1970م انتقلت أسرتي من بيت حارة الشمال إلى جهة مقابلة يفصلها الخليج الصغير الذي توّج لاحقا بمشروعيّ ميناء قابوس والكورنيش. حارة بحرية صغيرة جدا منفردة، اسمها الخيصة، (وربما تنطق في أماكن أخرى بالسين. والخيصة في الثقافة العمانية تعني المكان الذي تكون طوبوغرافيته مثل هذه الحارة المستقلة بتضاريسها).. يوجد اليوم كثير من بيوت المواطنين، ناهيك عن مزارعهم، مساحاتها أكبر من هذه الحارة.. هنا صرنا أقرب وأقرب للبحر، فبيننا وبينه خطوات فقط، يفصلها الشارع الوحيد شبه المسفلت في سلطنة عُمان الذي يمتد من قصر العلم بمسقط (بيت العلم سابقا) إلى مطار بيت الفلج. هذا الشارع افتتحه السلطان تيمور في عشرينات القرن الماضي، ولم يُنشأ بعد ذلك شارع في عُمان حتى عصر النهضة.

الجبال السود من خلفنا ومن جانبي الحارة وكأنها تضمها، أو تحتمي بها الحارة، أما المشهد الأمامي فهو صفحة البحر الذي يمكن أن تشاهد فيه رقصة أسراب من الأسماك الصغيرة، وبعض المنارات التحذيرية العائمة، حتى لا تصطدم السفن والقوارب بالصخور التي تخفيها تحتها.. من هنا يمكن تأمل جزء كبير من لوحة معمارية رائعة هي واجهة مطرح البحرية بدءا من المدرسة السعيدية، مرورا بسور اللواتيا، حتى الفرضة (ميناء مطرح القديم) التي تشكل لسانا بحريا، صغيرا وكأنه ممتد من أسفل الجبل المتوج بالكوت المهيب (قلعة مطرح)، انتهاء بمطيرح التي تجاورها الخيصة.. لم يكن الكورنيش قد أُنشئ بعد، ولكي نذهب إلى المدرسة فيجب أن نسلك مرحلتين، الأولى من العقبة التي تنتهي بوادي خلفان والبريد القديم، ومكتب الوالي، مرورا بالبيت الشرقي الذي يشكل أيقونة وتحفة معمارية تتكامل مع القلعة، ثم حارة الدلاليل التي ستظهر منها أكثر من شخصية رسمية بمستوى وزراء ووكلاء، منهم الأستاذ سعيد بن ناصر الخصيبي الذي سأتعين في عهده عندما كان وكيلا لوزارة الإعلام، ثم بخاخير الهناقرة (مخازن الأثرياء)، ثم أكمل إما من خلال السوق، أو بالخوض في الماء أحيانا بين الشاطئ وسور اللواتيا. كان ذلك ممتعا عموما لولا بعض المشاهد في غياب دورات المياه في كثير من المباني.. وكأن لهذه الحارة البحرية خليجها الصغير الخاص، حيث ترسو بضعة هوار خشبية (قوارب صيد) بنية غامقة وهي في الماء، خاصة عندما تكون مطلية بزيت (الصلّ) الذي يستخرج من بعض الأسماك، ويصبح لونها فاتحا وتفقد بريقها عندما تبعد عن الماء لفترات طويلة. لم تُعرف بعد المكائن، فالمجاديف هي التي تدفعها في الماء بالقوة الجسدية للصيادين..

كانت هذه من الفترات الحساسة جدا حتى على المستويين الإقليمي والدولي.. الحرب في ظفار مضى عليها 5 سنوات، خلايا المعارضة أو الثوار في كل مكان داخليا وخارجيا، وفي الجوار دول تنال استقلالها، وأخرى تتشكل.. وهنا الكل ينشد الخلاص، ولكل أيديولوجيته ومنطلقاته، ولكن الهدف واحد وهو أن تعود عُمان والعمانيون إلى المكانة اللائقة بين الأمم. كان نضالهم صعبا جدا.. أما أحد أهم الأسرار في غسل الأدمغة -إيجابيا أو سلبيا- فكان- إلى جانب من سافروا وعرفوا شيئا من العالم - بالدرجة الأولى هو الراديو، وبالذات في عُمان، التي لا يوجد فيها أي وسائل اتصال جماهيري، لا إذاعة وطنية. لا صحافة لا تلفزيون ولا هواتف تقريبا ولا كتب إلا النادر والمهرب، بما فيها الكتب التبشيرية للتنصير. إذا فالإذاعات المجتازة للحدود الجغرافية والسياسية هي المتكفلة بهذه الأدوار. لذلك حتى اقتناء الراديو قد يشكل شبهة سياسية ومصدر قلق لبعض الأنظمة ليس في عمان فقط، ولكن في العديد من بلدان العالم، وربما تمنت بعض الأنظمة لو تغطي بلدانها بقبة فولاذية عظيمة لا تخترقها الأفكار المستوردة.. يقال مثلا إن هتلر أمر بتصنيع أجهزة راديو لشعبه لم تكن تلتقط غير الإذاعة الألمانية.

وهنا في هذه الحارة تعرض بيتنا للمداهمة الأمنية، عندما دخل رجال الأمن ومسحوا البيت بتفاصيله. تم تفتيش البيت كاملا ولم يعثروا على شيء.. الشخص المستهدف هو ذلك المولع بنشرات الأخبار، والذي ربما كانت تفضحه أفكاره اليسارية، وقد يصفه البعض بالشيوعي رغم أنه يؤدي صلواته الخمس مع جماعة المسجد! في ذلك الوقت كان في دكانه بالسوق، وعندما عاد أخبره أهل البيت بما حدث، فشعر أن حياة جديدة كتبت له. يبدو أنه كان يخبئ أوراقا أو منشورات مشبوهة (بمقاييس تلك الحقبة) في فراغ فوق أحد الأبواب الداخلية، فركض لينزلها ويدخل بها دورة المياه، ويعدمها حرقا (قبل أن تعدمه).. هذا الرجل نفسه هو الذي سيحملني على كتفه إلى مسقط لاستقبال سلطان عُمان الجديد. محاولا أن يكون أقرب ما يكون إلى الشرفة التي يطل منها السلطان، ملوحا بيده، يحيي جماهير المحتفلين بقدومه إلى مسقط، التي اكتست باللون الأحمر قبل أن يُعتمد العلم الجديد، الذي يعد أول علم عماني متعدد الألوان. فيبدو أنه هو الآخر قد استبشر خيرا بالزعيم القادم المخلّص، وبالعهد الجديد.

يتولى السلطان قابوس مقاليد الحكم في عُمان لتنهض من سبات طويل مؤلم أجهد الجميع، ويطلق الوعد الشهير بأن يعمل بأسرع ما يمكن لجعلنا نعيش سعداء لمستقبل أفضل.

وبعد شهرين فقط يرحل عن الدنيا الزعيم جمال عبد الناصر، ليشكل فاجعة للأمة العربية التي تعلقت به، ونرى شيابنا يبكون كمن يبكي أعز أحبابه. في هذا الوقت كانت عُمان مشغولة بزعيمها الخاص الجديد.. أتوقع أن ذلك قد خفف من هول الصدمة برحيل عبد الناصر.. ما زال في ذاكرتي مشهد الجنازة الرمزية لعبد الناصر محمولة على الأكتاف، والجماهير المنتحبة لفراقه، وهي تمر من أمام حارتنا هذه.

وهنا سأعرف بعد سنوات أنني أجاور شخصا سيصبح في عام 1973م أفخم صوت إذاعي عرفته عُمان، وربما على مستوى الخليج، ما زال مطلوبا إلى اليوم للبرامج السياسية والوثائقية بالذات، وسيصبح مديري عند تعييني. هو الأستاذ الصديق حسن بن سالم الفارسي.

في وقت العصر يجلس الصيادون وغيرهم عند قواربهم يحضّرون عدتهم لرحلة الصيد القادمة ويتسامرون، بينما الصغار والشباب يلهون بالسباحة.

ذكّرت (أبو سالم) بتلك الأيام، ليخصني بطرفة من أحد الشياب الذين كان يشاركهم هذه الجلسة عندما قال له مازحا: أنتم مذيعون لا تعطوننا الأخبار كاملة وتكتفون بإعطائنا النصف وتحتفظون بالنصف!!

- كيف؟!

- عندما تقرأون المراسيم السلطانية بالذات يحدث ذلك بشكل صريح.. تخبروننا بصدور المرسوم ثم تقولون: وفيما يأتي (نصه)، فأين النُص (النصف) الباقي؟!..