يشكل اتضاح منظومة سياسات الحماية الاجتماعية أحد أهم التحولات في النموذج التنموي لسلطنة عُمان؛ ذلك أننا نتحدث من منظور السياسة العامة عن سياسة شبه متكاملة الأركان وتتخذ أفضل ممارسات الحوكمة والتأطير المؤسسي والتشريعي، وتضع أدوارًا محددة للفاعلين الرسميين وغير الرسميين لتكامل أداء المنظومة. عوضًا عن أنها توفر مدخلًا مهمًا بالنسبة لنا كمهتمين بالسياسة الاجتماعية لقراءة الاتجاه العام الذي ترنو إليه الدولة في سبيل تنظيم السياسة الاجتماعية وتحديد مساراتها. بالقراءة العامة للأطر المؤسسية التي تم إقرارها لتطبيق السياسة الاجتماعية من خلال استصدار المرسومين السلطانيين: رقم (٥٠ / ٢٠٢٣) بإصدار نظام صندوق الحماية الاجتماعية، ورقم (٥١ / ٢٠٢٣) بإصدار نظام صندوق تقاعد الأجهزة العسكرية والأمنية؛ سنجد أن هناك عدة ملامح مهمة للتأطير المؤسسي للسياسة: أولها ضمان مشاركة كافة الأطراف ذات العلاقة على رأس هياكل الحوكمة، وثانيها مركزية صنع السياسة الموجهة لأنظمة الحماية الاجتماعية؛ مع إعطاء هذه المركزية قدرًا من المرونة في مواكبة المتغيرات والمستجدات التي يمكن أن تطرأ على مقتضيات الحماية الاجتماعية، وثالثها النظر بشكل مركز وحوكمة مسائل التمويل واستدامته؛ وهي إحدى القضايا شديدة التركيز بالنسبة لوضع أنظمة الحماية الاجتماعية عالميًا، أما رابع تلك الملامح فهو أن شكل التأطير المؤسسي المُقر سيمكّن من توحيد قواعد البيانات والأدلة وتخطيط السياسة الاجتماعية؛ وبالتالي من الممكن أن يُحسن من كفاءة أدائها ودقة مستهدفاتها وجودة مخرجاتها.

ومما لا شك فيه أن اتجاه الدولة إلى إرساء نظام متكامل للحماية الاجتماعية سيسهم في توجيه الموازنات الاجتماعية بالشكل الأمثل، ليس فقط على مستوى تمويل منظومة الحماية الاجتماعية، وإنما في مجمل الإنفاق على الجوانب التي تشكل (فجوات) في المنظومة أو البرامج والمبادرات التي يمكن أن تحسّن من نوعية وجودة ومستوى الحياة بالنسبة للمستهدفين بمنظومة الحماية الاجتماعية. وتبدو الدلالات الأولى التي يمكن أن نقرأها من ملامح قانون الحماية الاجتماعية أنه يغطي دورة الحياة المتكاملة بالنسبة للأفراد؛ وبالتالي فهو يقلص احتمالات وقوع الأفراد في (المخاطر الاجتماعية)، ويحسّن من وصول الفئات الأكثر احتياجًا إلى الموارد المحددة لها بمنهجية ووفق أولوية الاحتياج الأقصى. كما أنه يساعد كافة الفئات الاجتماعية في مختلف مراحلها العمرية أن تكون مُسهمة في السوق/ الاقتصاد سواء من خلال الإنتاج المهني، أو من خلال الاستهلاك وتشكيل القوى الشرائية من ناحية أخرى. ولا مبالغة في القول أن هذه المنظومة ستوضح الكثير من خارطة التركيب والبناء الاجتماعي من ناحية سوسيو – اقتصادية ؛ إذا ما تم تدعيمها بإطار واضح للتنبؤات الاجتماعية، وتم التركيز على جودة الأدلة وتحديث البيانات التي تستند إليها بطريقة مركزية. والمنظومة في ذاتها ستمكن بقية أجزاء السياسة العامة من تحديد التدخلات وابتكار المبادرات وتطوير الأجندة بشكل أوضح. فعلى ضوء ما يتشكل من بيانات وأدلة تستخرج من منظومات الحماية الاجتماعية يمكن معالجة الفجوات وتطوير التدخلات المطلوبة في سياسات التعليم أو سياسات تنظيم أسواق العمل، أو سياسات العمل ذاتها من ناحية الأجور وحصص الفئات النوعية من الفرص الوظيفية. وبالتالي فإن الحماية الاجتماعية كرافعة للسياسات الاجتماعية ستكون محركًا مهمًا من محركات السياسة العامة في سلطنة عُمان.