ورجل العلم تظهر عمق الأزمة المزمنة بين السلطة، مهما كانت منتخبة ديمقراطيا - كما كان حال ترومان -؛ والمثقفين والعلماء وأصحاب الرأي، مهما قدموا من خدمات كبرى لبلادهم، فهؤلاء في نظر السلطة ناقدون، متذمرون، ومثيرو قلاقل.
في منظور الفيلم، لا توجد سلطة تحترم العلماء وأصحاب الرأي، مهما تذللّت لهم وتقربت منهم عند حاجتها إليهم، كما حصل في العلاقة بين أوبنهايمر وهيئة الطاقة الذرية الأمريكية، التي سعى مسؤولوها إلى ضمه إلى هيئتها الاستشارية، ثم إلى إقناعه بإنشاء وإدارة «مختبر لوس ألاموس» في نيومكسيكو، وهو أستاذ الفيزياء النظرية الأكثر بروزا حول العالم في ثلاثينيات القرن العشرين، وصاحب النظريات المتقدمة في ميكانيكا الكم والفيزياء النووية، والمثقف ذو الميول اليسارية - الشيوعية كما أظهره الفيلم.
وإذا كان تأنيب أو تعذيب الضمير ليس أمرا جديدا أو استثنائيا، إذ من الطبيعي لرجل يعلم أن نظرياته وبحوثه العلمية قد تُفضي، إذا ما أُسيء استخدامها، إلى دمار العالم، أن يعاني من أزمة الضمير هذه، وتلاحقه التصورات المعذِبة عن «نهاية العالم» كما حصل مع أوبنهايمر، وأيضا مع العالم النووي السوفييتي «أندريه ساخاروف»، الذي كان ضميره أكثر يقظة ومواقفه أكثر حدة من مواقف أوبنهايمر، ما استحق عليها جائزة نوبل للسلام عام 1975، فإن الجديد الذي قاربه الفيلم هو ما يمكن وصفه بـ«أزمة الضمير القومي» لدى من سمّاه التاريخ بأبي القنبلة النووية الأمريكية، فقد عانى أوبنهايمر طوال فترة عمله على إنتاج القنبلة، من عدم توافق قناعاته الثقافية - الإنسانية، وعلاقاته بعلماء مستقلين مثل «آينشتاين»، ونشطاء يساريين بارزين مثل أستاذ الأدب الفرنسي في جامعة كاليفورنيا «هاكون شوفالييه»، مع كونه يهوديا أمريكيا يكنُّ عداءً عميقا لألمانيا النازية لما ارتكبته من فضائع في حق اليهود، والعداء يشمل، بطبيعة علاقات الحرب القائمة حينها، حلفاء ألمانيا، بما فيها اليابان، ويبدو أن مرّكب المظلومية اليهودية من جهة، والالتزام تجاه وطنه الذي يخوض حربا ضد النازية والفاشية من جهة ثانية، تغلّب على «ضميره الثقافي»، والتزامه تجاه الإنسانية، فأكمل أبحاثه التي أنتجت سلاح الدمار الشامل، من دون كثير من عذاب الضمير.
استغرق الفيلم طويلا في أزمة العلاقة بين رجل العلم ورجال السلطة، خصوصا أولائك المحسوبين على التيار المعادي لليسار والنقابات العمالية والذي سيعرف فيما بعد بـ«المكارثية» في الولايات المتحدة، الذين شككوا في وطنية رجل العلم بسبب المزاعم عن انتمائه إلى الحزب الشيوعي، وفي يسارية أو شيوعية زوجته، وأخيه وزوجة أخيه، رغم عمله الفارق والمهم في إنتاج القنبلة الذرية، ومشروع إنتاج الأسلحة النووية التي جعلت أمريكا في المقدمة. تجلى ذلك في جلسة الاستماع أوما يشبه التحقيق والمحاكمة التي عقدتها هيئة الطاقة الذرية الأمريكية والتي انتهت برفض تجديد «الترخيص الأمني» لأوبنهايمر ما يعني عزله من عمله، وإنهاء مستقبله المهني.
نجح خصوم اليسار من رجال السلطة في محاكمة ومعاقبة أحد أهم العلماء والمنظرين في العالم بسبب أفكاره اليسارية المزعومة التي لم تمنعه من التسبب في مقتل مائتي ألف إنسان، وجعل العالم أقل أمنا مما كان وربما إلى الأبد، لأنه أظهر آراء معارضة لانتشار الأسلحة النووية، من دون أن تكون لآرائه قوة فعلية، ومن دون أن تدفعه إلى إعلان معارضته لوطنه كما فعل العالم السوفييتي ساخاروف.
