زيارة وزير خارجية أمريكا الأشهر خلال الحرب الباردة، هنري كيسنجر إلى الصين، قبل أيام (وقد تجاوز عمره المائة العام) تنطوي على العديد من الدلالات السياسية والاستراتيجية. فالرجل الذي عرف بذهنه الوقاد وقدرته على قراءة السياقات الاستراتيجية لمصائر العالم، يبدو أن زيارته إلى بكين، حيث التقى وزير الدفاع الصيني، تعكس ملامح لاجتهاد فردي خاص، تعين على الرجل - رغم تقدمه في السن - أن يضطلع به في رسالة واضحة لصناع القرار السياسي الأمريكي.

فمنذ أن أطلق كيسنجر، قبل عام، في منتدى دافوس، رؤيته لحل سياسي للحرب الروسية الأوكرانية يقضي باستتباع جزيرة القرم وبعض الأجزاء من أوكرانيا لموسكو مقابل وقف الحرب، وكانت في حينها تصريحات تسببت في غضب الأوكرانيين عليه، لا يزال الرجل حريصًا على مصائر دبلوماسية العالم الذي تتهدده تلك الحرب.

يفكر كيسنجر بذهن وقاد، وقراءة قد تبدو صالحةً - ربما - حتى اليوم، بالرغم من اختلاف الزمن الذي كان فيه الرجل أحد صانعي استراتيجيات الحرب الباردة وهوامشها الساخنة. فالوضع الذي آل إليه مسار الحرب الروسية الأوكرانية والمأزق التي تعبر عنه هذه الحرب من خلال تورط روسيا في منزلق خطير سيكون ثمن الخروج منه باهظًا لكنه - في الوقت ذاته - ثمن يضع بوتين في وضع لا يحسد عليه.

الخروج من ورطة أوكرانيا لن يكون مهمة سهلة بالنسبة لبوتين، فهي مهمة في غاية الصعوبة وتنطوي على خيارات صفرية سيسفر اتخاذ أي منها عن خسارة فادحة لموسكو قد لا تتوقف عند تضرر واهتزاز الصورة التي ظل يرسمها بوتين لنفسه فحسب، بل ربما انطوت نتائج تلك الخيارات على تهديد لصيغة الاتحاد الروسي ذاته!

تحركات كيسنجر - غير الرسمية - هي بطبيعة الحال جزء من هوية الرجل السياسية ورسالته للولايات المتحدة وللعالم، لكنها تبدو كما لو أنها وصية أخيرة له للعالم، وهو على ضفاف العمر. لذا فإن الرسائل التي يتوخاها كيسنجر إلى الدرجة التي تحمله - وهو في ذلك العمر - لزيارة الصين ولقاء وزير الدفاع الصيني هي بطبيعة الحال رسائل استشارية وظيفتها الأولى استثارة التأمل في مضمونها، لكنها مهمة؛ إذ الرجل، فيما هو يتحرك بذلك النشاط، ربما يحدس بشيء أو يصر على رؤية أشياء قد تبين له بوضوح خطرها على العالم جراء نتائج هذه الحرب التي تجري بين روسيا وأوكرانيا.

من المعروف تاريخيًا؛ أن كيسنجر هو الذي قاد مغامرة الزيارة التاريخية إلى بكين في ذروة الحرب الباردة في مهمة استباقية من طراز استراتيجي ناجح ولعبت دورًا في تلطيف وجهة الحرب الباردة عندما نجح الرجل في فتح حوار مهم مع الصين، كان له ما بعده، أوائل السبعينات من القرن العشرين، بين كل من الولايات المتحدة والصين بقيادة زعيمها الشيوعي الشهير ماوتسي تونغ.

قد لا تبدو زيارة كيسنجر لبكين اليوم كزيارة الأمس البعيد، لكن الرجل الذي يقرأ ما وراء الأحداث ويستشعر اللحظات الحرجة لمصائر العالم (على الأقل من وجهة نظره) يتحرك اليوم وهو خالٍ من أي سلطة استراتيجية تخولها توجيه الأحداث وتحريك مصائرها السياسية، لكن يظل ذلك الدافع الذي حمل كيسنجر إلى زيارة الصين ولقاء وزير دفاعها شخصيًا دافعًا لا ينبغي أن يمر على صانعي السياسات الاستراتيجية في الغرب بلا دلالة أو معنى!

انخراط أمريكا اليوم ومعها الاتحاد الأوروبي في التحالف إلى جانب أوكرانيا على هذا النحو الذي لا يقبل ترددًا أو توقفًا، وبصفة خاصة لناحية التهديد الاستراتيجي الذي تمثله هذه الحرب للأمن والسلم في أوروبا، سيجعل اليوم من الصين هي الوجهة الوحيدة التي يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في وقف الحرب، لكن في ظل تلك الخيارات الصفرية التي وجد فيها بوتين نفسه جراء هذه الحرب سيكون الوضع صعبًا لكنه ليس مستحيلًا. فروسيا تدرك تمامًا أن أي استخدام للقوة المفرطة لإنهاء هذه الحرب بثمن فادح تدفعه أوكرانيا ستكون عاقبته وبالًا كارثيًا عليها من طرف الغرب.

فهل ثمة اليوم إمكانية ما لفهم فحوى الرسائل التي يطلقها الثعلب العجوز لكل من أوروبا وأمريكا والصين وحتى روسيا؟

بكل تأكيد ستحظى زيارة هنري كيسنجر الأخيرة إلى الصين بنقاشات استراتيجية مثيرة في العالم، لكن المهم هو كيف يستفيد العالم منها؟