قبل نحو عقدين من الزمان كانت كلمة «العولمة» واحدة من أكثر المفاهيم الحديثة تداولا في الكتابات الفلسفية والمراجعات الفكرية، حيث جاء الانشغال بهذا المفهوم تزامنا مع تحول كبير شهده عالمنا خلال نهايات القرن العشرين؛ ذلك التشظي التاريخي والجغرافي والأيديولوجي الذي تمثل في هزيمة المعسكر الاشتراكي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، عقيدةً وكيانا سياسيا، مع نهاية الحرب الباردة التي استأنفت الصعود الرأسمالي الكاسح بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الدائرة حول فلكها. ومع الرواج الإعلامي الذي لقيه هذا المصطلح، فإنه يمكن القول إن فكرة العولمة نفسها أصبحت اليوم هما عالميا مُعولما، مع مراعاة الفارق الجوهري في المعنى بين المصطلحين؛ العولمة والعالمية.
حتى بيننا كطلاب في المدرسة، ما أزال أتذكر جيدا الاهتمام التربوي (مهما كان سطحيا) بهذا المفهوم ومضامينه، في الوقت الذي فَرضت فيه شبكة الإنترنت نفسها على كل الميادين وأثبتت أهميتها العصرية كتقنية أساسية في العملية التعليمية والبحث العلمي. أخذنا نُعنى بمفهوم العولمة في المدرسة كموضوع لكتابة التقارير والنقاش في إذاعة الصباح، وقبل ذلك كسؤال جديد للبحث في غرفة مصادر التعلم. وكان موضوع العولمة بالذات واحدا من أكثر المواضيع التي استهلكناها سعيا لأن نتباهى بتثاقفنا واطلاعنا خارج حدود المنهج المدرسي المُقرر، في حين كنا نجهل بالطبع تحولات السياق التاريخي والسياسي الذي قاد العالم الشاسع والمتعدد الذي نتخيله خارج حدودنا الجغرافية إلى أن يصبح اليوم قرية صغيرة. ولا يمكن لهذه العبارة أن تمر علي سهوا في كتاب أو حديث دون أن تذكرني بتلك المرحلة التي تكررت فيها هذه العبارة كثيرا على مسامعنا دون أن نعي حدود معناها الحقيقي، ودون أن نتخيل للحظة أنها ستكون أبعد من عبارة مجازية تقدم تصورا مبالغا فيه لحجم العالم وأبعاده في المستقبل. فلم تدر الأرض حول شمسها سوى سنوات قليلة فقط قبل أن يَختطفنا التَّمثل المذهل لهذه العبارة المجازية المكرورة؛ وذلك حينما وجدنا حياتنا بأسرها وقد أصبحت رهن حيز افتراضي مع أول تسجيل دخول إلى فيسبوك، ثم ما تلاه لاحقا من فتوحات لمنصات التواصل الاجتماعي، وصولا إلى الصيحة الأخيرة لتطبيق «ثريدز»، الذراع الجديدة لمنصة إنستجرام.
حكاية العالم الذي صار قرية صغيرة، والتي كانت في يوم من الأيام فيلما من أفلام الخيال العلمي أو خرافة مغلفة في حكاية شعبية تناقلتها ثلاثة أجيال على الأقل، هي اليوم حكاية مُعاشة تثبتُ دقتها الموضوعية ساعة بعد ساعة، كما تشف عن قدرة راويها على التنبؤ واختراق ضباب المستقبل المتصاعد من وادي السيليكون على خليج سان فرانسيسكو. وهي رغم بساطتها المختزلة في عبارة سريعة إلا أنها تتمتع بقوة أدبية جارحة تبرق من قصيدة الهايكو اليابانية فتحيل العالم بومضة سحرية إلى قرية صغيرة غير مجازية هذه المرة.
كان آخر تجليات هذه العبارة هو الإعلان الذي صدم به مالك شركة تويتر، الملياردير الأمريكي إيلون ماسك، عن قرار الشركة بوضع حد لعدد التغريدات التي يمكن رؤيتها على تويتر، وذلك تبعا لتوثيق الحساب من عدمه، كما أذيع في تفاصيل الخبر المنشور، حيث الأفضلية لأصحاب الحسابات الموثقة، وهم بالطبع من يسددون جزيتهم الشهرية أو السنوية لإمبراطورية إيلون ماسك مقابل الاعتراف الذي تمنحهم إياه العلامة الزرقاء.
تأمل هذا الحدث وتبعاته يدفعني لقراءة تلك العلاقة الخفية التي تطورها منصات التواصل الاجتماعي بين الإنسان، هذا المُواطن العالمي الجديد، وإحساسه بالإقامة في هذا السجال الغامض بين الواقعي والافتراضي، حيث ينمو الإحساس بالانتماء إلى منصة رقمية كتويتر أو انستجرام أو سناب شات كضواحٍ أو أحياء سكنية، كأماكن فعلا، كأماكن بديلة لها مناخاتها وثقافاتها، وسياساتها بالضرورة، إلى الدرجة التي يمكنك فيها أن تقيم في جميع هذه المدن الافتراضية في الوقت نفسه مع مراعاة التغير الذي يطرأ على أسلوبك وطريقة تفاعلك وارتباطك الحميمي وأنت تتنقل بين تطبيق وآخر، في ازدواج وتعدد محير لهويتك الفردية. وبالعودة إلى الواقع، فإننا نجد تعدد شخصياتنا الافتراضية أشبه بتعدد شخصياتنا الواقعية ونحن ننتقل من غرفة النوم، إلى الصالة، إلى بيئة العمل. وهنا يتجلى تويتر كمكان في مشهد المستخدمين وهم يغادرون غرفهم المجانية في التطبيق، بعد أن فرض مالكها إيجارا شهريا عليها، وهو ما يوحي بنوع جديد من الشتات لم يسبق للإنسان أن اختبره من قبل؛ وهو الشتات الرقمي الذي يجعلنا نتخيل أنفسنا مشروعَ لاجئين افتراضيين بوصفنا مستخدمين لهذه المنصات، أو برابرة جُدد لما بعد الحداثة، في حكاية العالم الذي صار قرية صغيرة.
حتى بيننا كطلاب في المدرسة، ما أزال أتذكر جيدا الاهتمام التربوي (مهما كان سطحيا) بهذا المفهوم ومضامينه، في الوقت الذي فَرضت فيه شبكة الإنترنت نفسها على كل الميادين وأثبتت أهميتها العصرية كتقنية أساسية في العملية التعليمية والبحث العلمي. أخذنا نُعنى بمفهوم العولمة في المدرسة كموضوع لكتابة التقارير والنقاش في إذاعة الصباح، وقبل ذلك كسؤال جديد للبحث في غرفة مصادر التعلم. وكان موضوع العولمة بالذات واحدا من أكثر المواضيع التي استهلكناها سعيا لأن نتباهى بتثاقفنا واطلاعنا خارج حدود المنهج المدرسي المُقرر، في حين كنا نجهل بالطبع تحولات السياق التاريخي والسياسي الذي قاد العالم الشاسع والمتعدد الذي نتخيله خارج حدودنا الجغرافية إلى أن يصبح اليوم قرية صغيرة. ولا يمكن لهذه العبارة أن تمر علي سهوا في كتاب أو حديث دون أن تذكرني بتلك المرحلة التي تكررت فيها هذه العبارة كثيرا على مسامعنا دون أن نعي حدود معناها الحقيقي، ودون أن نتخيل للحظة أنها ستكون أبعد من عبارة مجازية تقدم تصورا مبالغا فيه لحجم العالم وأبعاده في المستقبل. فلم تدر الأرض حول شمسها سوى سنوات قليلة فقط قبل أن يَختطفنا التَّمثل المذهل لهذه العبارة المجازية المكرورة؛ وذلك حينما وجدنا حياتنا بأسرها وقد أصبحت رهن حيز افتراضي مع أول تسجيل دخول إلى فيسبوك، ثم ما تلاه لاحقا من فتوحات لمنصات التواصل الاجتماعي، وصولا إلى الصيحة الأخيرة لتطبيق «ثريدز»، الذراع الجديدة لمنصة إنستجرام.
حكاية العالم الذي صار قرية صغيرة، والتي كانت في يوم من الأيام فيلما من أفلام الخيال العلمي أو خرافة مغلفة في حكاية شعبية تناقلتها ثلاثة أجيال على الأقل، هي اليوم حكاية مُعاشة تثبتُ دقتها الموضوعية ساعة بعد ساعة، كما تشف عن قدرة راويها على التنبؤ واختراق ضباب المستقبل المتصاعد من وادي السيليكون على خليج سان فرانسيسكو. وهي رغم بساطتها المختزلة في عبارة سريعة إلا أنها تتمتع بقوة أدبية جارحة تبرق من قصيدة الهايكو اليابانية فتحيل العالم بومضة سحرية إلى قرية صغيرة غير مجازية هذه المرة.
كان آخر تجليات هذه العبارة هو الإعلان الذي صدم به مالك شركة تويتر، الملياردير الأمريكي إيلون ماسك، عن قرار الشركة بوضع حد لعدد التغريدات التي يمكن رؤيتها على تويتر، وذلك تبعا لتوثيق الحساب من عدمه، كما أذيع في تفاصيل الخبر المنشور، حيث الأفضلية لأصحاب الحسابات الموثقة، وهم بالطبع من يسددون جزيتهم الشهرية أو السنوية لإمبراطورية إيلون ماسك مقابل الاعتراف الذي تمنحهم إياه العلامة الزرقاء.
تأمل هذا الحدث وتبعاته يدفعني لقراءة تلك العلاقة الخفية التي تطورها منصات التواصل الاجتماعي بين الإنسان، هذا المُواطن العالمي الجديد، وإحساسه بالإقامة في هذا السجال الغامض بين الواقعي والافتراضي، حيث ينمو الإحساس بالانتماء إلى منصة رقمية كتويتر أو انستجرام أو سناب شات كضواحٍ أو أحياء سكنية، كأماكن فعلا، كأماكن بديلة لها مناخاتها وثقافاتها، وسياساتها بالضرورة، إلى الدرجة التي يمكنك فيها أن تقيم في جميع هذه المدن الافتراضية في الوقت نفسه مع مراعاة التغير الذي يطرأ على أسلوبك وطريقة تفاعلك وارتباطك الحميمي وأنت تتنقل بين تطبيق وآخر، في ازدواج وتعدد محير لهويتك الفردية. وبالعودة إلى الواقع، فإننا نجد تعدد شخصياتنا الافتراضية أشبه بتعدد شخصياتنا الواقعية ونحن ننتقل من غرفة النوم، إلى الصالة، إلى بيئة العمل. وهنا يتجلى تويتر كمكان في مشهد المستخدمين وهم يغادرون غرفهم المجانية في التطبيق، بعد أن فرض مالكها إيجارا شهريا عليها، وهو ما يوحي بنوع جديد من الشتات لم يسبق للإنسان أن اختبره من قبل؛ وهو الشتات الرقمي الذي يجعلنا نتخيل أنفسنا مشروعَ لاجئين افتراضيين بوصفنا مستخدمين لهذه المنصات، أو برابرة جُدد لما بعد الحداثة، في حكاية العالم الذي صار قرية صغيرة.