ولعل الجملة الختامية المُعبرة عن الموقف المكلّف الذي يمكن للعلماء وأصحاب الرأي اتخاذه هي رسالة الفيلم؛ فها هو أبو النظرية النسبية «آينشتاين»، الذي هاجر إلى أمريكا، يقدّم لأوبنهايمر خلاصة موقفه من السلطة في بلده ألمانيا؛ عندما ذهب إليه الأخير يشتكي ما يلقاه من بلده أمريكا؛ «أنا غادرت بلدي ولم أعد، لماذا لا تُعطهم ظهرك؟».
لكن العالم الأمريكي لم يكن بقوة العالِم الألماني ولا بقوة العالِم الروسي في اتخاذ موقف القطيعة مع وطنه، ولهذا أسبابه الموضوعية التي تتعلق ببنية السلطة في نظام ديمقراطي مقابل بنية السلطة في نظام غير ديمقراطي، وبما يتمتع به المجتمع الأمريكي من استقلالية تُبقي باب الأمل مفتوحا، استقلالية لم تكن للمجتمع الألماني في عهد النازية، ولا للمجتمع الروسي في عهد النظام السوفييتي.
لا يمكن القول إن منتجي الفليم أرادوا إدانة الإدارة الأمريكية والمؤسسة الأمنية التي موّلت مشروع «منهاتن» ومختبر «لوس ألاموس» حيث أُجريت الأبحاث وطُورت النظريات التي أنتجت أول أسلحة دمار شامل في العالم، لكنهم أظهروها سلطة أنانية متعجرفة كأي سلطة، ولقد حاول الفيلم إبراز العلاقة المتوترة بين السلطة والعلماء، أو بين السلطة وأصحاب الرأي، وهي مسألة لا يمكن افتعالها، كما لا يمكن رسم صورة حسنة لها في أي زمان ومكان، فكلاهما، السلطة وأصحاب الرأي، يحتقر الآخر ولا يثق به. ولقد نجح كريستوفر نولان في تصوير ذلك في لقاء أوبنهايمر بالرئيس الأمريكي «هاري ترومان» الذي ظهر في الفيلم مُدّعيا ومتعجرفا وهو يتحدث إلى العالِم الذي مكنّ الولايات المتحدة من انتصار سهل في الحرب العالمية الثانية، رغم كلفته الأخلاقية وكلفته البشرية على الطرف الآخر، فقد فتكت القنبلة، التي أسهم أوبنهايمر في إنتاجها، بنحو مائتي ألف إنسان في مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، وقد انتهى اللقاء القصير بين العالِم والرئيس، بمقولة لها دلالاتها، عندما طلب ترومان من أحد مسؤولي إدارته الذي حضر اللقاء، بأنه لا يريد أن يرى مرة أخرى هذا الرجل المتذمر، في الوقت الذي كان الفيزيائي العظيم يدير ظهره لهما مغادرا الغرفة. تلك اللقطة بين رجل السلطة ورجل العلم تظهر عمق الأزمة المزمنة بين السلطة، مهما كانت منتخبة ديمقراطيا - كما كان حال ترومان -؛ والمثقفين والعلماء وأصحاب الرأي، مهما قدموا من خدمات كبرى لبلادهم، فهؤلاء في نظر السلطة ناقدون، متذمرون، ومثيرو قلاقل.
في منظور الفيلم، لا توجد سلطة تحترم العلماء وأصحاب الرأي، مهما تذللّت لهم وتقربت منهم عند حاجتها إليهم، كما حصل في العلاقة بين أوبنهايمر وهيئة الطاقة الذرية الأمريكية، التي سعى مسؤولوها إلى ضمه إلى هيئتها الاستشارية، ثم إلى إقناعه بإنشاء وإدارة «مختبر لوس ألاموس» في نيومكسيكو، وهو أستاذ الفيزياء النظرية الأكثر بروزا حول العالم في ثلاثينيات القرن العشرين، وصاحب النظريات المتقدمة في ميكانيكا الكم والفيزياء النووية، والمثقف ذو الميول اليسارية - الشيوعية كما أظهره الفيلم.
وإذا كان تأنيب أو تعذيب الضمير ليس أمرا جديدا أو استثنائيا، إذ من الطبيعي لرجل يعلم أن نظرياته وبحوثه العلمية قد تُفضي، إذا ما أُسيء استخدامها، إلى دمار العالم، أن يعاني من أزمة الضمير هذه، وتلاحقه التصورات المعذِبة عن «نهاية العالم» كما حصل مع أوبنهايمر، وأيضا مع العالم النووي السوفييتي «أندريه ساخاروف»، الذي كان ضميره أكثر يقظة ومواقفه أكثر حدة من مواقف أوبنهايمر، ما استحق عليها جائزة نوبل للسلام عام 1975، فإن الجديد الذي قاربه الفيلم هو ما يمكن وصفه بـ«أزمة الضمير القومي» لدى من سمّاه التاريخ بأبي القنبلة النووية الأمريكية، فقد عانى أوبنهايمر طوال فترة عمله على إنتاج القنبلة، من عدم توافق قناعاته الثقافية - الإنسانية، وعلاقاته بعلماء مستقلين مثل «آينشتاين»، ونشطاء يساريين بارزين مثل أستاذ الأدب الفرنسي في جامعة كاليفورنيا «هاكون شوفالييه»، مع كونه يهوديا أمريكيا يكنُّ عداءً عميقا لألمانيا النازية لما ارتكبته من فضائع في حق اليهود، والعداء يشمل، بطبيعة علاقات الحرب القائمة حينها، حلفاء ألمانيا، بما فيها اليابان، ويبدو أن مرّكب المظلومية اليهودية من جهة، والالتزام تجاه وطنه الذي يخوض حربا ضد النازية والفاشية من جهة ثانية، تغلّب على «ضميره الثقافي»، والتزامه تجاه الإنسانية، فأكمل أبحاثه التي أنتجت سلاح الدمار الشامل، من دون كثير من عذاب الضمير.
استغرق الفيلم طويلا في أزمة العلاقة بين رجل العلم ورجال السلطة، خصوصا أولائك المحسوبين على التيار المعادي لليسار والنقابات العمالية والذي سيعرف فيما بعد بـ«المكارثية» في الولايات المتحدة، الذين شككوا في وطنية رجل العلم بسبب المزاعم عن انتمائه إلى الحزب الشيوعي، وفي يسارية أو شيوعية زوجته، وأخيه وزوجة أخيه، رغم عمله الفارق والمهم في إنتاج القنبلة الذرية، ومشروع إنتاج الأسلحة النووية التي جعلت أمريكا في المقدمة. تجلى ذلك في جلسة الاستماع أوما يشبه التحقيق والمحاكمة التي عقدتها هيئة الطاقة الذرية الأمريكية والتي انتهت برفض تجديد «الترخيص الأمني» لأوبنهايمر ما يعني عزله من عمله، وإنهاء مستقبله المهني.
نجح خصوم اليسار من رجال السلطة في محاكمة ومعاقبة أحد أهم العلماء والمنظرين في العالم بسبب أفكاره اليسارية المزعومة التي لم تمنعه من التسبب في مقتل مائتي ألف إنسان، وجعل العالم أقل أمنا مما كان وربما إلى الأبد، لأنه أظهر آراء معارضة لانتشار الأسلحة النووية، من دون أن تكون لآرائه قوة فعلية، ومن دون أن تدفعه إلى إعلان معارضته لوطنه كما فعل العالم السوفييتي ساخاروف.
ولعل الجملة الختامية المُعبرة عن الموقف المكلّف الذي يمكن للعلماء وأصحاب الرأي اتخاذه هي رسالة الفيلم؛ فها هو أبو النظرية النسبية «آينشتاين»، الذي هاجر إلى أمريكا، يقدّم لأوبنهايمر خلاصة موقفه من السلطة في بلده ألمانيا؛ عندما ذهب إليه الأخير يشتكي ما يلقاه من بلده أمريكا؛ «أنا غادرت بلدي ولم أعد، لماذا لا تُعطهم ظهرك؟».
لكن العالم الأمريكي لم يكن بقوة العالِم الألماني ولا بقوة العالِم الروسي في اتخاذ موقف القطيعة مع وطنه، ولهذا أسبابه الموضوعية التي تتعلق ببنية السلطة في نظام ديمقراطي مقابل بنية السلطة في نظام غير ديمقراطي، وبما يتمتع به المجتمع الأمريكي من استقلالية تُبقي باب الأمل مفتوحا، استقلالية لم تكن للمجتمع الألماني في عهد النازية، ولا للمجتمع الروسي في عهد النظام السوفييتي.