غير أنه ثمة استحقاقات يجب التنبه لها في مسار تحقيق الحماية الاجتماعية؛ وأولها استحقاق السياسة السكانية، والتي أكدنا عبر مقالات عدة سابقة على ضرورتها في اللحظة الديموغرافية الراهنة للمجتمع في عُمان. تتأثر أي منظومة للحماية الاجتماعية بمدى قدرتها وكفاءتها في استحضار توقعات دقيقة لمسار النمو السكاني والتحول الديموغرافي، وبالتالي فإننا نعتقد أن السياسة السكانية أداة للاقتراب بشكل أكبر من مسار التوقعات المطلوبة والمناسبة لكفاءة أداء منظومة الحماية الاجتماعية (المحسوبة). يتعلق الاستحقاق الآخر أيضًا بالانتقال إلى تنشيط اقتصاديات (نوعية)؛ ونقصد بها القدرة على توفير المنتجات/ الخدمات/ الخيارات للفئات النوعية المستهدفة بمنظومة الحماية الاجتماعية، والتي يمكن أن تساعدها إما على تجويد نوعية حياتها، أو على تنشيط إسهاماتها الاقتصادية. وقد يكون جزء من هذه الخدمات هي الخدمات والمنتجات المالية المبتكرة التي يمكن أن تعضد كفاءة المنظومة الرسمية. هناك استحقاقات أخرى أيضًا تفرضها طبيعة المتغيرات العالمية؛ يجري نقاش عالمي موسّع اليوم عن أهمية استدراك نظم الحماية الاجتماعية لاحتواء تلك الفئات الأكثر عرضة لتغير المناخ. تشير التوقعات إلى أن تغير المناخ من الممكن أن يدفع أكثر من 130 مليون شخص إلى الفقر المدقع بحلول عام 2030. غير أن تدخل منظومات الحماية الاجتماعية لا ينبغي أن يكون فقط لعلاج قضية الفقر؛ وإنما لتغطية مجمل المخاطر التي يواجهها الأفراد والأسر مثل عدم المساواة وعدم الاستقرار الاجتماعي كمخاطر ناشئة من تهديدات تغير المناخ بحسب سيسيليا كوستيلا. ومن أهم الاستحقاقات العالمية التي توجه منظومات الحماية الاجتماعية هو صعود طبقة وسطى عالمية (نوعية) متوقعة حيث تقدر التوقعات أنه بحلول عام 2030 ستبلغ الطبقة الوسطى العالمية 5.3 مليار شخص. وتشير ورقة نشرت بعنوان: «The Growth & Importance of Middle Class Consumers in Emerging Markets» أن هذا الصعود من الممكن أن يحول بشكل جذري في أنماط استهلاك ومعايير هذه الطبقة فعلى سبيل المثال تقول الدراسة إن «ما يميز الطبقة المتوسطة عن الفقراء والأغنياء هو أنه في حين أن هؤلاء في هذه المجموعة لديهم القوة الشرائية، فإنهم يميلون إلى اتخاذ خيارات اقتصادية تشمل مزيجًا من استهلاك المواد والتمتع بها. كما أنهم يميلون أيضًا إلى تفضيل الملكية الخاصة، والادخار للمستقبل، وتعظيم الخيارات الشخصية». كل هذه الاعتبارات في تقديرنا مهمة وحاسمة ومن الضرورة أن تستدركها سياسات وبرامج الحماية الاجتماعية على المدى البعيد.

سيمثل إرساء هذه المنظومة المتكاملة للحماية الاجتماعية أفقًا مهمًا كذلك لبرامج الرعاية الاجتماعية، وخاصة البرامج الموجهة لتمكين وتنمية الفئات الأكثر احتياجًا (غير المساعدات النقدية)، فبمقدار أهمية توسيع نظام الحماية الاجتماعية فإن هناك ضرورة أيضًا لأن يسهم هذا النظام في تقليص الفجوات بين الشرائح والطبقات المجتمعية. نعتقد كذلك بضرورة وجود توصيف متكامل للمخاطر الاجتماعية يعتمد على أهم المعايير والمحكات الناشئة في تصنيف المخاطر الاجتماعية بما يمكن من مراجعة المنظومة وجعلها أكثر مرونة للمتغيرات والمخاطر. حيث ينتقل مفهوم المخاطر الاجتماعية اليوم إلى تصنيفات مستجدة فبحسب منظمة العمل الدولية بعد أن كان محصورًا في مخاطر دورة الحياة، ومخاطر الدخل وسبل العيش. انتقل إلى ما يُعرف بالمخاطر التقليدية الناشئة عن التوظيف في المجتمعات الحديثة (اعتلال الصحة والإعاقة والأمومة والبطالة، والشيخوخة، وما إلى ذلك) ثم إلى المخاطر الحديثة على العمالة والدخل الناشئة عن العولمة والتغير التكنولوجي (على سبيل المثال ، المهارات المتقادمة ، والمخاطر الفريدة للأسر التي يعيلها فرد واحد، وما إلى ذلك). ومن هنا فإن أحد أهم مقتضيات منظومة الحماية الاجتماعية استدراك هذه المخاطر وإيجاد التدخلات المباشرة والبرامج والمبادرات اللازمة للتعامل معها وصولًا إلى مجتمع مستديم تقل فيه آثار المخاطر الاجتماعية وينعم أفراده بالقدرة على الإنتاج ونوعية الحياة الجيدة.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان