يعيش الإنسان واقعه اليوم مرغما على مجابهة حروب شتى تتجاذبه متمثلا قول الشاعر «تكاثرت الضباعُ على خراشٍ، فما يدري خراشٌ ما يصيد» كلها حروب تتقمص الإنسان وتستنزف طاقته مدعيّة السعي لمنفعته ورخائه، فلا هو بالمنتفع في الغنيمة، ولا هو بالآمن في الرخاء، ومن هذه الحروب المُعاشة ما نعاصره يوميا من حروب تنافسات معلنة في حروب اقتصادية أطرافها الدول كبرى في المستوى الأول، وصولا لأصغر التجار المتلاعبين بمصائر وقوت الشعوب احتكارا وغلاء، وضمن هذه الحرب في مستواها الأعلى لا بد من توظيف السياسة وعلاقاتها وتحالفاتها نصرة لأطراف الصراع الكبرى حلفاء مستقبليين وغطاءات أمنية متصوّرة، وهنا يجد ابن القرية النائية في الجزيرة العربية أو الريف البعيد في الصين، أو الجبل القصيّ في أوروبا نفسه وأهله متابعين لتحركات وتكتلات ومواقف تلك الأطراف الكبرى، ليس لاهتمامهم وحماسهم السياسي يقينا، ولكن لأنهم يدركون أنهم في كل الأرض صاروا ميدانا لتلك الحروب الكبرى إذ تمس السياسة اليوم كل تفاصيل الواقع دون استثناء بداية بشربة الماء وليس انتهاء بالمستقبل في واقعه الاجتماعي علميا أو عمليا، ولا يمكن للإنسان أن ينجو بفك ارتباط واقعه اليومي من السياسي الاقتصادي أو الاقتصادي السياسي بأي حال من الأحوال.

الحرب الاقتصادية السياسية وظفت بشكل مرعب كلَّ أدوات الواقع لصالحها ماديا دون كبير عناية بالإنسان في قيمته المعنوية أو النفسية، يظهر هذا جليّا في تداعيات هذه التنافسات الكبرى على توظيف كل ما يمكن تخيله وما قد لا يستوعبه الخيال في هذه الحروب، وليست جائحة كورونا عنا ببعيدة، ومع إعلان منظمة الصحة العالمية تحذيرا حول متحورات لفيروس جديد، إن وضعنا بعين الاعتبار تصديق فرضية الحرب البيولوجية وتصنيع الفيروسات مخبريا سعيا لتكسب شركات الأدوية عالميا في ترويج منتجاتها مع عملقة شبح الأمراض وأشباح الموت والفناء مع خصوصا إن توافق كل ذلك مع تشييء الإنسان بالنظر له على أنه عبء أثقل كاهل الحكومات.

ثم حرب الغذاء التي تهدد الشعوب في قوتها اليومي من الحبوب كأبسط شكل للغذاء اليومي. حيث حذر المنسق الأممي للشؤون الإنسانية مارتن غريفث من ارتفاع أسعار الحبوب العالمية ومن تبعات كارثية لخطر اتساع دائرة الحرب التي قد تشمل حدوث مجاعة، كل ذلك ردا على انسحاب روسيا من اتفاقية إسطنبول لتصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود التي تمثل بالغ الأهمية لضمان الأمن الغذائي العالمي، وتكملها الهند التي حظرت تصدير الأرز الأبيض غير البسمتي في مسعى يهدف إلى الحد من ارتفاع الأسعار المحلية، في حين حذر خبراء من أن هذه الخطوة قد تؤدي إلى ارتفاع أسعار الغذاء العالمية.

أو الحرب الأكثر وضوحا وتجليا وهي الحرب العسكرية بين روسيا من جهة وأوكرانيا وحلفائها من جهة أخرى، والتي لا يخفى أنه منذ التلويح بها أو بغيرها من تصنيع الأعداء لتسويق وترويج كساد أسلحة الدول العظمى المصنعة لهذه الأسلحة، لذلك فكلما طال أمد التهديد اليومي بنشوب الحرب اتسعت المساحة الزمكانية لتسويق السلاح واتفاقيات الدفاع الأمنية، والتحالفات العسكرية. حتى ليبدو الأمر في سياق التسويق العسكري أكثر منه تدافعا دوليا لإيقاف الحرب وتبعاتها اللاإنسانية؛ حين نجد تصريحات المتحدث باسم القوات الجوية الأوكرانية، يوري إحنات، الأسبوع الماضي في إبراز مميزات الأسلحة مثل سرعة ومسار صاروخ أونيكس وصاروخ Kh-22، يجعلان من الصعب للغاية اعتراضهم،. وأضاف أن صاروخ Oniks «مصمم لتدمير الزوارق والسفن ويطير بسرعة تزيد عن 3000 كيلو متر في الساعة، مما يعني أنه يتمتع بسرعة عالية، ويمكن للصاروخ أن يطير على ارتفاع 10-15 مترًا فوق الماء مما يجعل من الصعب اكتشافه، بوسائل الدفاع الجوي. وفي ذات السياق الترويج لمنظومة “هيمارس” (HIMARS) الصاروخية التي تقدمها الولايات المتحدة لأوكرانيا التي يبلغ مداها 80 كلم، وهي تمنح القوات الأوكرانية القدرة على ضرب أهداف حيوية للجيش الروسي بدقة أكبر داخل حدود إقليم دونباس، وتحمل الراجمة الواحدة من المنظومة 6 صواريخ من عيار 227 ملم، وهي موجهة من خلال نظام تحديد المواقع العالمي «جي بي إس» (GBS). أو ما روجت له كذلك إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن والذي خرج في ظاهره إلى ممانعة حيث الإصرار على عدم تزويد أوكرانيا في الوقت الحالي بصواريخ «أتاكمز» (ATACMS) بعيدة المدى رغم وجود ضغوط من أعضاء الكونغرس وطلبات من كييف، كل ذلك في الحقيقة لا يعدو ترويجا وتسويقا لكل هذه الأسلحة خاصة مع حركة الرفض الظاهري بحجة الرغبة باستبقاء هذه المنظومات العسكرية الحديثة لأنها تمثل أقوى أسلحة الدولة المصنعة لها، وما استبقاؤها إلا معرفة بإمكاناتها التي تحقق الأمان العسكري لمن يمتلكها وخطورة لمن يفقدها.

كل ذلك الترويج وكل تلك الحروب مع مفارقة ما يتم تسريبه كذلك ( إن صدقا وإن كذبا ) من حروب أمنية تجسسية ما نقلته قناة «إن بي سي» (NBC) الأمريكية عن مصادر مطلعة أن مجموعة من كبار مسؤولي الأمن القومي الأمريكيين السابقين أجروا محادثات سرية مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وشخصيات روسية بارزة، بيد أن موسكو سارعت لنفي ما ورد في تقرير الشبكة، أما حول مضمون ومحتوى المفاوضات فلا يمكن الجزم إن كانت سعيا لوقف الحرب المحتملة أو سعيا لإضرامها حرصا على ميدان التسويق العسكري العالمي الحالي في شكل الحرب المفترضة.

ختاما؛ لا يملك أحدنا إلا المتابعة بعد ابتلاع طعم الخوف فزاعتي الحرب والمجاعة خصوصا مع تهالك ورقة التحالفات الكبرى في أكثر من مثال واقعي في خارطة الأحداث الأزمات السياسية آخرها تصريح وزير الدفاع البريطاني الذي خرج عنه انفعاليا بعيدا عن أي دبلوماسية تعوّدناها حين صرخ بأوكرانيا: لسنا «متجر أمازون» لإمدادات الأسلحة» في معرض رده على إلحاح أوكرانيا للوصول إلى مسار زمني واضح لعضويتها في حزب الناتو ثم لإمدادات الأسلحة مشيرا إلى أن الناس بحاجة لرؤية بعض الامتنان الأوكراني!

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية