يمكن اعتبار هذا المقال تكملة للمقال السابق المنشور الأسبوع الماضي في هذا العمود بعنوان: (وجهة نظر بشأن المسابقات والنشاط الموسيقي في بلادنا)، وكان يدور حول جدوى إقامة المسابقات لاكتشاف المواهب الغنائية في الوقت الذي فيه الواقع الموسيقي شبه جامد بسبب ضعف برامج المؤسسات المعنية بالأنشطة الموسيقية الإبداعية التي من شأنها استيعاب الفائزين وتنمية مهاراتهم. وكاتب المقال ينظر إلى هذا النشاط الإبداعي «المنتظر» باعتباره استثمارا طويل الأمد في المواهب والكفاءات الموسيقية الوطنية، وأداة فعالة من شأنها المحافظة على المترسخ من التقاليد الموسيقية من جهة، وفتح آفاق جديدة أمام الفنانين العُمانيين الذين يسعون إلى اكتشاف أنماط موسيقية وتعابير فنية جديدة من جهة أخرى.

ومعظمنا يدرك أهمية الفعاليات الموسيقية التي تنظم بشكل دائم في بعض البلدان وأثرها على النشاط الثقافي والموسيقي، وبسبب مكانة هذه الأنشطة في الخريطة الثقافية الدولية يتطلع الفنانون من مختلف البلدان والتوجهات الفنية إلى المشاركة فيها.

والموسيقى العُمانية متنوعة وثرية بأنماطها الغنائية التقليدية والعودية الحديثة، وممارسوها يحملون مهارات متنوعة.

ويلاحظ كاتب المقال 3 توجهات فنية أساسية في الممارسة الموسيقية العُمانية المعاصرة مع وجود تفاصيل فنية عند كل توجه من تلك التوجهات يمكن تنميتها لتكوّن مسارها الإبداعي المستقل. والتوجه الفني التقليدي المحافظ أول هذه التوجهات الفنية والأكثر رسوخا في المجتمع والثقافة العُمانية بسبب تقاليده الفنية المتوارثة. أما ثاني هذه التوجهات ذلك الذي أُطلق عليه الموسيقى العودية، وهو بالأصل ليس توجها فنيا جديدا، ولكنه متجدد ويستوعب قوالب وأساليب فنية حديثة، ويشتغل ممثلوه على قوالب فنية محلية وعربية في سياق التطور الفني للموسيقى العربية. والتوجه الهجين هو ثالث هذه التوجهات ويقع بين التوجهين السابقين إن صح الوصف، يشتغل ممثلوه من ناحية على قوالب فنية تقليدية عُمانية متوارثة، ومن ناحية أخرى يوظفون أساليب الموسيقى العودية ويستعملون عددا لا بأس به من الآلات الموسيقية غير التقليدية وأساليب أدائها الفني. ومن الملاحظ أن عددا من فنون الغناء التقليدي في مدينة صلالة مثل: البرعة، الربوبة، والطبل العربي (طبل النساء)، وحتى الشرح، والمدار، هجر ممارسوها تماما أساليب أدائها القديمة. وبهذه الطريقة تؤدى العيالة (الحماسية) وبعض الأعمال الغنائية «البوزلفية، والبن عبادية»، ولكن في الوقت نفسه ظل الممارسون التقليديون يحافظون على أساليب الأداء القديمة على عكس ما حصل في صلالة. وفي هذه المناسبة أتطلع إلى أن يحافظ أصحاب هذا التوجه الفني الهجين على أصول القوالب الفنية التقليدية لتلك الأنماط الغنائية وأساليب أدائها اللحني والإيقاعي، وعدم تبسيطها بالانجرار نحو الاكتفاء بالأجزاء السريعة منها بتقليد قالب المذهب والكوبلية السائد في الغناء العودي الحديث.. إن هذه الأنماط الغنائية لها قوالبها الفنية الخاصة ومن الأهمية استيعابها وإتقانها، والنجاح الفني لهذا التوجه، يتحقق عند التمكن من أداء قوالبها الفنية اللحنية والإيقاعية بأساليب موسيقية مبتكرة وراسخة.

وفي هذه المناسبة أتطلع إلى إقامة مهرجان للموشحات العُمانية والعربية، فرغم حداثة هذا الفن الغنائي في عُمان إلا أنني ومن واقع تجربتي أرى أن مثل هذه الفعالية التخصصية ستحظى باهتمام الجمهور. من جهة أخرى، إن العديد من فنون الغناء العُماني التقليدي بطبيعتها مهرجانات، خاصة تلك التي من أصول أدائها الارتجال الشعري ويتابعها جمهور واسع، وأبرزها: الرزحة، والهبوت، والميدان. وأقترح إقامة مهرجانات سنوية لهذه الفنون وتهيئة بنية أساسية لممارستها بحيث تكون مناسبة لحضور أكبر عدد من المتابعين والمشاركين. إن تنظيم مهرجانات للفنون الشعرية والغنائية التنافسية سيكون له أثر كبير على هذه الفنون والجهود المبذولة للمحافظة عليها بإبقائها حية جاذبة لمختلف الشرائح الاجتماعية مع مردود اقتصادي لممارسيها وهم ليسوا بالعدد القليل.

وهكذا نحن أمام واقع فني حي، ولكن غير مستثمر استثمارا مثاليا، لهذا يبدو جامدا في الظاهر مع أنه نشط في المضمون كأنه كنز مدفون.

وفي هذه المناسبة أتطلع إلى التوقف عن التذكير في هذه المقالات بأهمية هذه الفعاليات، والتوجه للكتابة عنها كواقع دائم ونقد المشاركين فيها وأعمالهم الموسيقية ومستوياتها الفنية وتوجهاتها الثقافية.

مسلم الكثيري موسيقي وباحث