قبل عشر سنوات.. لمّا كنتُ مستشارا في وزارة العدل العمانية، اهتممت بدراسة أصول القانون، ومما أوليته العناية المدرسة القانونية الأنجلوسكسونية، بوصفها من أهم المدارس التي طوّرت القانون عالميا. ومما وجدته أن جذور الاجتماع الإنجليزي داخل في تكوين القانون الأنجلوسكسوني، ومن هذا المجتمع انطلقت البوادر الأولى للديمقراطية، من خلال المجناكارتا «الميثاق الأعظم» المبرم عام 1215م، والديمقراطية.. هي مهاد الليبرالية. وقد تكوّنت لدي فكرة حول التحولات التي حصلت في المجتمع البريطاني، وكنت أمنّي النفس بأن أزور بريطانيا؛ تلك الإمبراطورية الآفلة ذات النفوذ الاستعماري الذي لا تغرب عنه الشمس، بقصد فحص رؤيتي عن التحولات الكبرى التي حصلت فيها.

جاءت الفرصة خلال المدة 14-17/ 10/ 2019م، ضمن ملتقى نظمته جمعية الصحفيين العمانية بعنوان «حوار الحضارات.. رؤية متوازنة للتعايش» في جامعة أكسفورد، والذي شاركتُ فيه بورقة «خطاب الكراهية والمعالجة العمانية»، ورغم أهمية الملتقى، إلا أنني لم أتمكن من رؤية الجانب الاجتماعي، بسبب طبيعة الزيارة وقصرها. ثم زرتها ما بين 14-25/ 6/ 2023م، فتجولت في العديد من مناطق إنجلترا، وقد أكدت الزيارة على جوانب من رؤيتي عن التطور الاجتماعي ببريطانيا، وأعادت بناء جوانب أخرى، ونظّمت عموم أفكاري عنه.

لا أزعم أن بهاتين الزيارتين أكملت مبتغاي حول الاجتماع البريطاني؛ بيد أنه من المناسب أن أكتب حوله، لأن الكتابة سبيل ترقية الأفكار، ومحطة يمكن الرجوع إليها والبناء على معطياتها. المقال.. يقرأ المجتمع البريطاني على مسارين: الهُوية والقانون. يحدد كلا من المسارين الليبراليةُ، ومن المفارقة أنها بدلا من أن توحدهما سلكت بهما مسلكين يكادان ينفصلان، وهذا ما يُوجِد الإشكالات في الاجتماع البريطاني؛ بمختلف أبعاده، وفي مقدمتها السياسية. هذه المشكلة ليست حصرا على بريطانيا، بل تعم أوروبا، وإن بدرجات متفاوتة ومعالجات مختلفة. وأخطر ظهور لها ما حدث بالأمس في فرنسا، بسبب الخلل في بُنيتها العلمانية، وقد طرقت جانبا منها في مقالي «العلمانية والأديان.. طريق واحد»، المنشور بجريدة «عمان»، بتاريخ: 2/ 11/ 2020م، ولعلي أخصص مقالا للاجتماع الفرنسي، فيما يتعلق بالمفارقة بين الهُوية والعلمانية.

بريطانيا.. تبدو للناظر أكثر تماسكا من تأثير الخلل الذي تحدثه الليبرالية، وذلك راجع إلى المعالجة القانونية المستمرة، والتي توازن بين مكونات التنوع الثقافي للمجتمع البريطاني، ولكن أظن أن الخرق سيتسع على الراقع، لتزايد التباين في هذا التنوع بمرور الأيام.

لا تنبت الأفكار فجأة من العدم، وإنما تتطور عبر السنين، والليبرالية.. من الممارسات التي حبل بها الاجتماع البشري منذ العصور القديمة، حتى وضعت الثورة الإنجليزية (1688م) الأسس الأولى للنظرية الليبرالية، ثم جاء «أبو الليبرالية» الإنجليزي جون لوك (ت:1704م) فوضع أهم مرتكزاتها: الحق في الحياة، والحرية الفردية، والملكية الخاصة، وعدّها حقوقا طبيعية للإنسان، لا يجوز مساومته عليها. ثم انتقلت الرؤية الليبرالية إلى مجتمعات أخرى؛ وعليها قامت الثورة الأمريكية (1765م)، ثم الثورة الفرنسية (1789م). لتترسخ بعد ذلك نظاما اجتماعيا لا يجوز المساس به.

إذًا؛ الليبرالية.. التي تأسست في بريطانيا؛ أصبحت جزءا من هُويتها، وهذا مكسب مهم لها، ومن المفارقات العميقة.. أنها أحدثت فجوة بين «الهُوية الأصلية» المكوِّن الأساس للمجتمع البريطاني وبين الهُويات المهاجرة إليه، بالإضافة إلى ما تنتجه موجات النزعة الفردانية. بريطانيا.. تعتبر مجتمعا محافظا في أوروبا، وترى بأن لها خصوصيتها، وآخر تجليات ذلك خروجها من الاتحاد الأوروبي. وهي ليست خصوصية سياسية فحسب وإنما اجتماعية بالأساس، ويكفي أن أستحضر نظام السير لديهم، فعندما تحل بريطانيا؛ عليك أن تنسى نظام السير العالمي، فهو يختلف عنه تماما، فمقود السيارة ومتعلقاته يقع جهة اليمين، حتى يتفق مع خط السير على جهة اليسار من الطريق، وعلامات المرور؛ سواءً على الشواخص المنصوبة على جانبي الطريق، أو المرسومة على أرضيته، عليك أن تتقنها قبل أن تسير فيه، فالعديد منها لا يشبه العلامات التي في طرقنا. صحيح أن هذا النظام يوجد في دول أخرى؛ لكن في غالبها كانت تحت الاحتلال البريطاني. هذا مثال للخصوصية المدنية.

وأما الخصوصية الحضارية فمثالها: الجنيه الإسترليني؛ فبريطانيا لم تتخل عنه في مقابل اليورو. وطراز البناء، والذي لا يزال يحافظ على نمطه القديم، فمعظم البيوت البريطانية غاب عنها التنوع، فهي تأخذ شكلا متقاربا، منسجما مع البيئة والطقس في بريطانيا، وهي بيوت صغيرة نسبيا، لأجل ألا تفقد الحرارة بسبب البرودة الشديدة، وتأخذ سقوفها شكل المثلث، وليست سطحا مستويا، حتى لا تحتفظ بمياه المطر، ولكي ينزلق منها الثلج. وتكون متراصة في حارات؛ لتحقق الأمن للسكان، والبُعد الاجتماعي بين قاطنيها، وهي تتكون من طابقين أو ثلاثة، يخصص الطابق الأرضي للمعيشة، والطابقان العلويان للسكنى، وتتميز هذه المباني بأن جدرها الخارجية غُلّفت بالقرميد الأحمر. ورغم المدنية الكاسحة إلا أن هذا التقليد في بريطانيا لا يزال سائدا، ويمثل رمزا معماريا لها. ومعظم إنجلترا ريف، والحداثة لم تنشر ثوبها البراق إلا على قلب لندن والمدن الرئيسية، ومع ذلك؛ فإن ضواحي هذه المدن يتمدد بها الريف ونمطه العمراني.

سكان بريطانيا.. بحسب التعداد الرسمي لعام 2021م حوالي 67 مليونا، و«العرق الأصلي» منهم 82%، وهي نسبة بالأساس لصالح هذا العرق، بيد أن بريطانيا تواجه تحولا ديموغرافيا على مستوى البُنية الدستورية؛ فالقانون القائم على الليبرالية يجعل جميع حاملي الجنسية البريطانية متساوين، وهذا مآله المساس بالهُوية البريطانية التقليدية. نعم؛ قد يرى المشرِّع البريطاني أن هُوية بريطانيا هي الليبرالية، وهي مكوّن حضاري بريطاني؛ نشأةً وتطورا، إلا أن هذا لا يلغي حقيقة أن المجتمع البريطاني آيل إلى التحول عن خصوصيته، رغم سيادة الريف على المدينة، و«العرق الأصلي» على الأعراق الأخرى، هذا التحول واضح في لندن، فمثلا؛ الشريحة السائدة فيها هي من غير «العرق الأصلي»؛ الذي أصبح يشكّل 45% فقط، بل أصبح رئيس الوزراء البريطاني غير إنجليزي، وكذلك عمدة بلدية ويستمنستر في لندن. هذا على مستوى التنوع الثقافي يعتبر وضعا صحيا؛ وهو إفراز طبيعي لليبرالية، لكنه على مستوى الهُوية الحضارية فإن بريطانيا مقبلة على تحول كبير. وليس القانون وحده من يسرّعه، وإنما الحداثة بكل تجلياتها القادمة عبر الفضاء الرقمي؛ تذكي هذا التحول، خصوصا أنها قائمة بصلابة على الفردانية التي تعتبر خصيصة ليبرالية.

حتى الآن؛ توفر بريطانيا قدرا وافيا من الانسجام بين الأعراق والثقافات التي تقطنها، من خلال القانون، الذي يحضر بقوة في عقل الفرد البريطاني؛ مدعوما بكل أدوات الرقابة عن التعدي عليه، لكن هذا القانون ذاته يتيح المجال للتنوع الثقافي؛ مما يعني أن هناك تصاعدا مستمرا في زيادته، وبمرور الوقت والرغبة العميقة لدى الشعوب في الحفاظ على هُويتها المتشكلة عبر آلاف السنين، فإن «العرق الأصلي» -والذي أصبح يشعر بالمنافسة على وطنه- كغيره من الأعراق مجبول على الحفاظ على نوعه، مما يعني أن بريطانيا أمام قنبلة اجتماعية موقوتة كسائر الدول الأوروبية.

والتنافس.. لن ينحصر بين «العرق الأصلي» والأعراق الأخرى، بل سيكون أيضا بين هذه الأعراق القادمة من ثقافات متباينة، ولعل هذا هو الأشد، الذي قد يفضي إلى العنف، فلكل عرق هُويته الثقافية التي يحافظ عليها أمام الثقافات الأخرى، والتي لا يزال القانون البريطاني قادرا على أن يضبط بوصلة الاحتكاك فيما بينها، وقد شاهدت هذا في بعض الأسواق التي تبيع الأطعمة والمنتجات التقليدية، حيث تجد محلات الإنجليزي والهندي والصومالي والبرازيلي وأضرابهم متجاورة بسلام، وليس ذلك إلا بفعل القانون.

ختاما.. هل تستطيع بريطانيا المحافظة على هُويتها بالقانون أمام التحولات الكبرى التي تحدثها الهجرات والحداثة والعالم الافتراضي.