الكُلفة المُحددة التي ندفعها اليوم من أجل التعليم متواضعة جدا إزاء الكلفة المتوقعة من الإمعان في تقليص فرصه وإمكانياته، فالتعليم المتقدم يُغير واقع حياة الفرد، يُغير مستقبله ونمط تفكيره، وبالتالي يقلبُ هرم الطبقية في أي مجتمع من المجتمعات، فقد تنمو حياة أسرة متواضعة في سياق طبيعي وتتقهقر حياة أسرة أخرى ضمن فُرص تعليمية عادلة.

في السابق كانت البعثات الخارجية تصل إلى (1643)، تقلصت إلى (400) بعثة فقط، الأمر الذي سبب إحباطا هائلا بين أوساط الطلبة المتنامية أعدادهم عاما بعد آخر، وعندما أعيد النظر في الرقم -استجابة للمطالب- فإنّه لم يتجاوز الـ(550)! و«يا زيد كأنّك ما غزيت»!

علينا أن نتذكر أنّ عدد طلبة الدبلوم بلغ هذا العام قرابة الخمسين ألفا، إلا أنّ المقاعد الدراسية الداخلية والخارجية ستستوعب حوالي 28 ألفا و725 مقعدا وحسب، فأين سيذهب البقية!

هذا في وقت تشيرُ فيه مؤشرات النتائج النهائية للمتقدمين الناجحين لنظام القبول الموحد في الفصل الأول، إلى أن أكثر من ٩ آلاف طالب وطالبة حصلوا على معدل 90% وأعلى، مما يؤكد حدة المنافسة وضعف الفرص!

بينما الطلبة الذين لم يحصلوا على مؤشر قبول في الفرز التجريبي بلغ عددهم (16210) من الطلبة، وهو رقم كبير ومُفزع في بلد لم يصل تعداد سكانه بعد الثلاثة ملايين!

وبعيدا عن المثالية، علينا أن نعترف أنّ الحل لا يكمنُ دائما في احتواء الذين تفوتهم فرص التعليم ما بعد الدبلوم العام في وظائف برواتب زهيدة، فإن كانوا لا يندمون عليها الآن، فإنّهم سيفعلون ذلك بكل تأكيد عقب أن يُكوّنوا أسرهم الصغيرة، في ظل انعدام مصادر الدخل الرديفة! الأمر الذي سيزيد العبء على الفرد والدولة على حد سواء.

يتوجب علينا تثقيف الشباب بأهمية التعليم العالي لا إغواؤهم بوظائف -ذات أفق مُغلق- لا يتطورون في سلالمها، لا سيما ونحن نُكابد التضخم وغلاء المعيشة المضني!

علينا أيضا ألا نغفل أنّ خريجي شهادة الدبلوم العام في عمر الثامنة عشرة، هم صيد سهل يمكن التغرير بهم لصالح استقطابات نحن في غنى عنها، هم طاقة جامحة ومتوقدة، فإمّا أن تُوجه لما فيه الخير لهم وللبلاد وإما أن تتحول إلى نقمة مُهلكة، وللتاريخ في ذلك دروس!

ماذا أيضا عن نوع التخصصات التي يُبتعثُ إليها الطلبة، إلى أي درجة تلامسُ حاجة سوق العمل والمستقبل الذي يخلعُ جلده عاما بعد آخر؟

قد يرى البعض أنّ إرسال الطلبة من نسب منخفضة يُضاعف الانسحابات وخسارة المقاعد والأمر قد لا يخلو من الصحة، لكنه يُعيدنا إلى المربع الأول، المادة التي شكلت هذا النسيج من المُخرجات، أعني «المعلم» في المدرسة، فنحن إن لم نُعطه مكانته الرفيعة في المجتمع، إن لم نهيئ له البيئة والأرضية السليمة، لتنشئة أجيال عميقة الفهم، فليس لنا إلا أن نلوم أنفسنا!

وكما تقول الحكمة: «الغد ملك لأولئك الذين يعدون له اليوم»، فلا شيء يُمكنه أن يُحدث فرقا في حياة الشعوب، كما هو أثر التعليم الذي سيقطفُ ثمره عاجلا أم آجلا، لا سيما في مجتمعات نامية، تنسجُ خططها لتنويع اقتصادها، في ظل ثروة النفط المُهددة، إن لم يكن بالنضوب والفناء فهي مُهددة بالبدائل التي يضعها العالم المتحضر نصب عينيه.

ولعلنا ندركُ هدف خطة ترشيد الاستهلاك، إلا أنّ هذا التقشف ينبغي ألا يطال التعليم على وجه الخصوص، بل ينبغي جعله الأمل المتوخى منذ التعليم ما قبل المدرسي إلى التعليم العالي، ينبغي ألا ننشد «ملء الأوعية الفارغة وإنّما إضرام النيران» على حد تعبير سقراط.