من نهر لا ينضب، ومن ممكن سردي دائم الإخصاب، ينهل يحيى سلام المنذري مصادر قصصه، ويبني عوالم مدهشة، مرغبة في القراءة والاسترسال، ويقيم أشكالا لا تثبت على حال، حتى يذهب بك الظن أنه يحول كل العالم من حوله إلى قصة قصيرة أو شبه طويلة يرويها، أنه لا يسقط ملمحا ولا فعلا من تفاصيل الحياة حتى يكونها في هيئة قصصية.

قد أحتفظ في ذاكرتي بعدد قليل من القصص العربية التي قرأتها، ومن أبرزها وألزمها لذاكرتي قصة ليحيى سلام لم أستطع أن أسقطها من ذهني، وهي قصة «حبات البرتقال المنتقاة بدقة» الواردة في مجموعته المنتقاة قصصها بدقة «نافذتان لذلك البحر»، ولا يقف الأمر عند هذه القصة إذ بتذكرها تُستدعى قصص عديدة بارزة للكاتب، جمعها في مجموعات قصصية شفت عن صورة واقعة لكاتب قصصي كبير يجاوز المحلية للكونية، بجمعه بين الحسنيين، أولا، حس إنساني عميق وقدرة على التقاط ما يمكن أن يكون مادة لقصة، وثانيا ما يتخيره من تلوين أشكال الحكاية بلغة سلسة عميقة الأثر. صدرت ليحيى سلام مؤخرا مجموعته القصصية «وقت قصير للهلع»، وهي مجموعة تتوج سلسلة من المجموعات السابقة التي أصدرها الكاتب في أزمنة مختلفة، منها «نافذتان لذلك البحر» 1993، «الطيور الزجاجية» 2011، «بيت وحيد في الصحراء 2013، «رماد اللوحة» 2014، «حليب تفاح» 2016. وتأتي المجموعة الأخيرة لتبين عن اقتدار وصبر وأناة وتريض في كتابة القصة، وعن تمسك بالشكل القصصي الذي أصبح يحيى سلام مرجعا إبداعيا فيه. تحوي مجموعة «وقت قصير للهلع» ثلاث قصص طويلة، لا جامع بينها سوى الهلع من أمر ما، والهلع هو الخوف الشديد من أمر لا يستحق الخوف الشديد، الهلع من الطبيب أثناء إجراء عملية بتر الإصبع في قصة «الإصبع»، الهلع من المحيط الذي يعيش فيه العامل البنجالي في قصة «غليان الشاي»، الهلع من الخادمة في قصة «صندوق المفاجآت الملونة». يبني يحيى سلام قصصه بأسلوب شائق، ببدايات يغلب عليها غموض لا يدوم، وإنما سرعان ما تتفتح المعاني لتحيل القارئ إلى معاني أخرى أعمق، البدايات حسنة الإتقان، محكمة البناء، مكثفة الدلالات، «دخل المريض غرفة القلق، إصبعه ستبتر»، ومنه تبدأ أسئلة الهوس المرضي، بلوغا إلى نقطة مهمة، وهي الحصول على ضمانات أن يبتر الإصبع المريض دون غيره، خوفا من أخطاء الأطباء، رحلة القصة تظهر قدرة من الراوي على النفاذ إلى مخاوف الشخصية وقلقها وهلعها. في قصة «غليان الشاي»، تكون البداية بالكتاب وتكون النهاية مداره، الكتاب الذي تضمن قصة العامل البنجالي، الذي يرى ويرى، يحدد العالم الذي يعيش فيه ويتحدد به، وعلى نقيض القصة السابقة تتخذ هذه القصة سمةً توضح بعض المعالم التي تخص المكان (عمان) والشخصيات (البنجالي، الباكستاني، الأرباب، الفورمن)، بداية تتخذ شكلا مميزا، تتداخل فيها أجناس الحكاية، وتتعدد منافذ التبئير، وتتداخل الأصوات، فلا يقين في الحكاية ولا ثبات ولا صورة واحدة لها «الكتاب الذي بين يدي من أختي حسينة. أرسلته مع صديق من بلدي، غدا سأبلغ الأربعين. أمضيت منها خمسة عشر عاما في عُمان. هل تتذكرني تلك البيوت التي بنيتها؟»، لا يشكل هذا القول صورةً تامة مؤطرة للشخصية، غير أن المقدمة تبذر أهم ما يشكل مسارات القصة لاحقا. في قصة «صندوق المفاجآت الملونة» ضرب من التجريب ومن التجريد، جمع بين الغموض والوضوح، نقل لواقع فيه مشاعر مختلطة وأفعال وردود أفعال، لا أعتقد أن القصة تتوجه -كما ذهب البعض- إلى كشف ستر تسخير العاملات المنزلية، بل الأمر أعمق وأعقل قدرة على كشف «الهلع» من حيث هو ظاهرة نفسية يمكن أن تتمكن بالإنسان، هلع يصيب الزوج من العمال الباكستانيين، هلع يصيب الزوجة الباحثة عن عاملة منزلية، هلع يصيب العاملات لحظة الانتقاء، هلع يصيب العاملة من بسيط الأصوات، البداية شائكة معمية تحتاج فصولا أقامها الراوي لبناء القصة، وللتمكن من قص حكاية العلاقات الإنسانية الشائكة، «توجهت إليهم متجاهلا طعنات الهواء الساخن في وجهي، وقلت لهم بكثير من الحذر: «رجاء أنزلوه برفق». لا بد من الحذر، كنت في وضع غير مناسب لمعركة خاسرة. الحذر ثم الحذر، من كل شيء، ليس فقط من هؤلاء النمور العمالقة، الذين لفظهم بحر عمان». قصص تتولد عن عنوان تخيره يحيى سلام بدقة، شكل العتبة الأولى التي منها تولدت الأسئلة وتوضحت معاني الشخصيات التي أنطقها الراوي مرارا وترك لها المجال فسيحا لترى الكون من زاويتها، وأخفتها في مواقف قليلة لينطق بدلا عنها. بناء خطاب القصة في هذه المجموعة لم يتخذ شكلا واحدا، وإنما نوع الكاتب من وسائط الحكاية وعددها، فاقتصر في قصة «الإصبع» على تعهد الراوي بالحكاية، الذي قام برصد الرجل المريض والتعبير عن حالات هلعه، وتوجسه من الممرضة، ومن طبيب التخدير ومن الطبيب الجراح، أما في قصة «غليان الشاي» التي فرعها كاتبها إلى فصول، فقد تعددت مظاهر الرؤية فيها، وتنوعت الأصوات الراوية، بدءا بالعامل البنجالي، الشخصية الرئيسة المعقدة، الناظر، والمنظور إليه، المتحدث والمتحدث عنه، يسلمه الراوي عهدة الحكاية في القسم الخاص باليوميات التي دونها، والتي تحتاج إلى عميق نظر في دراستها، فقد أحسن الكاتب توظيفها، وشد أغلبها إلى الانتهاء بالركون إلى النوم، وقد عنون هذا القسم بـ«هدية أختي حسنية»، أما الفصل الثاني من القصة فقد اتخذ عنوانا «الكتاب الإسمنتي»، وأسكت فيه العامل الراوي القارئ الكاتب، ليحل محله العماني المهوس برياضة المشي مصحوبا بكتاب، والذي يتسلم يوميات العامل مصادفة، ويبدأ في رحلة بحث عن صاحب الكتاب، تتعهد هذه الشخصية الحكاية، لتبئر نفسها، ولتحل طرفا داخلا في القصة القصيرة، ولتتلقى رؤية أخرى ومصدر حكاية تخالف المكتوب، هي رؤية الفورمن، أو رئيس العمالة الذي يتخذ وضعا مهما في الواقع العماني، رؤى عديدة تتحقق في القصة الطويلة، منها على سبيل المثال تبئير العامل للعمانيين، «هذا حال العمانيين، يبنون أينما يمنحون، ولديهم قدرة خارقة على الانتظار، انتظار لكل ما هو مجهول»، وتبئير العماني للعامل «اليوم صادفت عمانيا لحيته طويلة، سخر مني، ظنني ضعيفا ومحتاجا، تكلم مع مالك المبنى، قال إن البنجاليين يعلمون كل شيء ولا يعرفون شيئا»، فتتشابك الأصوات وتتداخل في قصة قصيرة تبدو كأنها استعداد للدخول في كتابة رواية. وكذا الأمر كان في القصة الثالثة «صندوق المفاجآت الملونة»، إذ تتعهد الحكاية فيها الشخصية المركزية، العمانية المستقرة التي تدخل في هوس وارتياب وهلع من جراء رحلة البحث عن عاملة منزلية، لينقل لنا من خلاله عالم من الفزع والهلع، وشخصيات مليئة بالخوف المرضي من أشياء قد تستحق الخوف وقد لا تستحق.

يرتبط يحيى سلام في مجموعته القصصية «وقت قصير للهلع» بأمرين على غاية من الأهمية، قدرة فائقة على التقاط مشاعر الإنسان عمانيا كان أو بنجاليا أو باكستانيا، امرأة كانت أو رجلا، مستخدمة كانت أو مستخدمة، وقدرة على تسخير اللغة وتطويع أشكال القصة، فقد كانت اليوميات في قصة «غليان الشاي» واسطة للحكاية ذكية، وسبيلا أثرى القصة ونوع من طرائق بنائها. لم تكن الشخصيات متشابهة ولا متماثلة، وإنما كانت متعددة الأعراق والألوان والحضارات، حاملةً لهم واحد شف عنه عنوان المجموعة. تجربة هامة يخوضها يحيى سلام في هذه المجموعة، التي تقول ولا تقول، تصرح وتضمر، توضح وتغمض، ترتبط بالواقع وتنفصل عنه، عالم من القصص يختفي خلفه كاتب قادر على تمثل الواقع وتمثيله في قصص رائق.