أحداث وتكهنات متلاحقة شهدتها الأيام الماضية في المشهد العالمي، الرابط بينها ينذر أننا أمام تحديات نوعية، وهذه التحديات بقدر ما تستوجبُ النظر في آفاق التعاون الدولي؛ بقدرِ ما تتطلب قدرًا من الحصافة الداخلية -على مستوى الأقطار نفسها- في سبيل تصميم سياسات عامة (مرنة، استباقية، مستدركة، حساسة) إزاء المتغيرات اللحظية والمتغيرات متوسطة الأجل. وربما نسلّط الضوء هنا على ثلاث التقاطات أساسية: أولها: تصريحُ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، الذي نادى بضرورة اتخاذ إجراءات حاسمة لتفادي الكوارث التي بات يولّدها التغير المناخي، ويأتي التصريحُ في أعقاب موجات الحرارة القياسية، التي شهدتها بعض بلدان العالم، وتحديدًا في منطقة البحر الأبيض المتوسط، والمحيط الأطلسي الشمالي، حيث أكد جوتيريش أن درجات الحرارة المرتفعة تنذر بما سماهُ بدء «عصر الغليان العالمي».

الحدث الآخر؛ هو إعلان بعض الدول قيودًا على صادراتها من السلع الغذائية (الأساسية)، وذلك في أعقاب أزمة «مبادرة البحر الأسود». ويتوقع أن يشكّل الاتجاه العالمي الراهن نحو «سياسات تقييد الصادرات» فيما يتعلق بالموارد الغذائية الأساسية تفاقمًا في «أزمة الغذاء العالمية». وهي ثالث الالتقاطات التي نود التركيز عليها؛ كونها لا ترتبط فقط بتزايد «الجوع العالمي»، وإنما تمتد لتشمل زيادة في أسعار الغذاء على المستوى العالمي، وتهديد مدخرات الأسر خصوصًا المتوسطة/ الأشد فقرًا، عوضًا عن ظهور أزمات «سوء التغذية» التي تهدد مسارات الطفولة والتعلم في بلدان مختلفة من العالم.

يبدو القاسم المشترك أمام الالتقاطات الثلاث السابقة ضرورة التفكير في حالة الموارد العالمية، وتحقيق مقتضيات الاكتفاء الذاتي، وحفز القوة البشرية والإنتاجية الداخلية في الاتجاه نحو القطاعات والصناعات التي تحقق الاكتفاء الذاتي بأكثر وفرة ممكنة، وأقل كلفة. فيما يتعلق بحالة الموارد العالمية، تتصاعد التحذيرات منذ عقود حول تقلص نسب تدوير الموارد الطبيعية عالميًا. تقرير الفجوة الدائرية في العالم 2023 يشير إلى «نسبة التدوير في الاقتصاد العالمي لا تتجاوز 7.2٪ فقط. حيث -وبحسب التقرير- «فقد أدى ارتفاع معدلات استخراج المواد إلى تقليص الدائرة العالمية: من 9.1٪ في 2018، إلى 8.6٪ 2020، والآن 7.2٪ في 2023. حيث يعتمد العالم بشكل حصري تقريبًا على مواد جديدة (عذراء)». تشكل النسب العالية من المواد المهدرة والتي لا تحتمل إعادة التدوير ضغوطًا هائلة على الكوكب؛ من ناحية الانبعاثات، ومن ناحية هدر حقوق الأجيال في الموارد، ومن ناحية تضاعف قيمة المنتجات نتيجة تزايد الندرة في بعض الموارد. وهو ما يشكّل أزمة مركبة (طبيعية، اقتصادية، اجتماعية). تستوجب النظر فيها على المدى البعيد. ويشير التقرير ذاته أيضًا إلى أنه على المستوى العالمي فإن قطاع الزراعة مسؤول عن ثلث انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية و70٪ من عمليات سحب المياه العذبة العالمية التي يمكن الوصول إليها. وهو ما يتطلب حفز الابتكار في هذا القطاع تحديدًا لتحقيق التوازن بين الموارد وحالة الاكتفاء المنشودة