مِن واقعٍ نفسي واجتماعي متأزّم تلتقط هدى حمد قصصها، لها عينٌ رامقة لحوادث المجتمع ولمشاغل المرأة ومختلف تقلّباتها، وما يُمكن أن يعتريها من مشاعرَ قد تبدو في بسيط الأفعال والأحوال، كانت هدى حمد وما زالت تُعبّر عن إدراكٍ ووعي بواقع المرأة بأسلوبٍ في القصص لافت، ظَهَر ذلك جليّا في مجموعاتها القصصية السابقة: نميمة مالحة (2006)، «ليس بالضبط كما أريد» (2009)، «الإشارة البرتقالية» (2013)، «أنا الوحيد الذي أكل التفاحة» (2018)، وتواصل شكلا ودلالةً في لاحق قصصها التي اخترتُ منها للدراسة ثلاثا نُشرت في مظانّ مختلفة، هي: «فستان الشيفون»، «الغبطة»، و«روح متعجلة»، وهي قصص شافّة عن قدرةٍ وتَمكّن في مسألتين، الأولى، التقاط الحكاية وحياكتها، والثانية، تعمّق أبعاد الإنسان في حالات من الوجود اليومي، في دقائق من الأحوال والأفعال والأقوال تمرّ على فاقدِ متعة القصّ مرور اليوميّ العابر، امرأة تفقد جنينيها بعد عنتِ حمْلٍ، امرأة تدخل في البحث عن قصّة طلاق، امرأة فنّانة مأزومة يُسْعى إلى محاورتها، هذه العناوين الظاهريّة الكبرى في القصص الثلاث، أمّا الباطن فحمّال أوجه، قُلَّبٌ، لا يقف عند حدّ من المعنى، هو المعنى المحمول على القراءة، القراءة التي تُشكّل الأبعاد الدلالية وفق حال القارئ، فتتحوّل القراءة في معنى أوّل إلى ظاهرٍ ثانٍ، امرأتان تتنازعان الوجود، في مكتوم من الفعال ومُعلَن، امرأتان تتحاوران حول ظاهر العلاقة الزوجية وباطنها، امرأتان تتكشّفان في البحث عن الحقيقة، عن حكاية لوحةٍ لها أثرٌ في وجودين، هذا ظاهرٌ ثان يُمكن أن نُعنون به القصص الثلاث، لكنّ المعنى أبعد وأنفذ. لا يُمكن أن تقرأ لهدى حمد دون أن تُثَار في مغروس معانيك الباطنة جُملة من المعاني التي لا تتناولها بشكل سطحي ولا سافرٍ ولا جليّ، وهي: الزواج وما يُمكن أن يؤسّسه من نفاق اجتماعيّ، العلاقة بين المرأة والرجل، الظاهر والباطن، صوت المجتمع وصوت الفرد، صوتُ المرأة المعقَّد في علاقته بذاته وبالمرأة وبالآخرين من حولها، جُملة من القضايا ارتبطت بها الكاتبة في واقع قصصها. لم تتحوّل هدى حمد في كتابتها القصصيّة عن أصلِ أصواتٍ لها الوقْع الحياتي والأثر النفسي، مظاهر من الوجود المحلي أو الإنساني تعمل على نقلها بخيالِ المبدع الحكّاء من فضاء الحُدوث الفعلي، ونطاق الإحساس، إلى عالمٍ من اللّغة وباللّغة يُقَامُ، ومن مقوّمات الحكاية يستقيم ويتحقّق. الجامعُ بين القصص الثلاث عددٌ، صيغيّا وقصديا ومعنويا، أهمّ ما يُمكن أن يكون خيطا واصلا وثيمة مُكوّنة لمجموعة لها ما يُوائم متفرّقَها، أنّ القصص الثلاث تتكوّن من شخصيّتين رئيستين، أنثويتين، متحاورتين، تتّصلان بعلاقة قائمة على ظاهرٍ وباطنٍ، إحداهما هي المتعهّدة بالحكاية وبالرؤية والتبئير، لا أسماءُ ولا توغُّل في الصفات، شخصيّات تكتسب وُجودها من أقوالها، وكامن أحاسيسها، لا من صفاتها ومنزلتها الاجتماعيّة، تُبئِّرُ الكاتبة المشاعر والأحاسيس، أكثر من الأفعال، شخصيّاتٌ معقّدة سرديّا، تحمل عبئا بشريّا. لا تحتوي هذه القصص أطروحات سياسيّة ولا فكريّة عامّة، الأطروحة الأساس هي تعقُّد الذات البشريّة في ما تُعلنُه وما تُبطنه، الشخصيّتان في قصّة «فستان الشيفون» متعارضتان تكوينا وبناء ومسارا، شخصيّة خاضعةٌ ساكنةٌ، ساكتة، وشخصية حييّة، ناطقةٌ، مريدةٌ، هي صاحبة الرؤية والصوت، تنتهي من إرادتها إلى السكون، إلى الرتابة، وتنبعث منها غيرة مبَطّنة تجاه الصديقة المستكينة بسبب وهج صلتها بزوجها، وهي المتزوّجة زواجا تقليديّا، «ثار الغضبُ بداخلي، فجلستُ على الصوفا وبدأتُ تقليب محطات التلفاز وجسدي ينتفض دون أن أدرك سبب ما أنا فيه من غيظ. جلستْ جارتي جواري مُترددة، تقبضُ الكلام خشية أن يهرب منها: «سيأتي هذا المساء» قالت بصوتٍ هامس.
