طالما آمنت بالصلة العميقة بين الفن والفلسفة، وتحديدا بين الفن والميتافيزيقا. ولقد ترسخ إيماني هذا حينما شرعت في إعداد رسالتي للماجستير منذ خمس وأربعين سنة بعنوان «ميتافيزيقا الفن عند شوبنهاور»، فقد أتاح لي البحث في هذا الموضوع عبر سنوات عديدة أن أخوض في المذاهب الفلسفية التي تؤكد على هذه الصلة الوثيقة بين الفن والميتافيزيقا، بدءًا من أفلاطون ومن أتوا بعده من فلاسفة العصر الوسيط، ومرورا بفلسفات المحدثين لدى هيجل وشوبنهاور ونيتشه، ومن بعدهم برجسون ورافيسون، وصولا إلى الفكر المعاصر حتى عصرنا الراهن. ولقد ازدادت قناعتي بهذه المسألة حينما تجاوزت حدود البحث الجمالي الفلسفي إلى مجال النقد التطبيقي الذي يُعنى بجماليات الفنون في إبداعات الفنانين والأدباء بوجه خاص. ولقد بت أومن إيمانا راسخا بأن كل الفنانين والأدباء المبدعين هم أولئك الذين يكمن وراء إبداعهم رؤية فلسفية للعالم والحياة والوجود المعيش. من هذا المنطلق تناولت أعمال كثير من الأدباء الكبار، ومنهم جمال الغيطاني في كتابي بعنوان: «عالم الغيطاني»، والشاعران الكبيران أحمد عبدالمعطي حجازي وحسن طِلِب، وغيرهم. كما ازدادت قناعتي حينما وجدت فلاسفة معاصرين كبارا يؤكدون صراحة على هذه الرؤية، ويكفي أن نتأمل في هذا الصدد المقال الشهير الذي كتبه الفيلسوف الكبير ميرلوبونتي بعنوان «الرواية والميتافيزيقا». ومن السهل أن نتعرف على الميتافيزيقا في فن الأدب عموما، لأن فن الأدب -بما في ذلك فن الشعر- ينطوي بالضرورة على أفكار؛ إذ إنه يتعامل مع الكلمات التي تترابط معا في سياق ما لتعبر عن فكرة أو عن معنى يمكن تعقله، ولهذا فإن الموسيقى تنطوي أيضًا على أفكار أو معان متعقلة حينما تصحبها كلمات أو نص (كما في الأغنية والأوبرا). ولكن كيف نطبق ذلك على الموسيقى الخالصة، أعني على الموسيقى التي لا تصاحبها أية كلمات أو أحداث أو نص أوبرالي؟! كيف يمكننا القول بأن الموسيقى الخالصة يمكن أن تنطوي على معان وأفكار ميتافيزيقية؟! من ذا الذي يستطيع أن يقول ذلك؟

أقول مباشرة: إن شوبنهاور هو الفيلسوف الوحيد الذي استطاع أن يقول ذلك بكل وضوح وعمق في الوقت ذاته، بل إنه في المجلد الثاني من عمله الرئيس الخالد «العالم إرادة وتمثلا» قد خصص فصلا طويلا بعنوان «ميتافيزيقا الموسيقى»، وهذا الفصل هو تفصيل مسهب وشروح على ما أجمله عن الموسيقى في متن عمله، أعني في المجلد الأول منه. وأنا لا أهدف في هذه العجالة إلى استعراض مذهب شوبنهاور في هذا الصدد، وإنما يكفي إجمال رؤيته هنا باعتبارها رؤية لا تزال صامدة في مواجهة الرؤية المضادة لها والتي يمثلها الناقد الموسيقي الشهير إدوارد فون هانسليك.

يرى شوبنهاور أن جوهر العالم والوجود يتمثل في إرادة الحياة التي تعبر عن نفسها في شكل صراع واندفاع نحو تأكيد الحياة. وكل فن من الفنون يعبر عن هذه الحياة كما تتجلى في الأشياء والنبات والحيوان والإنسان، أما الموسيقى فإنها لا تعبر عن جانب من الحياة كما تتجلى في شيء أو موجود ما، بل تعبر عن إرادة الحياة نفسها التي تتجلى في سائر الوجود: فكل صور الصراع والتدافع والرغبة والشقاء والارتياح والسعادة.. كل ذلك تعبر عنه الموسيقى بوضوح وعمق لا نظير لهما في أي من الفنون: فالموسيقى -على سبيل المثال- تعبر عن المشاعر الإنسانية من كل نوع، ولكنها -بخلاف الفنون الأخرى- تعبر عن الشعور بلغة الموسيقى الخالصة، أي تعبر عنه بلغة مجردة، وهذا يعني أنها تعبر عن الشعور من دون تحديد لموضوعه. ويمكن أن نضرب مثالا على ذلك لإيضاح ما يود شوبنهاور قوله: إن السيمفونية الخامسة لبيتهوفن التي سماها النقاد سيمفونية «القدر»، ربما توحي افتتاحيتها الفجائية العنيفة بضربات القدر التي تأتي على حين غرة من دون مقدمات. ولا شك في أن هذه الضربات أو التوقيعات الموسيقية العنيفة الفجائية تولد في أنفسنا الشعور العميق بالخوف الممزوج بالرهبة، ولكننا في الحقيقة لا نكون خائفين من شيء ما محدد مما يمكن أن نخاف منه أو نرهبه في الواقع: فالموسيقى هنا تعبر عن جوهر الشعور المجرد. ومثل هذا يمكن أن يُقال بالنسبة لكل شعور آخر: فالموسيقى تعبر عن الشعور بالخوف أو الرهبة أو الحزن والأسى أو السعادة والفرح والبهجة، ولكنها في كل هذا تعبر عن الشعور من دون موضوعه، أي تعبر عن إرادة الحياة نفسها في كل سكناتها وحركاتها. والموسيقى تعبر عن الإشباعات المؤجلة للإرادة من خلال التحولات الطويلة التي يبتعد فيها اللحن عن القرار، ليعود بعد ذلك إلى القرار في النهاية، وهو ما يؤدي إلى الشعور بالارتياح.

في مقابل رؤية شوبنهاور شاعت رؤية هانسليك الذي يُعد واحدًا من كبار الشكلانيين في مجال الجماليات، وتحديدا في مجال الموسيقى. وفحوى نظريته أن الموسيقى هي تشكيل جمالي لأصوات موسيقية في حالة حركة. وربما يبدو عمق هانسليك في أنه لا ينكر أن الموسيقى تعبر عن مشاعر، ولكنها تظل مشاعر موسيقية: فالموسيقى أشبه بتكوينات أو أشكال من فن الأرابيسك، ولكنها أشكال تبدو وكأنها قد دبت فيها الحركة. والموسيقى لا تمثل شيئا خارجها: فالهمس الذي تعبر عنه الموسيقى ليس همس الطبيعة أو حفيف الأشجار، ولكنه همس موسيقي خالص. ولكن هذه الرؤية تجافي الواقع، لأن الموسيقى منذ عصر بيتهوفن بوجه خاص قد أصبحت تعبر عن مهمة «فوق موسيقية» تسمى آباسيوناتو (التعبير عن العاطفة) أو آجيتاتو (التعبير عن الثورة) أو فوريوزو (التعبير عن الغضب)، وما شابه ذلك. وربما يجد بعض الموسيقيين في رؤية هانسليك وجاهة ما، ولكننا نجد أنفسنا ميّالين لرؤية شوبنهاور حينما نجد أن بعض عباقرة الموسيقى مثل بيتهوفن قد رأوا في الموسيقا قدرة على التعبير عن المطلق، أي عن تجليات حقيقة الوجود، وحينما نجد أن تأثير شوبنهاور كان هو التأثير الأعظم على المؤلفين الموسيقيين العظام بدءًا من فاجنر وحتى شونبرج.