لا تــبـني لــك بـيــتــًا

و إلاّ صــرتَ بــيــتــًا، ومـن يــقــبــعُ فــي الـبـيـت .

يــكــون فـي انــتــظــار الــزائــر الـمـتـأخــّـر

لــيــفــتــحَ لـــه.

للشاعر الألماني غونتر غراس

بيت لا تبيت فيه لا يُسمى بيتا، ونُزُل لا تشعر بألفة به/معه لا تنزل به، وفندق لا مقهى ولا مسبح ولا شرفة به فهو خندق، ومنزل لا تشم فيه روائح القهوة والبهارات والحكايات، لا تذبل فيه.

*** *** ***

لم يكن للبيوت معنى ولا وجود عندما كان الإنسان الأول يدحرج دهشته الأولى وخوفه ورعبه الأزلي، وحين كان يتلمس الروائح والأصوات ويصهرها في ذاكرته البكر الصافية، حينما كان يتبع الضوء الأول بين أغصان الظلال، ويتلمس جوهر الأشياء، كان منغمسا ومزروعا ومنصتا لغابة البداية، كان عاريا من المعنى والفكرة والتجربة والحنين، وعندما دثرته العتمة جرَّ خوفه الطفولي نحو الكهف. خاف من عتمة الكهف، نام في العراء، في الفجر عاد إلى كهفه، تشابكت في مخيلته الأولى ظلمة العتمة والكهف والرحم الأول، لم تشتعل النار بعد، لكن صوت الذئاب دفعه لحمل صخور الغابة والمنحدرات إلى فم الكهف الأول. من تلك اللحظة أصبحت الكهوف بكماء (رغم أن مخيلة الشاعر قالت لنا إن الكهوف هي أفواه للجبال)، وكادت أن تصبح عمياء لولا الخفافيش التي سبقت الإنسان الأول إلى الكهف، لن تعبر الريح إلى ثقوب خوفه. لكن عواء الذئاب في الأعالي والهضاب أنسلَّ من بين الصخور، وتمدد في الكهف.

ظل الخوف يتمدد، ويومض كعين قط خائف في فضاء الكهف، نبتت الفكرة في رأس الكائن المرتعب في العتمة، فكان البيت الأول يتربع وينبت في جوف الكهف، في رحم الأرض، وكأنه العودة الأولى إلى رحم الأمومة المفقودة، لم يسأل الكائن الخائف رأسه، من أين جاءت الفكرة؟

كلما حاصر الخوفُ الإنسانَ أو سمع عواء الذئاب هرب إلى بطن الكهف، الذي تسد الحجارة فمه، ومنها تكوّن البيت الأول. نثر الإنسان الأول بيوته في الكهوف، هربت العتمة من ضوء النار والحكايات الأولى، سألت العيون المرتبكة: أين هربتْ العتمة؟

ردتْ القلوبُ المرتجفة: أعلى الجبل.

نزلت الأقدام من الكهوف في الفجر، جلست تحت ظلال الأشجار، راقبت حركة الريح وأصوات الطيور، وأصوات أخرى بعيدة، أغرتها البرودة، أخذت الأيادي جذوع الأشجار، تذوقت الأفواهُ الأوراقَ، بدأتْ إشعال النار تحت الأشجار، أحاطوا الأشجار بأغصان، وحجارة أنزلوها من الكهوف. لحظتها صرخ الكهف في وجه الخوف: ستعود أيها الإنسان إلى جوفي.

تحت أكواخ الأشجار تكوّن البيت الثاني للإنسان. الريح التي أغرته بالنزول من كهف الأول، هي التي هدمت أكواخه، في الفجر ذهب الإنسان إلى النهر، فتح النهر قلبه، وقال للإنسان: خذ طيني، وشيّد جدرانا لخوفك وأطفالك، من طين الأنهار والسهول، بنى الإنسان عشا لأحلامه وكوابيسه، في الكوابيس ظلت العتمة والريح تطارده. في كل مرة يبني الإنسان بيتا له، يكبر خوفه أكثر، تجمعت البيوت وصارت قرية وقرى، تعانقت القرى فأصبحت مدنا. في المدن أصبح أكثر اغترابا، وتوحشا. وأصبح الفقر ملحا لهذه المدن. وكلما أطفأ الإنسان القابع في العلب الإسمنتية المصابيح والقناديل في الليل، حملته الأحلام والكوابيس إلى عتمة الكهوف وعواء الذئاب.

تنوعت البيوت، وتفرقت الأسماء، وفسدت معانيها، تسلل إليها الفقر والقتلة: بيت/ شقة/ فلة/ قصر/عمارة/ كوخ/خيمة/سرداب/خان/حارة/سجن. وظل الإنسان يطارد ويلهث للبحث عن ما يغطي خوفه الأول، والعراء الأبدي. هل كان الإنسان يهرب من الخوف إلى البيت؟ هل الخوف من البيت، وعلى البيت، وللبيت ظل متدفقا في مخيلة الإنسان إلى الآن؟ ماذا لو نام الإنسان في العراء وعانق العتمة وصادق عواء الذئاب؟ هل ستتلاشى فكرة البيت من مخيلته؟ هل سيتلاشى لصوص الأرض وتجار بيوت الأحلام، وهل سيحتاج الشاعر لسقف يغطيه ليكتب قصائده الأخيرة عن الخوف؟

*** *** ***

هل للشعر بيت؟ ماذا يفعل الشعر في بيته؟ هل يرتب عاطفته المعطوبة؟ هل يتمدد من التعب، كأنه عامل من عمال المناجم؟ أو كأنه أرملة تُفكر في الجندي الذي لم يعد من الحرب؟ هل يحرس الشعراء بيت الشعر؟ الشاعر لا يحرس سوى منفاه وغربته. يطير الشعر في الآفاق واللغات والحدود ولا ينام سوى في العراء. كان العربي مرتحلا قلقا، لكنه بنى لذاكرته القصائد، وفي القصيدة يتربع البيت، وداخل هذا البيت أسكنَ الأطلال والأحلام والرحلة والناقة والسيف والدم والخمر، فلم يضق البيت، ولم تنكسر القصيدة ولم ترتعب من كل ذلك.

الرحلة والتيه امتدتا، والبيت الشعري ظل ثابتا رغم وحشية الصحراء.

للبيت قلب وروح، قلبه الأطفال وروحه الأمهات، ودموعه الآباء العائدون من جحيم الخارج أو من حقول الضجر والحروب، وهل الداخل جنة للآباء المتعبين؟ لكل منهم جنته، تقول الجدران.

الأصــــابع

أصبع الطفل تشيرُ إلى القمر، أصبع الشاعر تكتب قصيدة عن دهشة الطفل من القمر. أصبع العاشق مغروسة في وردة الانتظار، أصبع البلاد منسية على طاولة التاريخ وكرسي الغزاة، أصبع التاريخ غارقة في بحيرة الدم، أصبع الموظف تسجل حضورها الخادع. أصبع الأحمق تشير إلى القاتل، وأصبع المجنون تقود إلى جوهر الحياة، وأصبع أخرى تُوقّع على شهادة الوفاة. أصبع يجمدها الثلج. أصبع تشعل فتيل الحرائق. أصبع على الزناد، أصبع المرأة ترتفع في وجه زوجها. أصبع في ثقوب الناي تجفف ماء يتمه، أصبع تضغط على الحبر في بياض الورق ليستلم العمال راتبهم الشهري. زرقة الحبر أصبحت لونا لملابس العمال. تنام الأصابع في عش اليد. لا تفارق الأصابع عشها إلا عندما تعزف الموسيقى أو تمسح على رؤوس الأطفال والأيتام، في تلك اللحظة تتحول إلى غيوم بيض أو طيور مهاجرة.

أصابع تصنع شباكا للصيادين/ أصابع تغزل الملابس للأطفال

أصابع في عنق القتيل/ وأصابع تخرج الطفل من ظلمة الرحم.

أصابع تتوغل في حدائق الرغبة/ أصابع تضع الكفن على الجسد.

أصابع في فم الموسيقى/ وأصابع في شاشة السينما تطلق الرصاص.

أصابع في الطين، وأصابع في الدم، أصابع الطاغية في المرايا تتحول إلى سكاكين، أصابع الراعي في ماء النبع تصبح نايا، أصابع الجدات في الذاكرة كانت حكايات.

*** *** ***

إصبعا التلميذ ترسمان جبالا قاحلة، وماءً ينزل من الجبل، وعلى ضفتي النهر رسمتْ إصبعا التلميذ أشجارا بلا أوراق، وفوق الجبال نبتت شمس خجولة وطائر وحيد، إصبعا التلميذة الجالسة بجوار التلميذ رسمت سحابة بيضاء وطائرا آخر، تعانق الطائران، ودخلا في السحابة البيضاء، خجلت التلميذة من عناق الطائرين المندسين في السحابة، وضعت أصابعها على فيها، رسمتْ أوراقا خضراء للأشجار العارية، وعشا للطائرين، نزل الطائران إلى عشهما، حمل التلميذ رسمته إلى المعلمة، بأصابعها طلبت من التلاميذ أن يصفقوا للتلميذ والتلميذة، الأصابع التي كتبت المشهد السابق، تمنت لو كانت حاضرة في الفصل لترى فرحة التلميذين اللذين رسما جبال أحلامهما.

إصبع تغلق مصباح النوم، وإصبع تفتح نافذة الصباح.

أصابع تمسد لحى الزمن في الوجوه، وأصابع تتوغل في بياض شعر الرأس، فتقلق العينان، ستقول لك الأمثلة المُعلّبة في ألسنة الشعوب إن أصابعك ليست متساوية، وتقول لك يد واحدة لا تصفق، لكن إصبع واحدة يمكنها أن تضغط على الزناد، أصابع الطفلة أشعلت علبة الكبريت فاحترق البيت وذبل صوت الطفل الصغير، وإصبع واحدة يمكن أن تفتح لك خزائن البنك، فماذا سينفع التصفيق للقائل :«اليد الواحدة». التصفيق يرضي غرور الحمقى والجنرالات والقتلة فقط.

تنكمش الأصابع على نفسها فتكسر الزجاج أو الباب، تمدد الأصابع فتصبح نوافذ للوادع، أو تلويحة جندي لن يعود من الحرب.

أصابع تغرق في بحيرة الموسيقى، أصابع تندس في عتمة القصائد، أصابع في شاشات السينما، أصابع تذبل وحيدة؛ وهي تسحب أغطية السرير والرغبة المنسية، تمسح الأصابع الدموع، تُمسك بالقُبلة وتطير بها إلى نوافذ القطارات والمحطات.

إصبعان ترفعان علامة النصر في الملاعب والمعارك، وإصبع واحدة تهدد الإصبعين.

حمود سعود قاص وكاتب عماني