قبل نحو عامين كنتُ أذرع شارع استقلال في تقسيم، عندما لفتت انتباهي مكتبة كبيرة، واجهتها زجاجية، ومن الخارج يمكن للسائر أن يلحظ كتبا مشنوقة في الهواء، بعضها تتجه صفحاته للأعلى وأخرى للأسفل. لم يكن قرارا صعبا أن أقطع كل مواعيدي وأدلف إليها، لكنني وحالما فعلت اكتشفت أن كل الكتب بالتركية. ومع ذلك أخذتُ أتمشى وأنا أحاول تهجئة العناوين، لأشعر بانتصار داخلي لذيذ، لأنني قطعت كل تلك المسافة في تاريخ اللغة التركية وتغيير أتاتورك للحرف العربي واستبدل به اللاتيني، ورغما عن ذلك ودون صورة على الغلاف أعرف أن هذا العمل هو «صورة دوريان جراي» لأوسكار وايلد. لم أتوقف إلا عند فروغ فرخزاد، كتبها الموضوعة باهتمام في مركز المكتبة على غير عادة كتب الشعر. تصفحتها وأنا لا أفهم شيئا من اللغة ومع ذلك أستطيع أن أحس بكل شيء. بعدها كلما كنت أمر في الطرق على الشقق السفلية التي توازي شوارع إسطنبول الملتوية، والتي تفاجئك بارتفاعاتها وانخفاضاتها وكنتُ أميز مكتبة في الداخل، تكاد كتبها تفيضُ على الطرق المقابلة من نافذة يبقيها سكان إسطنبول مفتوحة دوما، تماما مثل إذاعة الموسيقى الكلاسيكية تخيلتُ فروغ هناك.

«لا أحد يصدق أن الحديقة تحتضر..

وقلبها -تحت أشعة الشمس- متورم..

وذهنها - بهدوء بدأ يفرغ من الذكريات الخضراء»

كنتُ أفكر بهذا كثيرا هذه الأيام وأنا أسأل نفسي عن جدوى كل شيء أقوم به، عن استعانتي المستمرة -كالمستجير من الرمضاء بالماء- بالشعر. ولمَّا تطلُ فروغ من هذا الضعف دوما؟ ربما لأنها كانت كلَ قصيدتها، فروغ، وكما أتذكر عن الشاعرة منى كريم وصفها لها بأنها جعلت من قصائدها مشروعها الشخصي لتحقق أنوثتها وإنسانيتها وعلاقتها مع الوجود. تمردت فروغ على تقاليد الشعر الفارسي، لكنها في الوقت نفسه ورثت انحيازه لروح التصوف الذي لطالما عُرف به. لكن هل جعل هذا بالذات فروغا تنسى اللحم والدم والعظام؟ لا وعلى الإطلاق، فها هي ذي تمزج الجسد في تقلباته ورغباته بذلك العالم المطلق الروحاني، لا على طريقة أحد عداها.

‏«اصفحوا عنها

‏تلك التي تنسى بين الحين والآخر

‏الصلة المؤلمة لوجودها

‏بالمياه الراكدة والحفر الفارغة

‏وتظن ببلاهة

‏أن لها الحق في الحياة

‏اصفحوا عنها»

على مدار ثلاثة عشر عاما مضت، قرأتُ كل ما صدر لفروغ بالعربية عشرات المرات، ليس شعرها فحسب، بل رسائلها ومذكراتها ويومياتها، قرأت سيرتها الأثيرة التي كتبتها فرزانة ميلاني (فروغ فرخزاد الرسائل السرية والسيرة الأدبية) وكتبت عنها «فروغ فرخزاد» أدخلت الحبيب الرجل للأدب الفارسي. لم تتكتم أدبيا، لم تتكلم بخفاء. هذا الستار كشف في النهاية عن الرجل الحبيب، وجد أبعادا إنسانية، لم يعد الرجل الحبيب خياليا وتجريديا، بل له ملامح شخص تم اختياره وهو يلمس شوق المرأة وطلبها»، وكتبت أيضا: «كل التزام سوى الشعر والشاعرية. يوما بعد يوم يبات كحجر الرحى في رقبتها»، وعندما سألوا فروغ عن قتامة شعرها قالت من بين أشياء كثيرة: «الوقوف على الظلمة -مثل الوقوف على أسرار البلوغ- ليس بلقاء قبيح بل طبيعي».

وفي عمل غير منجز قارنتُ بينها وسيلفيا بلاث، مواطن التلاقي والتنافر، امرأتان ربما لم تعرف إحداهما الأخرى، إلا أن هستيريا مواجهة الواقع بقسوته ورعونته جمعتهما عبر الكتابة والموت في عمر مبكر. وبهذا أستدعي ما يسميه غاستون باشلار الرغبة في إعادة ترتيب الغرفة، من أجل بداية جديدة، أو هذا على الأقل الشعور الذي نبحث عنه في نهاية الأمر. وهو تماما ما كتبت عنه سيلفيا بلاث، الاضطرار لخلق نظام، ببطء، بشكل منهجي. ترتيب الغرفة، يعادل في حياة سيلفيا تحضير الكعك. إن ترتيب الغرفة الخاص بي يعني العودة للشعر والأدب، ولكل أحلام اليقظة التي جعلتني أتخيل شخصيات الشعر تلك تسكن بيوتا على الشوارع البعيدة.

عندما استيقظتُ صباح اليوم، بدا أنني مللتُ من الكلام، ما عساني أكتب لمقالي الأسبوعي، ألم أكتب عن بلاغة الصمت، وعن فتنة التردد كثيرا لم لا تترددين يا أمل إذن؟ إنه نوع من إشاعة زعزعة عالم وثوقي، مندفع، يؤمن بالسلاح وبالخطب العصماء، لم لا تبكين؟

وجدت بأن القهوة نفدت دون أن ألاحظ ذلك، وقررتُ ترك نفسي للشعر مرة أخرى. فتحت كتابا لليافعين عنوانه «الطائر في داخلي يطير حيثما شاء» للسويدية سارة لوندبيرج، قدم الكتاب في طبعة أنيقة جدا عن دار المنى. تستلهم قصة الكتاب أحداثها من يوميات الفنانة السويدية بيرتا هانسون التي عاشت طفولتها في بداية القرن العشرين في المزرعة، إذ كان أبوها فلاحا وكان يتوقع من النساء أن يعملن كمربيات في المنزل فقط. كانت بيرتا مختلفة جدا، تحب الرسم بالفحم، وتشكيل الطيور بالصلصال، سخر منها الجميع لكنها وبطريقة ما، آمنت بأن رسوماتها ستنقذ أمها المصابة بالسل من الموت. تكمن حلاوة كتاب لوندبيرغ لا في المقاطع الشعرية الأخاذة التي تصف بها حياة بيرتا، بل في أنها اعتمدت على رسومات بيرتا نفسها، خطوطها، وجموحها وانطفاء الحضور في كثير منها في رسم عمل جديد قادم من وحي بيرتا وتطلعاتها. أحسستُ كما لو أن اختياري لهذا الكتاب هو ضرب من تلك الصدف، التي تُشعرنا بأن وراء كل ما نعيش فيه عالم منظم، ومترابط وليس عبثيا كما نعتقد. تمنيتُ لو أنني أمسكُ بمعجم فروغ وأدوره في نصوص جديدة بدوري، أن أتمتع بالخطوط الرفيعة لتصويرها واستعاراتها، وأن أكتب كما قال شاعر لا أتذكره الآن بالغياب الذي هو خيط داخل خرم إبرة، يلون كل شيء من بعد ذلك بلونه.

‏«أنا امرأة صغيرة وحيدة، عيناي كأعشاش عنقاوات مهجورة.

‏هذا ما يحدث.

‏هذا ما يحدث لفتاة ساذجة مترعة بالثقة.

‏رائحتي كلها ليل.

‏كم كنت عطوفا يا حبيبي،

‏كم كنت حنونا وأنت تكذب»