«بدتْ آنذاك كامرأة مُشتاقة ومُتلهفة، وبدا أنّ افتراقها عن زوجها ليس بالأمر الهين عليها»، شخصيّة المرأة الراوية في القصّة، تُبْدي بشكل لافت ما يُمكن أن يعتري المرأة من شعور بالتأزّم والإحباط والثأر ساعة تُدرك أنّ رؤيتها للكون لم تكن صائبة، وأنّ خياراتها انتهت إلى الفشل، وأنّ ما كانت تعيبه على الآخر انتهى إلى النجاح «أنا وزوجي نتشاجر بصورة دائمة والأولاد يستمعون لصراخنا دوما، وأقول لنفسي بحسرة: «أنجبنا أولادا ليسمعوا صراخنا». حصل الأمر بالتدريج، أصبنا بالفتور ولم يعد شيءٌ قادرًا على إيقاظ الحرارة في حياتنا». نصّ يُمكن فيه أن نتتبّع معجم «الأهواء» على نهج جون فونتني وغريماس، أو كيف نُدرك حالات النفس من دراسة حالات الأشياء، ويُمكن فقط أن نستدلّ على ذلك ببعض العبارات من القصّة: «كنتُ أنوي رفع قبضة يدي- كنتُ ألوح بيديّ بكثيرٍ من الانفعال- وآنذاك وحسب أشعرُ أنّ سعادتي مُكتملة- فشعرتُ بدموع لا نهائية تغزو عينيّ، وصوتي شابه تغيرٌ حاد- كنتُ أتساءل بيني وبين نفسي بامتعاضٍ شديد- اختلط نشيجي المتقطع بصوت الخلاط المرتفع- كنتُ أرغب في كسر رأس والدها- على نحوٍ غامضٍ كنتُ أدنو من خفقانٍ مُفرحٍ بداخلي، وآمل في أعماقي أن تُصَدّر جارتي احتجاجا مُتلاحقا على حياتها المُفزعة- في سريري بكيتُ طويلا وتناولتُ بعض الأدوية»، شخصيّةٌ راويةٌ تبدو في ظاهر القصّة متأثّرة بفشل صديقتها وجارتها، وفي الباطن هي راثية لحالها، وهي التي اختارت حياتها، وتُبدي عبارات عديدة في القصّة هذا البُعد الأهوائي في تصويغ الخطاب، وفي مقابل ذلك تنعمُ الشخصيّة المرويّة المُبَأّرة، المأزومة في ظاهر الخطاب، المكلومة في جنينيها، بهدوء، واستسلام يقينيّ، ووهج عاطفي، وهو المحرّك الأساسيّ لانفعالات الشخصيّة الراوية (بينما بقيتْ جارتي مُحتفظة بحزنها في أبعد نقطة يمكن أن نتصورها- بينما تجلسُ جارتي بهدوءٍ ورقة مُصدرة ابتسامتها الهادئة)، غلبة الأهواء باديةٌ أيضا في قصّة «الغبطة»، إلاّ أنّ الحوار يأخذ منحى آخر بين الابنة الراغبة في الطلاق والأمّ الرافضة للطلاق، الأمُّ التي تُمثّل شقّا من المجتمع المخفي لمشاعره، الكابح لمآسيه، المُعلن سعادةً ظاهرةً فحسب، الأمّ التي صنعت مع زوجها قصّة غبطة ليستهلكها المجتمع وآثرت كبح حقيقتها، الأمّ التي يُطلَقُ صوتها للتعبير عن قصّة السعادة، وتكتم آلامها عندما تشير إليها ابنتها، «أنا وولدك كنّا نثير الغبطة في نفوس الناس، هل تعرفين شيئا عن الغبطة؟»، غبطةٌ وهميّة، كانت الابنة عالمة بأعماقها. تتلاقى الأهواء وتتشابك، وتتماثل الصلات والمشاعر وتختلف المصائر، الأمّ التي أسّست قصّة لبقاء زواجها والابنة التي تبحث عن قصّة لكسر زواجها، مع كلّ ما تحتمله القصّة من أبعاد نفسيّة اجتماعيّة تُتقن الراوية الإيحاء بها. وكذا كان الأمر في القصّة الثالثة «روح متعجّلة» التي يكون فيها الحوار بين متقصيّة صحفيّة طالبة لحوار، ومُتقصّاة، فنّانة، يُسعى وراءها لإنجاز الحوار، وتتبدل طبيعة العلاقة بنماء القصّة، لتتحوّل الطالبة الراغبة إلى مطلوبة مرغوبة وهي المتمنّعة.