والحفاظ على ديمومة الكوكب. تفرض هذه الأزمات المركبة أيضًا ضرورة توجيه الطاقات البشرية/ البحثية/ العلمية/ الابتكارية نحو قطاعات الاكتفاء الذاتي. فقطاعا الزراعة والأمن المائي اليوم يعتبران أولوية قصوى في تحقيق مقتضيات الاكتفاء الذاتي. ومن هنا فإن المرحلة المقبلة تتطلب تضافرًا للجهود في سبيل الدفع بهذين القطاعين نحو تحقيق الريادة المنشودة، أحد أشكال هذه الجهود قد تكون في تخصيص تحديات، مسابقات للابتكار الغذائي، الزراعي، المائي على مستوى مؤسسات التعليم العالي، أو عبر تنظيم ملتقيات سنوية مفتوحة للابتكارات يتنافس فيها العلماء والباحثون على المستوى الوطني للريادة في هذا المجال. عوضًا عن أهمية توجيه السياسات الاقتصادية (المحكمة والمباشرة) لتشجيع الإنتاج والعاملين والمؤسسات في هذه القطاعات بشكل مستمر، وبما يتضمن توسيع رقعة المشروعات القائمة، وتوجيه بوصلة التشغيل نحوها، وتحفيز هذه المشروعات بأذرعة بحثية للابتكار والتطوير الذي يحقق الكفاءة والاستدامة. هنا أتذكر الالتقاطة التي أوردتها أنجيلا سايني في كتابها: (أمة من العباقرة) حول مؤتمر العلوم الهندي. حيث تقول (بتصرف): «هناك حدث واحد لا يمكن أن يفوتني إنه مؤتمر العلوم الهندي السنوي، إنه أشبه بلقاءات ستار تريك، حيث لا توجد قيود على نوع البحث، ستجد علماء زراعة ومهندي برامج وعلماء صواريخ يعملون في المكان نفسه. ولا توجد قيود بشأن عدد المشاركين، ولا يوجد قيد على عدد الأبحاث فقد تشمل تجارة أسماك الزينة في البحر الأحمر وخليج عدن وقدرة سحب الثيران..» وأعتقد أن مثل هذه التفاعلات بين العلماء والباحثين من علوم مختلفة أصبحت اليوم ضرورية في الاتجاه للنقاش حول الأولويات، والتفكير بشأنها من زاويا مختلفة، وإيجاد حالة شعور جامع بضرورتها وإلحاحها. البعد الأخير الذي نود الإشارة إليه هو «إعادة هندسة سلوكيات الاستدامة» لدى الأفراد، فهي في تقديرنا حاسمة إبان دخولنا «عصر الغليان العالمي». في دراسة لنا (قيد التحرير) حول «مستويات الوعي بتداعيات التغير المناخي وعلاقته بالعوامل الاجتماعية لدى الشباب في دول الخليج العربي»، تكشف النتائج الأولية أنه رغم أن 63% من الشباب يدركون التداعيات المتعددة لأزمة تغير المناخ، إلا أن 27% منهم يقدم على تغيير سلوكياته إلى سلوكيات صديقة للبيئة (مستدامة). ويعزى ذلك في تقديرنا إلى أن الشعور العام والملموس بهذه الأزمة، عوضًا عن جرعات النقاش والتداول العام حولها ما زال في حدود ضيقة. ومن هنا فإن ضرورة تركيز الأبحاث بشكل أساسي حول «سلوكيات الاستدامة» في المستويات الاجتماعية المختلفة (المدارس، المنازل، أماكن العمل، الأماكن العامة) وتفنيد تلك السلوكيات ومصادرها والتحديات التي تقف أمام تغييرها ضرورة قصوى في الوقت الراهن، ثم وضع برامج تتناسب مع تغيير هذه السلوكيات بما يتوافق والعوامل الاجتماعية المؤثرة فيها، وهو في تقديرنا ما سيمكّن مجتمعاتنا من مواءمة الجهد الاستراتيجي (القطاعي) على مستوى تحقيق الاستدامة مع الواقع السلوكي (المجتمعي) للأفراد في سبيل تحقيق مقاصدها.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان