إن علاقة الإنسان بالخيل قديمة قدم التاريخ، تشكّلتْ من قيم الحركة المستمرة والانتقال الدائم والشجاعة والفروسية والصراعات والحروب. وعندما قال الشاعر الجاهلي بيت الشعر الشهير:

مفدّاةٌ مكرّمةٌ علينا

يجوع لها العيال ولا تجوعُ

فإنه كان يصف العلاقة بين الإنسان والخيل، والارتباط الكبير بين الاثنين، وعدم التفريط بالخيل لأهميتها. إنّ الخيل مقدّمة على الأبناء في نظر الشاعر، وتبدو أهميتها في الحرب والسلم، وفي الترحال والإقامة، وهنا يظهر مدى الارتباط الطويل والمستمر بينهما.

لقد كُتبت كتب عديدة في التراث العربي تهتمُّ بالخيل، منها كتاب (نسب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها) لابن الكلبي (ت:206هـ)، وكتاب (الخيل) للأصمعي (ت: 216ه)، وكتاب (أسماء خيل العرب وأنسابها وذكر فرسانها) لأبي محمد الأعرابي (ت: 231ه)، وغيرها من كتب المتقدمين والمتأخرين التي تشير إلى أهمية الخيل وارتباطها بالإنسان، إضافة إلى العديد من نصوص الشعر التي أشارت إلى هذا الارتباط وإبراز القيمة العالية لهذا الحيوان.

في هذا المقال سأتناول قراءة في ارتباط الإنسان بالخيل بين السرد والدراما من خلال أنموذجين: الأول قصة (خيل شنون) للقاص العماني سلطان العزري المنشورة في مجموعته القصصية (قبل أن نسقط في البحر) الصادرة عن مجلة نزوى عام 2021م، والآخر فيلم (Ride On) لجاكي شان الذي عُرض هذا العام؛ حيث إنّ النصين يرسمان صورة عن علاقة الإنسان بالخيل ومدى الارتباط بها من زاوية مغايرة بين الاثنين.

أولا: خيل شنون ومحاولة كسر أنساق المجتمع

تنطلق قصة (خيل شنون) من مشهد يظهر فيه الخيل في السوق على غير العادة، ويحاول الراوي إظهار قيمة الخيل وصعوبة امتلاكها لأسباب عدة ذكرها، لكن افتتاحية القصة ستنطوي على مضمرات نسقية تدل على طبقية وعنصرية واضحتين يمكن أن نكتشفهما من عبارة: «لذلك عندما تبختر شنون بائع السكاكين المشحوذة متباهيا بها أمام الجميع في السوق، بدا المشهد مفارقا، غريبا ومزعجا، مشهد لا يحتمل كما قال أحدهم، شنون الفقير، شنون الأفريقي، العجوز يمتلك خيلا ذات شلاشل وحلي فضية، تتبختر في السوق».

ومع هذه المضمرات سيتحول الفضاء المكاني/السوق من كونه فضاءَ التجارة والبيع والشراء إلى فضاء قائم على الطبقية، والتمييز العنصري تهيمن على جنباته النظرة الدونية تجاه الآخر، يصف الراوي الفضاء المكاني المحمّل بأيديولوجيا المجتمع قائلا: «ذلك اليوم، أرسلت الشمس الحياة صافية في السوق، عند الساعة التاسعة، شخصت أبصار الجميع، ليراقبوا المشهد، التجار أمام محلاتهم التجارية، أصحاب الماعز والأغنام، الباعة المتجولون أيضا اصطفوا لمتابعة المنظر، باعة البرسيم، باعة السمك، اللحامون، المنادون بالسوق، كان مشهدا استثنائيا، توقف العمال الآسيويون عن عملهم أيضا، إنه شنون، الجميع يعرفه، بعضهم يذكره منذ أن عقل، شنون الرجل الهرم، العجوز الخرف الذي يبيع السكاكين المشحوذة جيدا، شنون الذي كان جده مخصيا وهو يعمل في بيت الشيخ، شنون ذو السحنة الأفريقية، شنون الذي يجلس يوميا في زاوية بالسوق، زاوية شنون، لا يزال حصيره المطوي وتلك الصخرة الضخمة تمتلكان ذلك المكان، إنه مكان شنون، يأتي الأخير باكرا ويغادر متأخرا، كل يوم منذ ثلاثين عاما أو أكثر».

