جهود المعنيين في الشأن الموسيقي وتطوير هذا المجال لم تتوقف منذ أكثر من خمسين عاما. والمسابقات الغنائية كانت من أبرز الأدوات المستعملة في هذا الشأن للاعتقاد السائد بأن اكتشاف الصوت الحسن والموهوبين في هذا المجال العامل الرئيسي لتطوير الغناء والأغنية. وفي هذا المقال المتواضع أحاول تقييم هذه التجربة الغنائية والإجابة عن بعض الأسئلة الأساسية التالية: إلى أين ذهب الفائزون بهذه المسابقات؟ وهم ليسوا بالعدد القليل إذا ما أحصينا عدد المسابقات التي تم تنفيذها منذ نشأتها؟ ولماذا لا نرى لهم أثرا في المشهد الموسيقي؟

وعلى العموم لا أدري بالضبط متى بدأت عندنا في عُمان أول مرة المسابقات الموسيقية (الغنائية)، وقد كانت جهات عديدة ولا تزال تقوم منذ سنوات عديدة بتنفيذ فعاليات في هذا السياق، تتوقف حينا ثم ما تلبث أن تعود مرة أخرى. أما مسابقات العزف على آلة العود فنشأت حسب علمي مع الجمعية العُمانية لهواة العود التي كانت تختص بهذه الآلة، ذلك إن الآلات الأخرى كالكمان والناي والقانون وغيرها، وهي آلات أساسية في الموسيقى العُمانية الحديثة، لم تتوفر لها الاهتمام والرعاية كما هو الحال مع آلة العود، وبسبب قلة عدد العازفين عليها انعكس ذلك سلبا على سوق الإنتاج الفني، فكان اللجوء باستمرار إلى العازفين من الخارج لتغطية العجز في المهارات كمًّا ونوعًا. وفي هذا السياق لن نجد خارج محافظة مسقط عازفين على تلك الآلات الوترية بكفاءة معقولة.

والمسابقات الموسيقية والغنائية بشكل عام مستويات مختلفة باختلاف المستهدفين، ولها توجهات وأهداف متنوعة، وهي في العموم أهم وسيلة لاكتشاف المواهب التي تتطلع إلى دخول عالم الموسيقى والاحتراف والعمل في مجالات الغناء والتلحين والعزف، وهذه أكثر المسابقات شيوعا.. والمحترفون من صنف المبدعين (أفرادا ومجموعات) ليسوا بحاجة للمسابقات التنافسية، وتصمم الفعاليات المستدامة في العادة لاستيعاب نشاطهم ومكافأتهم على منجزاتهم الإبداعية وهو المكان أو ما اصطلح عليه هنا بالأفق الذي يتطلع إلى بلوغه الموهوبون.

وعلى كل حال أعتقد أن المسابقات الموسيقية (الغنائية تحديدا) وصلت في بلادنا إلى طريق مسدود، بما في ذلك تلك التي يحاول الحريصون على الشأن الثقافي والفني تنظيمها واستمرارها. ذلك إن الفائزين في هذه المسابقات لا يحدثون فارقا في المشهد الموسيقي بسبب انحسار الآفاق أمامهم.. فلا فرق أن فزت أو لم تفز، فالمستقبل الفني بعد المسابقة واحد. ومن المعلوم إن بعض المسابقات ساهمت في اكتشاف وإبراز بعض المطربين ولحدٍ ما بعض الملحنين، غير أن الجميع تقريبا اختفى من الساحة بسبب غياب النشاط الموسيقي الاحترافي النوعي والمستدام، وهذا حال الغناء والموسيقى العُمانية الحديثة التي شهدت منذ السبعينيات فترات مد وجزر، وخسرت بسبب ذلك بعض جمهورها المحلي والخارجي.

والسؤال المطروح دائما ماذا بعد هذه المسابقات؟ وهو السؤال الذي كان يوجه لمهرجان الأغنية العُمانية بسبب أن معظم الذين نالوا جوائز المهرجان واجهوا تحدي الاستمرار.

وكما ذكرت في بداية المقال، إن المشاركين في المسابقات يتطلعون إلى ما بعدها، وهذا هو الدافع الأساسي وراء المشاركة، وعليه فإن خريطة النشاط الموسيقي التي تبلورت منذ نهاية التسعينيات من القرن العشرين الماضي لا تلبي الطموح في تقديري، ولعل جائحة كورونا وتوابعها كان تأثيرها سلبيا على المشهد الموسيقي بشكل كبير، وأطاحت بعدد من الفعاليات التي كانت تنظمها وزارة الثقافة ومركز عُمان للموسيقى التقليدية وجمعية هواة العود. لذلك لا بد من تفعيل المشهد الموسيقي وجعله محفزًا وقادرا على استيعاب مختلف التوجهات الفنية الإبداعية من جهة، وفضاء واسعا من جهة أخرى أمام مخرجات المسابقات وضمان استمرارها وعدم هدرها. إن غياب الأفق أمام المتسابقين يؤدي إلى تراجع الإقبال النوعي على الاشتراك في المسابقات وهذا مؤشر سلبي جدا.

وعليه فإن تضافر المؤسسات الحكومية والخاصة المعنية بصناعة الموسيقى والقوة الناعمة على إيجاد بيئة نشطة مسألة استراتيجية، ولعل من المهم التمييز في أنشطتها بين تلك التي تخدم الهواة وتطوير المهارات الفنية من جهة، وتلك التي تستهدف المحترفين وتمكينهم من عرض أعمالهم الإبداعية بشكل مستمر وفي أفضل الظروف المادية والمعنوية من جهة أخرى.

مسلم الكثيري موسيقي وباحث