لنفترض وجود عقل واحد للبشرية يعمل كعقل أي واحد منا، بذكرياته وتصوراته، يتتبع المعلومات التي تراكمت في ذاكرته، وتحمله أنساق تفكيره إلى اتخاذ قرارات يرى أنها تمكنه من تحقيق غاياته المستقبلية، سيكون عقلًا مهولا تتراكم فيه خبرات مليارات البشر عبر آلاف السنين، وسيكون ثريًا بتصورات جامحة عن الواقع كما سيحوي نقيض كل تصور منها، سنتساءل عن ماهية الواقع الذي سيخبره ويتصوره، هل سيكون مبنيًا على أقرب النماذج العلمية لفهم الواقع أم ستشوبه شوائب أدمغتنا البيولوجية؟.

باعتباره مفكرًا، وباعتبار التفكير تغيرا في التصورات العقلية للمعرفة لتوصيف حالات العالم الواقعية أو الممكنة للأجل تحقيق غاية، فما الذي ستكون عليه تصورات ذهن البشرية عن الواقع؟ والتصور هو أساس تنبني عليه العمليات المعقدة التي نسميها تفكيرا، فنحن ننتبه لما حولنا في لوبة مستمرة من إدراك البيئة المحيطة بنا ومن ثم التصرف حيال ما يحدث حولنا، وذلك يتم فيما نسميه الواقع، فما هو؟ وهل نحيط به أو نفهمه؟ سيحاول عقلنا الموحد، وباعتباره جبارًا من حيث التنوع والدقة والتكامل، إدراك الواقع وفهم ما الذي يمكن أن يكونه وما الذي يستبعد أن يكونه وما الذي يستحيل أن يكونه، ودعونا نتجاوز التحديات والمحددات الجلية، بيولوجيًا ومعرفيًا لبرهة من الزمن مطلقين العنان لنوع من التفكير الإبداعي.

لم تكن الأجرام السماوية سوى أرواحًا علوية في الواقع الذي رسمه أرسطو بفلسفته الناتجة عن تأملاته، حيث رأى فيها كمالًا تفتقده الكائنات الأرضية، وإذ كان إدراكه الكوني أقرب إلى ما يشاهده إنسان عاش في ذلك العصر بحواسه المجردة، وأبعد عن التفكير الخرافي الذي سبقه بقرون، ذلك التصور الذي رأى فيه السومري الأجرام السماوية تجسدًا مباشرًا للآلهة، إلا أن حيود التصور الأرسطي عن الواقع تجلى بعد ذلك عندما نضجت المنهجية العلمية، فاعتماده فرضية مركزية الأرض جعله مجانبًا للصواب استنادًا إلى نماذج التفكير العلمي المعتمدة على اختبار الفرضيات تجريبيًا وهي النماذج التي أثبتت صحتها وقرب تصوراتها من الواقع، سيظل هذا التصور الأرسطي جزءًا من عقل البشرية ككل التصورات التي سبقته ولحقته، ولا يمكن لعملية التفكير أن تتجاهلها إذ ستتضمن استدعاء بيانات الذاكرة البشرية وتمييز الأنماط المتنوعة، ما سيؤدي حتمًا إلى تأثر الاستنتاجات الناتجة عن تلك العملية بكل مكوناته التي لا تحدها حدود، والتي ستتضمن أيضًا تصورات المرحلة البينية التي لم تكن علمية خالصة كتلك التي نتجت عن توسع دائرة العلم في القرن السابع عشر بفيزياء نيوتن، وتصورات نيوتن لم تكن علمية خالصة فيما يتعلق بفهمه للطبيعة، إذ رأى أن استقرار الأجرام السماوية في أفلاكها لا يتم بفعل الطبيعة وحدها وإنما يحتاج إلى تدخل ماورائي لضبط مساراتها، وصولا إلى مستوى التصور الراسخ علميًا والأكثر قربًا من الواقع وهو ما اصطلح عليه بالنظريات الفعّالة كالنموذج المعياري لفيزياء الجسيمات والذي تكمن أهميته في توحيد الإطار التجريبي لفهم القوى الطبيعية المختلفة وتقديم تنبؤات علمية دقيقة حول سلوك الجسيمات، ستكون كل تلك التصورات والنماذج العلمية الحديثة وفرضياتها التي لم تنضج بعد كالفرضية الرياضية حول العوالم المتعددة جزءًا من دمج وترميز المعلومات في عقلنا المفترض هنا.

لنتمادى فيما نحن بصدده ولنغذي أفضل خوارزميات الذكاء الاصطناعي التوليدي بكل تلك البيانات والمعلومات والأطر الفكرية التي أنتجت التصورات المشار إليها، ولنجعلها تتدرب على كل ذلك لإنتاج تصورها عن الواقع، من المؤكد أن خوارزمية بقدرة جبارة وبهذا العدد اللامتناهي من العصبونات الاصطناعية ستكون قادرة على إيجاد حل لأكبر تحديات تواجهها البشرية وربما نشهد حينها فتوحات تحل مشاكل التغير المناخي وتلك المتعلقة بالصحة، وستغدو خطوات التقدم العلمي متسارعة على نحو لا نتخيله، وباعتبار أن تلك الخوارزمية ستحوي كل ما يتعلق بتطور المعرفة وتغير نماذج التفكير التي تؤثر على تصور الواقع، فإننا سنتصور لوهلة أنها ستكون أكثر موضوعية في إدراك الواقع وتعكس الطبيعة التقدمية للمعرفة العلمية، إلا أنها وكما تشير حقائق ما خبرته البشرية حتى اليوم عن الخوارزميات وذكائها، لن تتخلص على الأغلب من عيوب أدمغتنا، بل ستغدو صدى لانحيازات البشر، وهي وإن لم تسيرها الغرائز التي تسير البشر فتقودهم إلى تأكيد تصوراتهم القائمة، وتغريهم بالانحياز لما يتبادر إلى أذهانهم وقت التفكير، إلا أن غرائز البشر ستتسلل إليها من خلال البيانات التي تغذيها وهي نتاج العقول المقيدة ببيولوجيتها.

يعيش ملايين البشر حاليًا في فقاعات لا يدركون الواقع إلا من خلالها، تعتني الخوارزميات بتلك الفقاعات وهي القوية الأمينة في دورها، تتقنه جيدًا فتغذي كل مجموعة من البشر بما تريد أن تنحاز إليه، لا يتسرب إليهم من الآراء المخالفة لما يظنون أنه الواقع الأوحد إلا القليل، ولأن الخوارزميات تعلم بالانحياز التأكيدي للبشر فهي تضمن جذبهم للتطبيقات من خلال تغذية تصوراتهم وتقويتها بكل ما يتسق مع ما شاهدوه أو بحثوا عنه أو اهتم به من يحيط بهم في عالم الإعلام الاجتماعي، فهل سيكون عقلنا المتخيل منجاة وهو يضيف إلى حدود وعيوب غرائزنا حدودًا أخرى وسدودًا رقمية بنيت وفق قواعد ما يعرف باقتصاد الانتباه؟!

صالح الفلاحي - كاتب عماني