ويرتفع نسق المجتمع العنصري في القصة مع إطلاق أوصاف دونية عنصرية على الشخصية/شنون كما في الفقرة السابقة، ومعها يحاول السارد أن يعيد للشخصية أهميتها في العمل السردي من جانب، ومن جانب آخر يحاول تقويض الطبقية ومواجهتها، وإلغاء أفكارها حين عبّر قائلا: «لم يكن مهما أن الخيل حيث ربط خطامها بجانب المواقف العامة قد بعرت كثيرا، أو أنها تركت بعرها على وجه سيارة الشرطة التي ركنت خلفها، لم يكن مهما كذلك أن شنون اشترى حزمتين كبيرتين من البرسيم، حملها عامل آسيوي له، مشى خلف الخيل التي كان شنون يقودها من خطامها وهو يغادر السوق، ما كان مهما هو أن شنون الحداد بات يمتلك خيلا يفاخر بها، خيلا حقيقة، خيلا أرادها أن تغيظ الأغنياء والشيوخ، شعر ساعتها بأنه تساوى معهم، شنون الحداد أصبح معهم، إنه يمتلك خيلا حية رغم هزالها».

إذن فارتباط شنون بالخيل كان بداعي المفاخرة ومواجهة الآخر المتعالي الناظر إلى الآخر نظرة تمييز، فلا ضير إن كانت الخيل هزيلة أو كبيرة في السن أو متعبة، المهم أنّ شنون واحد ممن يمتلكون خيلا وهم قلّة في المجتمع. فهل نجح شنون في مواجهة الآخر العنصري؟

يظهر الصراع النفسي في شخصية شنون الذي يبحث عن المفاخرة، فلم «يعد شنون يبيع السكاكين المسنونة أو المشارط، لقد نسي الفراش المطوي والزاوية التي يجلس بها، أو تناساها، لم تعد ثيابه بالية أو وسخة، لم يعد يجالس الباعة البسطاء أمثاله، كان يفكر بالخيل التي يمتلكها، بالسمعة التي أصبحت له، برأي الناس فيه، سوف يغير قدره، سيحترمه الناس، لن يموت وهو بائع سكاكين مشحوذة، سيموت كفارس يمتطي خيلا دهماء».

لكن النسق المجتمعي كان أقوى من مواجهة شنون، إذ باءت مواجهته بالفشل لأمرين: الأول، ضمور خيله وبيان كبر سنها وهزالها، فقد «كانت خيلا عجوزا تحتاج للراحة بعد سنواتها الطويلة في الخدمة، السنوات التي جعلتها أشبه بخيل. في البداية، مع صعوبة إخفاء تلك المشكلات التي تواجهه، أصبح يخرجها يوما من المنزل وآخر يبقيها فيه، ثم بات واضحا أنها لم تعد ترى بالمساء، شح نظرها، الخيل العجوز المسكينة، ظل شنون ثابتا، لم تؤثر به كل تلك الأشياء، تغافل عنها، إنه لا يريد أن يفقد امتيازات امتلاك خيل في نظر الآخرين»، ومعها فقد قيمة المواجهة بفقد قوة الخيل وصلابتها وألقها.

الأمر الآخر، ازدياد السخرية والاستهزاء به وبخيله من أبناء المجتمع، بالعودة إلى ماضيه وأصله، وتكرار تشبيه خيله بالبقرة وعدم إعطائه الأهمية الكبرى في التعامل، كل ذلك ضاعف من فقدان القيمة ذاتها.

لم تكن طلقتا الرصاص اللتان انطلقتا من بيت شنون -دون تحديد اتجاهها إلى الخيل أو إلى الناس- إلا ردّ فعل على محاولة الإقصاء، والتمييز العنصري، كما لم يكن الارتباط مع الخيل قويا بما يكفي لتظهر مشاعره في النص، إذ كما يبدو من النص فقد طغت عاطفة المفاخرة والتباهي على عاطفة الحب والارتباط بالخيل والتي سرعان ما ظهرت صورتها سطحية ومهشّمة.

ثانيا: حصان جاكي شان ومحاولة ترميم العلاقات الإنسانية

يقدّم الممثل الشهير جاكي شان في فيلم (Ride On) دور (لاو لو) الأب البسيط الفقير الذي تتراكم عليه الديون، ويظهر ممتطيا حصانه داخلا بها السوق والأماكن العامة محاولا كسب رزقه من ورائها.

إلا إنّ ارتباط (لاو لو) بحصانه كان أعمق من ارتباط شنون بخيله بفعل العلاقة الزمنية الممتدة بينهما، فقد حصل (لاو لو) على الحصان منذ ولادته وكان مريضا في رئته، وقوائمه ضعيفة لا تكاد تحمله، فأراد مالكه أن يطلق عليه الرصاص للتخلص منه، لكن (لاو لو) قرّر الاعتناء به، فقام بعلاجه حتى شفي وتمكن من السير، فتوطّدت العلاقة بينهما حتى صار يناديه بـ(ابني).

تظهر قيمة الحصان في الفيلم كونها شخصية رئيسة تتفاعل مع الشخصيات الأخرى، وتُقدّم دورا رئيسا سواءً في أداء الأدوار التمثيلية، أو في الربط بين الشخصيات. لقد عمل الحصان في الفيلم على إعادة العلاقة المنقطعة بين الأب (لاو لو) وبين ابنته (شياو باو) حتى صارت أكثر قربا من والدها، فلم يكن الحصان هنا مجرد كائن يتحرك في النص وفق رؤية الشخصية الرئيسة فقط، لقد كان له اعتبار وأهمية ودورٌ محدّد في التمثيل والقتال وإظهار المشاعر الإنسانية؛ لذا كان من أقسى مشاهد الفيلم لحظة تخلّي (لاو لو) عن حصانه بقرار من المحكمة وعودة ملكيته لمالكه الجديد. هنا يبرز الأداء التمثيلي في بُعده الإنساني، وتظهر مشاعر الحب والوفاء بين الإنسان والحيوان، فكأنّ تخلّي الإنسان عن حصانه أشبه بقصيدة فراق كتبها شاعر ذاق مرارة الفراق وشدّته.

لم يترك (لاو لو) الحصان لحظة ولادته عرضةً للرصاص، وحارب على إبقائه ضمن ملكيته الشخصية، ولم يتخلّ عنه بسهولة، ولم يُرد تعريضه للخطر أثناء ممارسة أدواره التمثيلية الخطرة فانسحب من القيام ببعضها، فكان الرباط بينهما وثيقا في مجمله، أضف إلى ذلك أن الحصان لعب دورا مهما في إصلاح العلاقة بينه وبين ابنته. هنا يظهر الدور الخفي للحصان، في القيام بتأثير درامي داخل العمل الفني، وهنا تعمل الدراما على تأجيج المشاعر في إظهار هذه العلاقة بين الطرفين، ينطلق الحصان تاركا مالكه الجديد تابعا أثر (لاو لو)، لكن (لاو لو) وفي لغة حزينة، ومشهد مؤثر يأمره بالبقاء مع مالكه الجديد رغم تعلقه الشديد به. إنّ الارتباط هنا داخلي بين (لاو لو) وحصانه، لم تظهر مشاعره إلا باستثارة الذات وإخراج مكنوناتها وهي التي انعكست للمشاهد، وأظهرت أنّ هناك رابطا قويا لا يمكن زحزحته ولا يمكن إنهاؤه. هكذا تظهر علاقة الإنسان بالخيل في نصين أحدهما سردي، والآخر درامي لكل منهما أبعاده ونظرته وأفكاره التي ينطلق منها في التعبير عن العلاقة بين الإنسان والخيل.