قصّةٌ عميقةٌ لا تُفارق ما سلف أن ذكرناه من ارتباطٍ بظاهرٍ وباطنٍ ومن قيامٍ على حوارٍ ثنائيّ بين صوتين مؤنّثين، ومِن تعرُّض لما يُمكن أن يمسّ المرأة من تقلّبات مشاعرها التي تُوجّه أحكامها وخصالها. الفنّانةُ المنكفئة على آلامها يُؤتى إليها بغاية الوقوف على عُزلتها وصمتها، تبدأ القصّة برغبة صحفيّة جامحة لحوار مع الفنّانة، الرسّامة، لتتحوّل الرغبة، وتتمنّع الصحفيّة عن مواصلة الحوار الذي تتشبّث بإجرائه الفنّانة، لكنّ الحوار يتحوّل إلى تفريغٍ وبوح ورغبة في التواصل، رغبة في الحكاية، وهي قصّة تستحقّ نظرا ودراسة معمّقة في الصلة بين الشخصيتين المتحاورتين، في التحوّل الانفعالي في مسار القصّة، في المُعلن والمضمَر من «أهواء» الشخصيتين. الأصواتُ المكتومة في القصص أبعد غورا وتفكُّرا من الأصوات الصادحة، الجارة في قصّة «فستان الشيفون»، الأم في قصّة «الغبطة»، الصحفيّة في قصّة «روح متعجّلة»، أصواتٌ مكلومة مكتومة، لا تُبْدي منها الراوية إلاّ ما يوحي بعميق ألمها. جوامعُ مهمة تأتلف عندها هذه القصص، تُظهر وعيا، وإدراكا وقدرةً على الحكاية، قدرةٌ على التعبير عن أهواء المرأة، من خلال أرضيّة قائمة على الحوار الأنثويّ، وعلى ظاهرٍ يشفّ عن باطن عميق ومعقّد في بنية الوعي الإنسانيّ، هذا السطح العميق المخفيّ الذي لا يُدرك أبعاده إلاّ الفنّان. نُصوص هُدى حمد مظهرٌ ثالثٌ متحقّق من تطوّر القصّة القصيرة في عُمان، ومن ثراء التجريب فيها.
«بدتْ آنذاك كامرأة مُشتاقة ومُتلهفة، وبدا أنّ افتراقها عن زوجها ليس بالأمر الهين عليها»، شخصيّة المرأة الراوية في القصّة، تُبْدي بشكل لافت ما يُمكن أن يعتري المرأة من شعور بالتأزّم والإحباط والثأر ساعة تُدرك أنّ رؤيتها للكون لم تكن صائبة، وأنّ خياراتها انتهت إلى الفشل، وأنّ ما كانت تعيبه على الآخر انتهى إلى النجاح «أنا وزوجي نتشاجر بصورة دائمة والأولاد يستمعون لصراخنا دوما، وأقول لنفسي بحسرة: «أنجبنا أولادا ليسمعوا صراخنا». حصل الأمر بالتدريج، أصبنا بالفتور ولم يعد شيءٌ قادرًا على إيقاظ الحرارة في حياتنا». نصّ يُمكن فيه أن نتتبّع معجم «الأهواء» على نهج جون فونتني وغريماس، أو كيف نُدرك حالات النفس من دراسة حالات الأشياء، ويُمكن فقط أن نستدلّ على ذلك ببعض العبارات من القصّة: «كنتُ أنوي رفع قبضة يدي- كنتُ ألوح بيديّ بكثيرٍ من الانفعال- وآنذاك وحسب أشعرُ أنّ سعادتي مُكتملة- فشعرتُ بدموع لا نهائية تغزو عينيّ، وصوتي شابه تغيرٌ حاد- كنتُ أتساءل بيني وبين نفسي بامتعاضٍ شديد- اختلط نشيجي المتقطع بصوت الخلاط المرتفع- كنتُ أرغب في كسر رأس والدها- على نحوٍ غامضٍ كنتُ أدنو من خفقانٍ مُفرحٍ بداخلي، وآمل في أعماقي أن تُصَدّر جارتي احتجاجا مُتلاحقا على حياتها المُفزعة- في سريري بكيتُ طويلا وتناولتُ بعض الأدوية»، شخصيّةٌ راويةٌ تبدو في ظاهر القصّة متأثّرة بفشل صديقتها وجارتها، وفي الباطن هي راثية لحالها، وهي التي اختارت حياتها، وتُبدي عبارات عديدة في القصّة هذا البُعد