قد يكون تطلّعنا المهني الدائم والهوس بمواقعنا على سلَّم الترقيات الوظيفية سببًا كافيًا وراء تجاهلنا المستمر لأهمية بعض الوظائف والمهن البسيطة ذات الطابع البدني، والتي تنشط في الظل واصلةً شبكة أنشطتنا وشؤوننا اليومية ببعضها، فبدونها لن تتم تفاعلاتنا ولن يكتمل حضورنا على النحو الذي نخطط له في مختلف المواقع، وغالبًا لن نحضر في المواعيد المضبوطة لمجرد أي خلل بسيط يطرأ على سير هذه الوظائف التي تمثل البنية الأساسية لنمط حياتنا الحالية.

فمن المؤكد مثلًا أنني لن أتمكن من حضور الحفلة الموسيقية المنتظرة مساء اليوم في دار الأوبرا لو أن رسالة صوتية من (المكوجي البنجالي) ستردُني قبل موعد الحفل بساعة لتخبرني بأن دشاديشي، التي كدستها طوال أسبوعين قبل أن أرسلها إليه، ستبقى ليومٍ إضافي في مغسلة الملابس. أو ربما سأضطر لأن أذهب لمقابلة العمل هذا الصباح دون أن أتناول إفطاري السريع لأن طلبية الطعام التي انتظرتها لساعة كاملة لن تصلني قبل العاشرة بسبب خطأ في تسجيل عنواني بتطبيق شركة التوصيل. هناك آلاف الاحتمالات العابرة التي تجعل من مهن بسيطة كهذه ذات آثار بعيدة ودقيقة في أحداث أي يوم عادي.

أغلب الوظائف البسيطة المشغولة اليوم، كمهنة التوصيل أو خدمة الغرف أو الرعاية المنزلية؛ أي تلك الوظائف التي تتطلب في الغالب جهدًا بدنيًا واحتكاكًا مباشرًا بالأدوات والمنتجات، الأقل تعقيدًا من الناحية الذهنية مقارنة بالوظائف المتعلقة بالإدارة والمهن المكتبية، هي وظائف لا تدخل ضمن حيّز رؤيتنا وانتباهنا اليومي بالرغم من ضرورتها المباشرة في استمرار حياتنا بنظامها المعتاد، بحيث إننا نكاد لا ننتبه لها إلا عندما تغيب فتعم الفوضى أو عندما تُقصر في جزء معين من مهامها فيرتبك الوضع.

إنك في الغالب لن تسمع أحدًا في الحي أو في بيئة العمل يمدح عُمال النظافة على تفانيهم كلما وجد المكان نظيفًا ومرتبًا كما يليق، ولن تجد وليَّ أمر يعلّق باستمرار على حرص سائق الحافلة المدرسية والتزامه أثناء القيادة. وإن راجعت عن قربٍ طريقة تعاطي الناس (أو المراجعين) مع سير هذه الأعمال الرتيبة من حولهم لوجدت أن نظرتهم لها تخلو في الأساس من أي معيارية في التقييم أو المراجعة. أما الرضا أو عدم الرضا فسيبقى محكومًا في نهاية المطاف بالنتيجة النهائية بعد إنجاز المهمة فقط، دون الاكتراث بطبيعة سير العمل وتفاصيله الأخرى التي لا تلقى اكتراثًا من أحد؛ كتحديات العمل ومستوى الأجور التي يتقاضاها الأشخاص العاملون في هذا النوع من الوظائف. وذلك، مجددًا، عائد لكون هذه «الوظائف الدنيا» ليست ضمن قائمة الأعمال التي تشغل تطلعاتنا المهنية، فهي بطبيعة الحال لا تنتمي لذلك النوع من الوظائف التي تثير إعجابنا وتحرّض غريزتنا التنافسية في سوق العمل لما تحظى به من قيمة مادية متمثلة في قيمة الأجر، أو لما يرتبط بها من سمعة تجعل منها ذات قيمة اجتماعية مرموقة، في حين أن حالة التشكي والاستياء سرعان ما تعلو بمجرد أن تمتلئ حاويات القمامة بالنفايات، أو لمجرد تعرض أحد التلاميذ للأذى نتيجة لإهمال سائق الحافلة لجانب متعلق بإجراءات الأمن والسلامة أو نتيجة لتهوره أثناء القيادة.

هناك خلل واضح وقديم في النظرة الاجتماعية والثقافية للكثير من الوظائف والمهن التي قضت النظرة النمطية السائدة عليها منذ وقت طويل بإدراجها في قائمة الوظائف الدنيا، وبالتالي سرعان ما ارتبطت هذه الوظائف بطبقية اجتماعية جاهزة ليترسب فيها هذا النوع من الأفكار التي تأخذ شرعيتها مع الوقت، بالرغم من عدم استنادها لمبررات منطقية أو حتى مادية صِرفة، فأصبحت أشبه بوظائف معزولة حتى في ظل التغيرات الاقتصادية التي تطال كافة مجالات العمل، الأمر الذي يشي بحالة غير صحية من التمييز داخل مجتمع العمال نفسه، مما يهيج حالة التوتر في بيئات العمل ويقلل من مساحات التشارك وتبادل المنافع ويبقي ثقة الفئات العاملة ببعضها البعض على المحك، والأهم من ذلك هو المساهمة في تدني كفاءة هذه الوظائف بسبب غياب التقييم والمراجعة المستمرة والضرورية لمؤشرات معايير الجودة.

سالم الرحبي شاعر وكاتب