يُخيّل لي أنه كلمّا خسر العالم روائيّا جيّدًا نقصت سعة الأرض، ذلك أننا نخسر معه أن نفهم الحياة أكثر، أو في الأقل أن ننظر إلى بديهيات حياتنا نظرة مغايرة لا تركن إلى اليقين، ولا تخشى زعزعته. وأظن أن هذا ما سيخالج كثيرين ممن أحبّوا الروائي الفرنسي تشيكيّ الأصل ميلان كونديرا، الذي رحل عن عالمنا في 11 يوليو 2023م. «يعلّم الروائيُّ القارئَ أن يفهم العالم كسؤال. ثمة حكمة وتسامح في هذا الأسلوب. ففي العالم المبني على اليقين المقدس، تموت الرواية»، هكذا يخبرنا كونديرا عندما قرأ بتمعّن رواية «دون كيشوت»، ناظرًا إلى الحياة بعينَيْ سرفانتس.
تعرفتُ على كونديرا للمرة الأولى في عام 1997م من خلال روايته الشهيرة «خفة الكائن التي لا تُحتمل» من ترجمة عفيف دمشقية، التي سأعرف لاحقًا أن لها ترجمة أخرى من ماري طوق بعنوان «كائن لا تُحتمَل خفّته». وأعترف أنني لم أستطع إكمالها حينئذ واندهشتُ من الهالة الإعلامية الكبيرة التي يأخذها هذا الروائي في العالم العربي، والتي لا تضاهيها إلا هالة الروائي الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز. هي رواية معقدة، هذه هي الخلاصة التي توصلتُ إليها، حتى قبل أن أقرأ في «فنّ الرواية» (أحد كتب كونديرا الأربعة الهامة في التنظير الروائي) أن «الرواية هي روح التعقيد، كل رواية تقول للقارئ: إن الأشياء أكثر تعقيدًا مما نظن». لكنني حين عدتُ إلى هذه الرواية سنة 2010م، فصار ما نفّرني من قبل هو ذاته ما جذبني؛ توصلتُ إلى قناعة أن الروايات مثل قصص الحب؛ ثمة موعد مناسب للقاء بالمحبوب، لا يُمكن التنبؤ بوقت حدوثه.
في «خفة الكائن»، كما في الروايات الأربع التي سبقتها: «المزحة»، و«الحياة في مكان آخر»، و«فالس الوداع»، و«كتاب الضحك والنسيان»، وكما في الروايات الأربع التي تلتْها: «الخلود»، و«البطء»، و«الهُويّة»، و«الجهل»، وصولًا إلى آخر رواياته: «حفلة التفاهة» حسب ترجمة معن عاقل (أو «عيد اللامعنى» حسب ترجمة بدر الدين عرودكي، وهو العنوان الأكثر اقترابًا من روح كونديرا) يبني الروائيّ معمارًا روائيًّا لم يسبقه إليه أحد، يقوم على وضع التجارب المعيشة والأحلام والتنظيرات الفلسفية والرؤى الموسيقية والتأملات في التاريخ والحكايات في «خلاط» واحد - إن جاز التعبير- وبمقادير لا يتقنها إلا هو، وبقدر كبير من الحساسية الفنية. الأحلام مثلًا تحضر بشكلها ومضمونها كثيرًا في رواياته. يقول في أحد حواراته القليلة: «لا أميل إلى تحليل أحلامي، أفضّل أن أحولها إلى حكايات». ويوضّح ذلك أكثر في «فنّ الرواية»: «المعنى لم يسبق الحلم. الحُلم هو الذي سبق المعنى. لذا فإن الطريقة لقراءة الحكاية هي ترك المخيّلة تقود القارئ، وليس كلغز ينبغي حلّ شفرته». لذا نجده في «كتاب الضحك والنسيان» يربط ذكرى والده بحلم استحوذ عليه، أسقطَه على «تامينا» التي تعيش في جزيرة لا يسكنها غير الأطفال. وفي «عيد اللامعنى» (أم أقول «حفلة التفاهة»؟) ثمة مشهدٌ آسر لا يُمكن أن يكون إلا حُلمًا، عن فتاة ترمي بنفسها في النهر من فوق جسر بغرض الانتحار. ورغمًا عنها؛ ولأنها سباحة ماهرة -كما يخبرنا الراوي-، تستنفر كل حركاتها اللاإرادية لكي لا تموت. وأثناء ذلك تسمع صرخة من أحدهم: «توقفي. توقفي»، يقول الراوي: «سيكون عليها أن تقاوم. أن تقاوم كي تُنقذ موتها». يرمي الرجل بنفسه في النهر ويمد يده نحوها «لكنها بدل أن تتجنبها، تُمسكها وتشدّ عليها وتجذبها نحو قاع النهر». ثم تستلقي بكل طولها على ظهره إلى أن يغرق، وبعد أن تأكدت أن الرجل تحتها لن يتحرك ثانيةً، تركتْه في القاع وقفلت عائدةً إلى سيارتها!. وإذا ما امتثلنا لوصية كونديرا وتركنا المخيّلة تقود القارئ في تأويل هذا المشهد، فإنه يمكنني القول – بغير قليل من المجازفة – إن هذه المرأة ليست إلا رواية كونديرا، وما الرجل الذي أغرقتْه إلا قارئها؛ قارئها الذي تماهى مع الرواية فأصبح دون أن يشعر بطلَها. وهنا يلزمنا استدعاء تساؤل ذي مغزى من رواية أخرى لكونديرا هي «الحياة في مكان آخر»: «هل الرواية شيء آخر غير فخّ منصوب للبطل؟».
يؤمن صاحب «غراميات مرِحة» -كما ذكر في حواره مع الروائي الأمريكي فيليب روث في 30 نوفمبر 1980- أن هناك حرية هائلة كامنة في الشكل الروائي. ومن الخطأ النظر إلى بنية نمطية معينة على أنها جوهر الرواية الذي لا يمكن انتهاكه. لذا فالرواية لديه هي «قطعة طويلة من النثر التركيبي تعتمد على التلاعب بشخصيات مخترعة». يشرح ذلك بالقول: «بالمصطلح التركيبي، أفكر في رغبة الروائي في فهم موضوعه من جميع الجوانب وبأقصى قدر ممكن من الاكتمال. مقال ساخر، سرد روائي، جزء من سيرة ذاتية، حقيقة تاريخية، شطحة خيال: القدرة التوليفية للرواية بإمكانها دمج كل شيء في كلٍّ موحد مثل أصوات الموسيقى متعددة الألحان. لا يجب أن تنبع وحدة الكتاب من الحبكة، بل يمكن توفيرها من خلال الموضوع». هذه النظرة للحبكة في الرواية هي ما دفعت الناقد كريستوفر ليهمان هوبت للقول – كما ينقل عنه أمين صالح في كتابه المهم «ميلان كونديرا والعالم بوصفه شَرَكًا» – «إن كتابات كونديرا تغوي المرء لأن يعدّل تعريفه للحبكة؛ بدلًا من اعتبارها الفعل الذي يستحث التوقعات، يمكن النظر إليها بوصفها سلسلة من الإيماءات اللفظية التي تثير الفضول».