الأهوائي في تصويغ الخطاب، وفي مقابل ذلك تنعمُ الشخصيّة المرويّة المُبَأّرة، المأزومة في ظاهر الخطاب، المكلومة في جنينيها، بهدوء، واستسلام يقينيّ، ووهج عاطفي، وهو المحرّك الأساسيّ لانفعالات الشخصيّة الراوية (بينما بقيتْ جارتي مُحتفظة بحزنها في أبعد نقطة يمكن أن نتصورها- بينما تجلسُ جارتي بهدوءٍ ورقة مُصدرة ابتسامتها الهادئة)، غلبة الأهواء باديةٌ أيضا في قصّة «الغبطة»، إلاّ أنّ الحوار يأخذ منحى آخر بين الابنة الراغبة في الطلاق والأمّ الرافضة للطلاق، الأمُّ التي تُمثّل شقّا من المجتمع المخفي لمشاعره، الكابح لمآسيه، المُعلن سعادةً ظاهرةً فحسب، الأمّ التي صنعت مع زوجها قصّة غبطة ليستهلكها المجتمع وآثرت كبح حقيقتها، الأمّ التي يُطلَقُ صوتها للتعبير عن قصّة السعادة، وتكتم آلامها عندما تشير إليها ابنتها، «أنا وولدك كنّا نثير الغبطة في نفوس الناس، هل تعرفين شيئا عن الغبطة؟»، غبطةٌ وهميّة، كانت الابنة عالمة بأعماقها. تتلاقى الأهواء وتتشابك، وتتماثل الصلات والمشاعر وتختلف المصائر، الأمّ التي أسّست قصّة لبقاء زواجها والابنة التي تبحث عن قصّة لكسر زواجها، مع كلّ ما تحتمله القصّة من أبعاد نفسيّة اجتماعيّة تُتقن الراوية الإيحاء بها. وكذا كان الأمر في القصّة الثالثة «روح متعجّلة» التي يكون فيها الحوار بين متقصيّة صحفيّة طالبة لحوار، ومُتقصّاة، فنّانة، يُسعى وراءها لإنجاز الحوار، وتتبدل طبيعة العلاقة بنماء القصّة، لتتحوّل الطالبة الراغبة إلى مطلوبة مرغوبة وهي المتمنّعة.
قصّةٌ عميقةٌ لا تُفارق ما سلف أن ذكرناه من ارتباطٍ بظاهرٍ وباطنٍ ومن قيامٍ على حوارٍ ثنائيّ بين صوتين مؤنّثين، ومِن تعرُّض لما يُمكن أن يمسّ المرأة من تقلّبات مشاعرها التي تُوجّه أحكامها وخصالها. الفنّانةُ المنكفئة على آلامها يُؤتى إليها بغاية الوقوف على عُزلتها وصمتها، تبدأ القصّة برغبة صحفيّة جامحة لحوار مع الفنّانة، الرسّامة، لتتحوّل الرغبة، وتتمنّع الصحفيّة عن مواصلة الحوار الذي تتشبّث بإجرائه الفنّانة، لكنّ الحوار يتحوّل إلى تفريغٍ وبوح ورغبة في التواصل، رغبة في الحكاية، وهي قصّة تستحقّ نظرا ودراسة معمّقة في الصلة بين الشخصيتين المتحاورتين، في التحوّل الانفعالي في مسار القصّة، في المُعلن والمضمَر من «أهواء» الشخصيتين. الأصواتُ المكتومة في القصص أبعد غورا وتفكُّرا من الأصوات الصادحة، الجارة في قصّة «فستان الشيفون»، الأم في قصّة «الغبطة»، الصحفيّة في قصّة «روح متعجّلة»، أصواتٌ مكلومة مكتومة، لا تُبْدي منها الراوية إلاّ ما يوحي بعميق ألمها. جوامعُ مهمة تأتلف عندها هذه القصص، تُظهر وعيا، وإدراكا وقدرةً على الحكاية، قدرةٌ على التعبير عن أهواء المرأة، من خلال أرضيّة قائمة على الحوار الأنثويّ، وعلى ظاهرٍ يشفّ عن باطن عميق ومعقّد في بنية الوعي الإنسانيّ، هذا السطح العميق المخفيّ الذي لا يُدرك أبعاده إلاّ الفنّان. نُصوص هُدى حمد مظهرٌ ثالثٌ متحقّق من تطوّر القصّة القصيرة في عُمان، ومن ثراء التجريب فيها.