وليحقق «حبكته» الخاصة يبني كونديرا شخصيات روائية مركّبة لا تخلو من الغموض، ولا يجد غضاضة في أن يزج بنفسه كمؤلف داخل الرواية بطريقة تذكرنا بهدم الجدار الرابع في المسرح لدى بريخت؛ فيعلق على هذه الشخصية، أو يطلق وصفًا على تلك. ولعل تعليقه في مستهل القسم الثاني من رواية «كائن لا تُحتمل خفته» المعنون «الروح والجسد» يلخّص نظرته للشخصيات الروائية: «سيكون ساذجًا من قِبَل الكاتب أن يجعل القارئ يعتقد أن شخصياته وُجِدتْ فعلًا. لا، هي لم تخلق من جسد امرأة، بل من بضع جمل موحِية أو موقف حرِج»، وبالنسبة إليه ليس من الضرورة أن تكون الشخصيات -بما فيها الرئيسية- حاضرة في كل فصول الرواية لكي تربط النسيج العام للعمل. ذلك أن الاعتماد في هذا الربط يكون على الثيمة أو الموضوع كما سبقت الإشارة. هذا اللا اكتراث بالشخصيات في مقابل الموضوع جعل الناقدة الأمريكية نانسي هيوستن تتهمه في كتابها «أساتذة اليأس: النزعة العدمية في الأدب الأوروبي» (ترجمة وليد السويركي) بقمع شخصياته وعدم تركها على حريتها. وأفتح هنا قوسًا لأقول إن الفصل البديع الذي خصصته هيوستن عن كونديرا في هذا الكتاب يمكن اعتباره من أجمل ما كُتِب في محاولة فهم عوالمه الروائية. تقول هيوستن: «في الواقع، بالنسبة إلى شخص يصف الرواية بأنها فضاء للحرية، فإن كونديرا يمنح، على نحو غريب، القليل من الحرية لشخصياته. فهو لا يتركها أبدًا تباغته أو تتخطّاه، بل هو يجبرها (فيما يشبه قليلًا الأمهات اللاتي يُجبرن أطفالهن في رواياته) على أن تقول لنا ما يرغب هو في قوله. شانتال، آنيّس، سابينا، تامينا، إرينا، وكذلك توماس، جاكوب أو كليما، هي أسماء مستعارة للكاتب، وهي تعبّر أحيانًا بصيغ متقاربة عن الأفكار ذاتها التي يعبّر عنها المؤلف في دراساته وحواراته».
لستُ متأكدًا إن كان كونديرا قد قرأ نقد هيوستن هذا أم لا، لكنني أتخيله -لو فعل- مبتسِمًا وهو يردد متهكّمًا عبارته في «الخلود»: «طالما أننا نعيش مع الآخرين، فنحن لسنا سوى ما تحدده نظرة الآخرين إلينا». إن هذا التهكّم، أو لنقل السخرية، التي تواجه بها شخصيات كونديرا الحزن والأسى أو «الفخ الذي استحاله العالم»؛ تُشكِّل مزية أخرى من المزايا التي تجذب القراء لرواياته. لا تولد الرواية لديه من الروح النظرية بل من روح الدعابة، هكذا كتب في «فن الرواية»، بل ويصرّح - في حواره مع فيليب روث - أن أحد أسباب إعجابه بالكاتبين الفرنسيَّيْن لورنس ستيرن ودينيس ديدرو واعتباره لهما من المجرّبين العظام عبر كل الأزمنة في شكل الرواية هو أنهما اكتشفا الدعابة في الشكل الروائي. إنه يتهكم من كل شيء تقريبا؛ وعلى وجه الخصوص من الابتذال أو «الكيتش» (وهي كلمة ألمانية انتشرت في القرن التاسع عشر وتعني «النفاية» وصارت إشارة معتمدة للأدب والفنّ الهابط)، يقول في «حفلة التفاهة» (أكرر عنوان «عيد اللامعنى» أجمل بكثير وأكثر اقترابا من روح كونديرا): «أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. لم يكن هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألا نأخذه على محمل الجد». ويعترف الروائي التشيكي أن حسّ الدعابة هذا هو الذي سبب له الكثير من سوء الفهم مع قرائه. يقول في كتابه «الوصايا المغدورة»: «لو سألني أحدٌ عن السبب الأكثر تواترًا لسوء الفهم بيني وقرائي لما ترددتُ في الإجابة: الفكاهة». ثم يسرد حكاية أستاذ شهير في الطب قرأ رواية «فالس الوداع» التي أحد شخصياتها الطبيب سكريتا، وطلب رؤية المؤلف ليشرح له أن ما فعله الطبيب في الرواية خاطئ من الناحية الطبية. يقول كونديرا: «فدافعت عن نفسي: الرواية هزلية! وطبيبي سكريتا فانتازي! ينبغي ألا نأخذ كل شيء على محمل الجد. قال لي مرتابًا: إذن لا ينبغي أن نحمل رواياتك على محمل الجد؟ ارتبكتُ، وفجأة فهمتُ: لا شيء أصعب من إفهام الفكاهة».
تُرى هل كان سوء الفهم هذا هو الذي نمّى لدى كونديرا نزعة الاختفاء والزهد في الإعلام والصحافة، حيث لا نجد له عبر مسيرته الأدبية التي تجاوزت سبعين عاما إلا حوارات نادرة؟ الإجابة طبعًا بالنفي. فنزعة الاختفاء لديه قديمة، تعود إلى طفولته الباكرة عندما كان يحلم بمرهم يدهن به جسمه فيختفي فورًا عن الأنظار. «ألّا يكون للمرء وجود علني أمرٌ له محاسنُه أيضًا»، هكذا يصرّح في مقابلة تلفزيونية. وينقل عنه الناقد المغربي محمد الساهل في كتابه «حلم كونديرا بين القراءة والكتابة» قوله: «أحلم بعالَمٍ فيه يكون الكُتّاب مجبرين بحكم القانون على الاحتفاظ بأسمائهم الحقيقية وعلى استعمال أسماء مستعارة»، كما أنه ظل طوال حياته يردد عبارة الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير: «يجب على الفنان أن يجعل الأجيال القادمة تعتقد أنه لم يعش أبدًا». ولعل هذا التخفي وما يضفيه عليه من هالة الغموض هو الذي أذكى شغف كثير من الصحفيين لملاحقته ومحاولة تقصّي حياته، ومن هؤلاء الصحفية في لوموند الفرنسية أريان شومان التي أجرت سلسلة من التحقيقات الاستقصائية حول حياته في تشيكيا، وجمعتها في كتاب «السيرة غير المعروفة لميلان كونديرا» (ترجمته إلى العربية وئام غداس)، تمكنت خلالها من الاطلاع على أرشيف كونديرا الذي تجاوز 2300 صفحة مثقوبة ومختومة بطابع «سرّي للغاية»، وقد حُفِظتْ في معهد دراسات الأنظمة الشمولية، وضمّنتْ كتابها نصوصا من التقارير الأمنية التي كُتِبتْ حول نشاطه في براغ. وقد اعتمد هذا الأرشيف على تفريغ كل مكالماته الهاتفية ومكالمات زوجته وشهادات كثيرين من الوشاة، معظمهم من الأدباء التشيك الذين بدوا على استعداد للتعاون مع الأجهزة الأمنية.
لكن التقرير الأهم عن كونديرا لم يكن في كتاب صحفية لوموند، وإنما في مجلة تشيكية تُدعى «ريسبيكت» نشرته عام 2008، واتهمتْه هو هذه المرة بالتعاون مع الشرطة السرية في تشيكوسلوفاكيا عام 1950 والوشاية بزملائه. وقد نشرت الوثيقة الخاصة بذلك ورقمها، وكيف أن الطالب الجامعي آنئذ ميلان كونديرًا وشى بأحد المعارِضين الفارّين إلى ألمانيًا واسمه ميروسلاف دفوراتسيك وكان عائدًا بصفة مؤقتة وسرية إلى بلاده بعد هروب استمر عامين، وقد قبضت عليه الشرطة السرية بسبب هذه الوشاية وحُكِمَ عليه بالسجن اثنين وعشرين عاما بتهمة التجسس، ولم يفرج عنه إلا بعد أن قضى أربعة عشر عاما منها في السجن. ورغم أن كونديرا نفى هذا التقرير بشدة واتهمه بالكذب وبـ«محاولة اغتيال كاتب» إلا أنني شخصيًّا أرى أن المعطيات والأدلة التي ساقتها الصحيفة التشيكية أكبر بكثير من تكذيبه.
هل تسببتْ هذه «الفضيحة» في حرمانه من جائزة نوبل كما كتب بعض الكتّاب؟ ربما، لا شيء مؤكد. شخصيًّا أستبعد هذا الأمر لسببين: الأول أن هذه القصة ظهرت في وقت متأخر، وبعد اكتمال مسيرته الأدبية تقريبا، فقد كان عمره حينئذ تسعة وسبعين عاما، بينما كان مرشحًا للجائزة قبل ذلك بسنين. والثاني أنه لا أحد يعرف على وجه الدقة حتى اليوم لماذا تمنح الأكاديمية السويدية الجائزة لهذا الكاتب وتمنعها عن ذاك. يعزو البعض عدم حصوله على نوبل لخيانته المزدوجة (تركه بلده الأصلي ثم لغته)، والبعض لنزعته العدمية في رواياته، ومعاكسته للتيارات السائدة. وأيًّا كان السبب فقد انضم كونديرا إلى نادي الأدباء الكبار الذين تجاهلتْهم نوبل من تولستوي إلى كازانتزاكيس إلى بورخيس، وقد رأينا أن هذا التجاهل لم يضرّ أدبهم في شيء، فما زالوا إلى اليوم ملء السمع والبصر. وما يبقى في النهاية هو الأدب الرفيع، وأما الزبد فإنه يذهب جفاء.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
تعرفتُ على كونديرا للمرة الأولى في عام 1997م من خلال روايته الشهيرة «خفة الكائن التي لا تُحتمل» من ترجمة عفيف دمشقية، التي سأعرف لاحقًا أن لها ترجمة أخرى من ماري طوق بعنوان «كائن لا تُحتمَل خفّته». وأعترف أنني لم أستطع إكمالها حينئذ واندهشتُ من الهالة الإعلامية الكبيرة التي يأخذها هذا الروائي في العالم العربي، والتي لا تضاهيها إلا هالة الروائي الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز. هي رواية معقدة، هذه هي الخلاصة التي توصلتُ إليها، حتى قبل أن أقرأ في «فنّ الرواية» (أحد كتب كونديرا الأربعة الهامة في التنظير الروائي) أن «الرواية هي روح التعقيد، كل رواية تقول للقارئ: إن الأشياء أكثر تعقيدًا مما نظن». لكنني حين عدتُ إلى هذه الرواية سنة 2010م، فصار ما نفّرني من قبل هو ذاته ما جذبني؛ توصلتُ إلى قناعة أن الروايات مثل قصص الحب؛ ثمة موعد مناسب للقاء بالمحبوب، لا يُمكن التنبؤ بوقت حدوثه.
في «خفة الكائن»، كما في الروايات الأربع التي سبقتها: «المزحة»، و«الحياة في مكان آخر»، و«فالس الوداع»، و«كتاب الضحك والنسيان»، وكما في الروايات الأربع التي تلتْها: «الخلود»، و«البطء»، و«الهُويّة»، و«الجهل»، وصولًا إلى آخر رواياته: «حفلة التفاهة» حسب ترجمة معن عاقل (أو «عيد اللامعنى» حسب ترجمة بدر الدين عرودكي، وهو العنوان الأكثر اقترابًا من روح كونديرا) يبني الروائيّ معمارًا روائيًّا لم يسبقه إليه أحد، يقوم على وضع التجارب المعيشة والأحلام والتنظيرات الفلسفية والرؤى الموسيقية والتأملات في التاريخ والحكايات في «خلاط» واحد - إن جاز التعبير- وبمقادير لا يتقنها إلا هو، وبقدر كبير من الحساسية الفنية. الأحلام مثلًا تحضر بشكلها ومضمونها كثيرًا في رواياته. يقول في أحد حواراته القليلة: «لا أميل إلى تحليل أحلامي، أفضّل أن أحولها إلى حكايات». ويوضّح ذلك أكثر في «فنّ الرواية»: «المعنى لم يسبق الحلم. الحُلم هو الذي سبق المعنى. لذا فإن الطريقة لقراءة الحكاية هي ترك المخيّلة تقود القارئ، وليس كلغز ينبغي حلّ شفرته». لذا نجده في «كتاب الضحك والنسيان» يربط ذكرى والده بحلم استحوذ عليه، أسقطَه على «تامينا» التي تعيش في جزيرة لا يسكنها غير الأطفال. وفي «عيد اللامعنى» (أم أقول «حفلة التفاهة»؟) ثمة مشهدٌ آسر لا يُمكن أن يكون إلا حُلمًا، عن فتاة ترمي بنفسها في النهر من فوق جسر بغرض الانتحار. ورغمًا عنها؛ ولأنها سباحة ماهرة -كما يخبرنا الراوي-، تستنفر كل حركاتها اللاإرادية لكي لا تموت. وأثناء ذلك تسمع صرخة من أحدهم: «توقفي. توقفي»، يقول الراوي: «سيكون عليها أن تقاوم. أن تقاوم كي تُنقذ موتها». يرمي الرجل بنفسه في النهر ويمد يده نحوها «لكنها بدل أن تتجنبها، تُمسكها وتشدّ عليها وتجذبها نحو قاع النهر». ثم تستلقي بكل طولها على ظهره إلى أن يغرق، وبعد أن تأكدت أن الرجل تحتها لن يتحرك ثانيةً، تركتْه في القاع وقفلت عائدةً إلى سيارتها!. وإذا ما امتثلنا لوصية كونديرا وتركنا المخيّلة تقود القارئ في تأويل هذا المشهد، فإنه يمكنني القول – بغير قليل من المجازفة – إن هذه المرأة ليست إلا رواية كونديرا، وما الرجل الذي أغرقتْه إلا قارئها؛ قارئها الذي تماهى مع الرواية فأصبح دون أن يشعر بطلَها. وهنا يلزمنا استدعاء تساؤل ذي مغزى من رواية أخرى لكونديرا هي «الحياة في مكان آخر»: «هل الرواية شيء آخر غير فخّ منصوب للبطل؟».
يؤمن صاحب «غراميات مرِحة» -كما ذكر في حواره مع الروائي الأمريكي فيليب روث في 30 نوفمبر 1980- أن هناك حرية هائلة كامنة في الشكل الروائي. ومن الخطأ النظر إلى بنية نمطية معينة على أنها جوهر الرواية الذي لا يمكن انتهاكه. لذا فالرواية لديه هي «قطعة طويلة من النثر التركيبي تعتمد على التلاعب بشخصيات مخترعة». يشرح ذلك بالقول: «بالمصطلح التركيبي، أفكر في رغبة الروائي في فهم موضوعه من جميع الجوانب وبأقصى قدر ممكن من الاكتمال. مقال ساخر، سرد روائي، جزء من سيرة ذاتية، حقيقة تاريخية، شطحة خيال: القدرة التوليفية للرواية بإمكانها دمج كل شيء في كلٍّ موحد مثل أصوات الموسيقى متعددة الألحان. لا يجب أن تنبع وحدة الكتاب من الحبكة، بل يمكن توفيرها من خلال الموضوع». هذه النظرة للحبكة في الرواية هي ما دفعت الناقد كريستوفر ليهمان هوبت للقول – كما ينقل عنه أمين صالح في كتابه المهم «ميلان كونديرا والعالم بوصفه شَرَكًا» – «إن كتابات كونديرا تغوي المرء لأن يعدّل تعريفه للحبكة؛ بدلًا من اعتبارها الفعل الذي يستحث التوقعات، يمكن النظر إليها بوصفها سلسلة من الإيماءات اللفظية التي تثير الفضول».
وليحقق «حبكته» الخاصة يبني كونديرا شخصيات روائية مركّبة لا تخلو من الغموض، ولا يجد غضاضة في أن يزج بنفسه كمؤلف داخل الرواية بطريقة تذكرنا بهدم الجدار الرابع في المسرح لدى بريخت؛ فيعلق على هذه الشخصية، أو يطلق وصفًا على تلك. ولعل تعليقه في مستهل القسم الثاني من رواية «كائن لا تُحتمل خفته» المعنون «الروح والجسد» يلخّص نظرته للشخصيات الروائية: «سيكون ساذجًا من قِبَل الكاتب أن يجعل القارئ يعتقد أن شخصياته وُجِدتْ فعلًا. لا، هي لم تخلق من جسد امرأة، بل من بضع جمل موحِية أو موقف حرِج»، وبالنسبة إليه ليس من الضرورة أن تكون الشخصيات -بما فيها الرئيسية- حاضرة في كل فصول الرواية لكي تربط النسيج العام للعمل. ذلك أن الاعتماد في هذا الربط يكون على الثيمة أو الموضوع كما سبقت الإشارة. هذا اللا اكتراث بالشخصيات في مقابل الموضوع جعل الناقدة الأمريكية نانسي هيوستن تتهمه في كتابها «أساتذة اليأس: النزعة العدمية في الأدب الأوروبي» (ترجمة وليد السويركي) بقمع شخصياته وعدم تركها على حريتها. وأفتح هنا قوسًا لأقول إن الفصل البديع الذي خصصته هيوستن عن كونديرا في هذا الكتاب يمكن اعتباره من أجمل ما كُتِب في محاولة فهم عوالمه الروائية. تقول هيوستن: «في الواقع، بالنسبة إلى شخص يصف الرواية بأنها فضاء للحرية، فإن كونديرا يمنح، على نحو غريب، القليل من الحرية لشخصياته. فهو لا يتركها أبدًا تباغته أو تتخطّاه، بل هو يجبرها (فيما يشبه قليلًا الأمهات اللاتي يُجبرن أطفالهن في رواياته) على أن تقول لنا ما يرغب هو في قوله. شانتال، آنيّس، سابينا، تامينا، إرينا، وكذلك توماس، جاكوب أو كليما، هي أسماء مستعارة للكاتب، وهي تعبّر أحيانًا بصيغ متقاربة عن الأفكار ذاتها التي يعبّر عنها المؤلف في دراساته وحواراته».
لستُ متأكدًا إن كان كونديرا قد قرأ نقد هيوستن هذا أم لا، لكنني أتخيله -لو فعل- مبتسِمًا وهو يردد متهكّمًا عبارته في «الخلود»: «طالما أننا نعيش مع الآخرين، فنحن لسنا سوى ما تحدده نظرة الآخرين إلينا». إن هذا التهكّم، أو لنقل السخرية، التي تواجه بها شخصيات كونديرا الحزن والأسى أو «الفخ الذي استحاله العالم»؛ تُشكِّل مزية أخرى من المزايا التي تجذب القراء لرواياته. لا تولد الرواية لديه من الروح النظرية بل من روح الدعابة، هكذا كتب في «فن الرواية»، بل ويصرّح - في حواره مع فيليب روث - أن أحد أسباب إعجابه بالكاتبين الفرنسيَّيْن لورنس ستيرن ودينيس ديدرو واعتباره لهما من المجرّبين العظام عبر كل الأزمنة في شكل الرواية هو أنهما اكتشفا الدعابة في الشكل الروائي. إنه يتهكم من كل شيء تقريبا؛ وعلى وجه الخصوص من الابتذال أو «الكيتش» (وهي كلمة ألمانية انتشرت في القرن التاسع عشر وتعني «النفاية» وصارت إشارة معتمدة للأدب والفنّ الهابط)، يقول في «حفلة التفاهة» (أكرر عنوان «عيد اللامعنى» أجمل بكثير وأكثر اقترابا من روح كونديرا): «أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. لم يكن هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألا نأخذه على محمل الجد». ويعترف الروائي التشيكي أن حسّ الدعابة هذا هو الذي سبب له الكثير من سوء الفهم مع قرائه. يقول في كتابه «الوصايا المغدورة»: «لو سألني أحدٌ عن السبب الأكثر تواترًا لسوء الفهم بيني وقرائي لما ترددتُ في الإجابة: الفكاهة». ثم يسرد حكاية أستاذ شهير في الطب قرأ رواية «فالس الوداع» التي أحد شخصياتها الطبيب سكريتا، وطلب رؤية المؤلف ليشرح له أن ما فعله الطبيب في الرواية خاطئ من الناحية الطبية. يقول كونديرا: «فدافعت عن نفسي: الرواية هزلية! وطبيبي سكريتا فانتازي! ينبغي ألا نأخذ كل شيء على محمل الجد. قال لي مرتابًا: إذن لا ينبغي أن نحمل رواياتك على محمل الجد؟ ارتبكتُ، وفجأة فهمتُ: لا شيء أصعب من إفهام الفكاهة».
تُرى هل كان سوء الفهم هذا هو الذي نمّى لدى كونديرا نزعة الاختفاء والزهد في الإعلام والصحافة، حيث لا نجد له عبر مسيرته الأدبية التي تجاوزت سبعين عاما إلا حوارات نادرة؟ الإجابة طبعًا بالنفي. فنزعة الاختفاء لديه قديمة، تعود إلى طفولته الباكرة عندما كان يحلم بمرهم يدهن به جسمه فيختفي فورًا عن الأنظار. «ألّا يكون للمرء وجود علني أمرٌ له محاسنُه أيضًا»، هكذا يصرّح في مقابلة تلفزيونية. وينقل عنه الناقد المغربي محمد الساهل في كتابه «حلم كونديرا بين القراءة والكتابة» قوله: «أحلم بعالَمٍ فيه يكون الكُتّاب مجبرين بحكم القانون على الاحتفاظ بأسمائهم الحقيقية وعلى استعمال أسماء مستعارة»، كما أنه ظل طوال حياته يردد عبارة الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير: «يجب على الفنان أن يجعل الأجيال القادمة تعتقد أنه لم يعش أبدًا». ولعل هذا التخفي وما يضفيه عليه من هالة الغموض هو الذي أذكى شغف كثير من الصحفيين لملاحقته ومحاولة تقصّي حياته، ومن هؤلاء الصحفية في لوموند الفرنسية أريان شومان التي أجرت سلسلة من التحقيقات الاستقصائية حول حياته في تشيكيا، وجمعتها في كتاب «السيرة غير المعروفة لميلان كونديرا» (ترجمته إلى العربية وئام غداس)، تمكنت خلالها من الاطلاع على أرشيف كونديرا الذي تجاوز 2300 صفحة مثقوبة ومختومة بطابع «سرّي للغاية»، وقد حُفِظتْ في معهد دراسات الأنظمة الشمولية، وضمّنتْ كتابها نصوصا من التقارير الأمنية التي كُتِبتْ حول نشاطه في براغ. وقد اعتمد هذا الأرشيف على تفريغ كل مكالماته الهاتفية ومكالمات زوجته وشهادات كثيرين من الوشاة، معظمهم من الأدباء التشيك الذين بدوا على استعداد للتعاون مع الأجهزة الأمنية.
لكن التقرير الأهم عن كونديرا لم يكن في كتاب صحفية لوموند، وإنما في مجلة تشيكية تُدعى «ريسبيكت» نشرته عام 2008، واتهمتْه هو هذه المرة بالتعاون مع الشرطة السرية في تشيكوسلوفاكيا عام 1950 والوشاية بزملائه. وقد نشرت الوثيقة الخاصة بذلك ورقمها، وكيف أن الطالب الجامعي آنئذ ميلان كونديرًا وشى بأحد المعارِضين الفارّين إلى ألمانيًا واسمه ميروسلاف دفوراتسيك وكان عائدًا بصفة مؤقتة وسرية إلى بلاده بعد هروب استمر عامين، وقد قبضت عليه الشرطة السرية بسبب هذه الوشاية وحُكِمَ عليه بالسجن اثنين وعشرين عاما بتهمة التجسس، ولم يفرج عنه إلا بعد أن قضى أربعة عشر عاما منها في السجن. ورغم أن كونديرا نفى هذا التقرير بشدة واتهمه بالكذب وبـ«محاولة اغتيال كاتب» إلا أنني شخصيًّا أرى أن المعطيات والأدلة التي ساقتها الصحيفة التشيكية أكبر بكثير من تكذيبه.
هل تسببتْ هذه «الفضيحة» في حرمانه من جائزة نوبل كما كتب بعض الكتّاب؟ ربما، لا شيء مؤكد. شخصيًّا أستبعد هذا الأمر لسببين: الأول أن هذه القصة ظهرت في وقت متأخر، وبعد اكتمال مسيرته الأدبية تقريبا، فقد كان عمره حينئذ تسعة وسبعين عاما، بينما كان مرشحًا للجائزة قبل ذلك بسنين. والثاني أنه لا أحد يعرف على وجه الدقة حتى اليوم لماذا تمنح الأكاديمية السويدية الجائزة لهذا الكاتب وتمنعها عن ذاك. يعزو البعض عدم حصوله على نوبل لخيانته المزدوجة (تركه بلده الأصلي ثم لغته)، والبعض لنزعته العدمية في رواياته، ومعاكسته للتيارات السائدة. وأيًّا كان السبب فقد انضم كونديرا إلى نادي الأدباء الكبار الذين تجاهلتْهم نوبل من تولستوي إلى كازانتزاكيس إلى بورخيس، وقد رأينا أن هذا التجاهل لم يضرّ أدبهم في شيء، فما زالوا إلى اليوم ملء السمع والبصر. وما يبقى في النهاية هو الأدب الرفيع، وأما الزبد فإنه يذهب جفاء.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني