- 1 -
من بين أهم مظاهر النهضة الأدبية الحديثة في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ما كان يطلق عليه "المعارك الفكرية" وهي لون من النشاط الفكري والمعرفي والثقافي كان يقع مراوحة بين الحوار الهادئ والأخذ والرد العابر مرورا بإثارة قضية يختلف حولها الكتاب والمفكرون والأدباء لأسباب فنية أو سياسية أو أيديولوجية وليس انتهاء باندلاع المعارك المشتعلة العنيفة الصاخبة التي كانت تصل في أحيان غير قليلة إلى الاشتجار اللفظي العنيف والهجاء الحاد والسباب المذموم!
لكن في النهاية وفي كل الثقافات والأمم ينقشع غبار المعارك وتخبو نيرانها ولا تبقى منها إلا قيمتها التاريخية أو الأدبية أو الجمالية التي يمكن اعتبارها في ذاتها دليلا على حيوية الثقافة وتجددها وتطلعها إلى النهوض والمجاوزة والبحث عن الجديد دائما. كما يمكن اعتبارها من ناحية أخرى جزءا مهما من تاريخ الثقافة وتاريخ الأدب، بما يتمخض عن هذه المعارك من مواد وفصول ومقالات تمثل ذخيرة أدبية وفنية وفكرية لا تقدر بمال.
- 2 -
وطيلة الفترة من الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وحتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين، كانت المجلات الأدبية والثقافية الكبرى مثل "الرسالة" و"الثقافة" و"السياسة الأسبوعية"، وغيرها، فضلا على الصحف اليومية، والمجلات الدورية.. إلخ، كانت هذه الدوريات هي ساحة المعارك ومبارز الأدباء والكتاب، ومن يعود إلى صحف ومجلات هذه الفترة لا يكاد يخلو عدد واحد منها من إثارة لقضية أو مناوشة بين كاتبين أو معركة حقيقية بين علمين كبيرين أو ناقدين أو أكثر.
وكم حملت لنا صفحاتُ مجلة (الرسالة) العريقة لصاحبها أحمد حسن الزيات معارك ومساجلات ومناجزات هي التوثيق اليومي والسجل التاريخي لحركة الفكر العربي الحديث وتطوره، خاصة في جانبه الأدبي والنقدي، ومنهما إلى قضايا التجديد والإصلاح والنهوض بالمجتمع ككل.
وتكاد (الرسالة) تحظى بنصيب الأسد من تسجيل هذه المعارك، فعلى صفحاتها تعارك طه حسين والعقاد، وطه حسين وزكي مبارك، وهاجم علي الطنطاوي الشيخ أمين الخولي وتلميذه محمد أحمد خلف الله، وعلى صفحاتها تساجل مصطفى صادق الرافعي وسعيد العريان ومحمود شاكر وغيرهم مع تيار المجددين أو المحدثين.
- 3 -
وعلى المستوى الأدبي والنقدي، على سبيل المثال، فقد أفاد الأدب العربي الحديث، خاصة في أدوار النشأة وتجديد الأنواع الأدبية، واستقبال الأنواع المستحدثة، إفادة عظيمة وهائلة من هذه المعارك والخصومات العنيفة التي اندلعت بين أعلام ونجوم النهضة الحديثة وما أكثرهم وما أهم وأبرز ما قدموه للأدب العربي والثقافة العربية، شخصيات بقيمة وإنجاز طه حسين، والعقاد وأحمد أمين، ومحمد حسين هيكل، والشيخ علي عبد الرازق، والشيخ مصطفى عبد الرازق، والشيخ أمين الخولي، والدكاترة زكي مبارك، ومصطفى صادق الرافعي، وإبراهيم المازني، وعبد الرحمن شكري، وعلي الطنطاوي، وسلامة موسى وتوفيق الحكيم، وأنور المعداوي، وسيد قطب.. إلخ، وغيرهم الكثير من رواد النهضة الأدبية العربية الحديثة في مصر والشام وفي عموم العالم العربي، وأعطته حيوية وتشويقا نفتقدهما اليوم في حياتنا الثقافية العربية.
يقول أنور الجندي في كتابه التوثيقي عن «المعارك الأدبية» "تمثل "المعارك الأدبية" قطاعًا حيا من قطاعات الحياة الفكرية في الأدب العربي له خطورته وأهميته في مجالات النثر والشعر واللغة العربية والقومية العربية، ومفاهيم الثقافة ونقد الكتب.
وقد دارت هذه المعارك بين المحافظين والمجددين، ثم درات بين المجددين أنفسهم، متطرفيهم ومعتدليهم، وقد انتظمت موضعين مهمين: معركة مفاهيم الثقافة، ومعركة مفاهيم الأدب، وكان أبرز أعلامها في معسكر المحافظين أحمد زكي باشا، ومحمد فريد وجدي، ومصطفى صادق الرافعي، ومحمد أحمد الغمراوي، وشكيب أرسلان، ورشيد رضا. وفي معسكر المجددين: عباس العقاد، وعبد القادر المازني، وزكي مبارك، ومحمد حسين هيكل، وطه حسين، وسلامة موسى".
- 4 -
ورغم أهمية هذا الجانب وحيويته ومركزية أدواره في حركة الأدب العربي الحديث وتطوره، فإن موضوع المعارك الأدبية والفكرية في الأدب العربي لم يشغل حيزا كبيرا من نشاط التأليف والكتابة والتأريخ لهذا الأدب وهذه الثقافة. باستثناء عدد من الكتب التي تعد على أصابع اليدين، لا كتاب شامل ولا تاريخ متكامل لصيرورة هذه المعارك وتفاصيلها ينظِّر لها، ويؤرخها ويؤرشفها ويضعها بين أيدي الدارسين والباحثين والمهتمين عمومًا.
من بين أهم الكتب التي تصدت لموضوع المعارك الأدبية، كما أشرنا قبل قليل، كتاب أنور الجندي «المعارك الأدبية»، الذي كان من أسبق هذه الكتب ظهورا، وهناك كتاب آخر بالعنوان ذاته للكاتب والأديب طاهر الطناحي، أحد نجوم الكتابة الصحفية والأدبية في الهلال وغيرها من صحف ودوريات تلك الفترة.
أيضا من الكتب المهمة على صغر حجمه، كتاب الناقد والمؤرخ الأدبي الراحل علي شلش «اتجاهات الأدب ومعاركه في المجلات الأدبية» الذي صدر في تسعينيات القرن الماضي عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
ويكاد يكون كتاب الفنان التشكيلي والكاتب سمير غريب «حيوية مصر ـ المعارك الفكرية في النصف الأول من القرن العشرين» خاتمة هذه الكتب التي أولت اهتمامها برصد وتوثيق جانب من هذه المعارك؛ إما من جهة الأعلام الذين خاضوا هذه المعارك، وإما من جهة القضايا والموضوعات التي ثارت حولها المعارك.
- 5 -
ولا يتسع المقام لتفصيل يحتاج إلى مجلدات لاستيفائه، لكن تكمن الإشارة إلى أمثلة ونماذج لهذه المعارك التي لم تترك موضوعا أو فكرة أو مفهوما أو كتابا أو نقدا... إلا وناوشته، أو حامت حوله، أو اتخذت منه غذاء ووقودا لاستمرارها واتصالها واتساع دائرتها.
يمكن القول إنه منذ الشيخ حسن العطار وتلميذه النجيب رفاعة الطهطاوي وبيئة العلماء وشيوخ الأزهر التي كانت تمثل البيئة التقليدية لحركة الفكر والأدب والثقافة كانت هي المهاد الأول للمعارك والمنازعات الفكرية والأدبية وإن كان معظمها يدور في فلك الثقافة الدينية التقليدية، وعلوم الثقافة العربية الموروثة فلم يكن من بينها ما يشير إلى انتقالة كبيرة على مستوى الفكر أو التجديد الأدبي.
لكن مع ظهور الصحافة الحديثة والمطبعة، والمجلة، ودفع عجلة الترجمة، والاتصال بروافد الثقافة الغربية، ثم بعد ذلك نشأة الجامعة الحديثة (الجامعة الأهلية، التي ستصير فيما بعد الجامعة المصرية) كل هذه العوامل بالإضافة إلى سياق ومناخ فكري وثقافي كامل، شهد ظهور أفكار جمال الدين الأفغاني وتلميذه المصلح المجدد الشيخ محمد عبده، كل هذا أثمر في النهاية عن حركة فكرية وثقافية ناهضة، وبدأ ظهور الرأي والرأي الآخر، والاتجاه إلى آفاق أخرى غير آفاق التقليد والنقل، فظهرت حركة إحياء التراث، وظهر الاتجاه التجديدي الذي استقى أفكاره ومحدداته النظرية من الاحتكاك بالثقافة الغربية ومؤسساتها ونظمها.. إلخ. كل هذا أثمر في النهاية معارك فكرية وأدبية شديدة الخصوبة والغنى، ومثلت في مجملها نبض هذه الثقافة وحيويتها.
- 6 -
في الفترة من الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، كانت المعارك ذات طبيعة فكرية أكثر من كونها "أدبية" أو يمكن القول إن صفة أدبية هنا تتسع لتشمل الفكري والثقافي معا، وليس بمعنى الاقتصار على فنون القول الشعري والنثري وما يصاحبهما من نشاط نقدي فقط. يقول أنور الجندي في كتابه المشار إليه:
"ولقد كان هذا هو أبرز جوانب المعارك الأدبية التي يمكن القول إنها درات حول "مفاهيم" الثقافة والفكر والحضارة والأدب، في خلال أربعة تيارات واضحة هي المحافظة، والتجديد، ثم التغريب، والعودة إلى الأصالة، وقد دلت هذه المعارك على يقظة المحافظين وما أسموا دعاة القديم، فقد هبوا عندما قاوموا تمصير اللغة العربية أو مذاهب التجزئة والقوميات الضيقة أو الفرعونية أو الفينيقية أو غيرها، أو الشعر الجاهلي أو آراء التغريب أو الإلحاد أو التهوين من شأن الدين في المجتمع أو الفكر أو فضل العرب على الحضارة، وقد كانوا أصدق إيمانًا وأقرب إلى الحق وأبعد عن الانحراف".
وتبدو هنا حماسة أنور الجندي للتيار التقليدي المحافظ، وقد كان هو ذاته واحدا من أبرز ممثلي هذا التيار، وإن كان في بداياته أكثر انفتاحا وتسامحا وكان إنتاجه يتسم بالأصالة والغزارة، أما في عقوده الأخير (من السبعينيات تحديدا) فقد تحول تحولا كبيرا ناحية تيارات الإسلام السياسي، وتوظيفها الفج لكل إسهام فكري أو ثقافي أو أدبي لخدمة أهدافها أو معاداة خصومها وتشويه أفكارهم بل تشويه منتجي هذه الأفكار أنفسهم في واحدة من أشرس وأعنف المواجهات التي انتهت بالدم والاغتيال في حق كتاب ومفكرين ومبدعين.
من بين أهم مظاهر النهضة الأدبية الحديثة في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ما كان يطلق عليه "المعارك الفكرية" وهي لون من النشاط الفكري والمعرفي والثقافي كان يقع مراوحة بين الحوار الهادئ والأخذ والرد العابر مرورا بإثارة قضية يختلف حولها الكتاب والمفكرون والأدباء لأسباب فنية أو سياسية أو أيديولوجية وليس انتهاء باندلاع المعارك المشتعلة العنيفة الصاخبة التي كانت تصل في أحيان غير قليلة إلى الاشتجار اللفظي العنيف والهجاء الحاد والسباب المذموم!
لكن في النهاية وفي كل الثقافات والأمم ينقشع غبار المعارك وتخبو نيرانها ولا تبقى منها إلا قيمتها التاريخية أو الأدبية أو الجمالية التي يمكن اعتبارها في ذاتها دليلا على حيوية الثقافة وتجددها وتطلعها إلى النهوض والمجاوزة والبحث عن الجديد دائما. كما يمكن اعتبارها من ناحية أخرى جزءا مهما من تاريخ الثقافة وتاريخ الأدب، بما يتمخض عن هذه المعارك من مواد وفصول ومقالات تمثل ذخيرة أدبية وفنية وفكرية لا تقدر بمال.
- 2 -
وطيلة الفترة من الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وحتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين، كانت المجلات الأدبية والثقافية الكبرى مثل "الرسالة" و"الثقافة" و"السياسة الأسبوعية"، وغيرها، فضلا على الصحف اليومية، والمجلات الدورية.. إلخ، كانت هذه الدوريات هي ساحة المعارك ومبارز الأدباء والكتاب، ومن يعود إلى صحف ومجلات هذه الفترة لا يكاد يخلو عدد واحد منها من إثارة لقضية أو مناوشة بين كاتبين أو معركة حقيقية بين علمين كبيرين أو ناقدين أو أكثر.
وكم حملت لنا صفحاتُ مجلة (الرسالة) العريقة لصاحبها أحمد حسن الزيات معارك ومساجلات ومناجزات هي التوثيق اليومي والسجل التاريخي لحركة الفكر العربي الحديث وتطوره، خاصة في جانبه الأدبي والنقدي، ومنهما إلى قضايا التجديد والإصلاح والنهوض بالمجتمع ككل.
وتكاد (الرسالة) تحظى بنصيب الأسد من تسجيل هذه المعارك، فعلى صفحاتها تعارك طه حسين والعقاد، وطه حسين وزكي مبارك، وهاجم علي الطنطاوي الشيخ أمين الخولي وتلميذه محمد أحمد خلف الله، وعلى صفحاتها تساجل مصطفى صادق الرافعي وسعيد العريان ومحمود شاكر وغيرهم مع تيار المجددين أو المحدثين.
- 3 -
وعلى المستوى الأدبي والنقدي، على سبيل المثال، فقد أفاد الأدب العربي الحديث، خاصة في أدوار النشأة وتجديد الأنواع الأدبية، واستقبال الأنواع المستحدثة، إفادة عظيمة وهائلة من هذه المعارك والخصومات العنيفة التي اندلعت بين أعلام ونجوم النهضة الحديثة وما أكثرهم وما أهم وأبرز ما قدموه للأدب العربي والثقافة العربية، شخصيات بقيمة وإنجاز طه حسين، والعقاد وأحمد أمين، ومحمد حسين هيكل، والشيخ علي عبد الرازق، والشيخ مصطفى عبد الرازق، والشيخ أمين الخولي، والدكاترة زكي مبارك، ومصطفى صادق الرافعي، وإبراهيم المازني، وعبد الرحمن شكري، وعلي الطنطاوي، وسلامة موسى وتوفيق الحكيم، وأنور المعداوي، وسيد قطب.. إلخ، وغيرهم الكثير من رواد النهضة الأدبية العربية الحديثة في مصر والشام وفي عموم العالم العربي، وأعطته حيوية وتشويقا نفتقدهما اليوم في حياتنا الثقافية العربية.
يقول أنور الجندي في كتابه التوثيقي عن «المعارك الأدبية» "تمثل "المعارك الأدبية" قطاعًا حيا من قطاعات الحياة الفكرية في الأدب العربي له خطورته وأهميته في مجالات النثر والشعر واللغة العربية والقومية العربية، ومفاهيم الثقافة ونقد الكتب.
وقد دارت هذه المعارك بين المحافظين والمجددين، ثم درات بين المجددين أنفسهم، متطرفيهم ومعتدليهم، وقد انتظمت موضعين مهمين: معركة مفاهيم الثقافة، ومعركة مفاهيم الأدب، وكان أبرز أعلامها في معسكر المحافظين أحمد زكي باشا، ومحمد فريد وجدي، ومصطفى صادق الرافعي، ومحمد أحمد الغمراوي، وشكيب أرسلان، ورشيد رضا. وفي معسكر المجددين: عباس العقاد، وعبد القادر المازني، وزكي مبارك، ومحمد حسين هيكل، وطه حسين، وسلامة موسى".
- 4 -
ورغم أهمية هذا الجانب وحيويته ومركزية أدواره في حركة الأدب العربي الحديث وتطوره، فإن موضوع المعارك الأدبية والفكرية في الأدب العربي لم يشغل حيزا كبيرا من نشاط التأليف والكتابة والتأريخ لهذا الأدب وهذه الثقافة. باستثناء عدد من الكتب التي تعد على أصابع اليدين، لا كتاب شامل ولا تاريخ متكامل لصيرورة هذه المعارك وتفاصيلها ينظِّر لها، ويؤرخها ويؤرشفها ويضعها بين أيدي الدارسين والباحثين والمهتمين عمومًا.
من بين أهم الكتب التي تصدت لموضوع المعارك الأدبية، كما أشرنا قبل قليل، كتاب أنور الجندي «المعارك الأدبية»، الذي كان من أسبق هذه الكتب ظهورا، وهناك كتاب آخر بالعنوان ذاته للكاتب والأديب طاهر الطناحي، أحد نجوم الكتابة الصحفية والأدبية في الهلال وغيرها من صحف ودوريات تلك الفترة.
أيضا من الكتب المهمة على صغر حجمه، كتاب الناقد والمؤرخ الأدبي الراحل علي شلش «اتجاهات الأدب ومعاركه في المجلات الأدبية» الذي صدر في تسعينيات القرن الماضي عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
ويكاد يكون كتاب الفنان التشكيلي والكاتب سمير غريب «حيوية مصر ـ المعارك الفكرية في النصف الأول من القرن العشرين» خاتمة هذه الكتب التي أولت اهتمامها برصد وتوثيق جانب من هذه المعارك؛ إما من جهة الأعلام الذين خاضوا هذه المعارك، وإما من جهة القضايا والموضوعات التي ثارت حولها المعارك.
- 5 -
ولا يتسع المقام لتفصيل يحتاج إلى مجلدات لاستيفائه، لكن تكمن الإشارة إلى أمثلة ونماذج لهذه المعارك التي لم تترك موضوعا أو فكرة أو مفهوما أو كتابا أو نقدا... إلا وناوشته، أو حامت حوله، أو اتخذت منه غذاء ووقودا لاستمرارها واتصالها واتساع دائرتها.
يمكن القول إنه منذ الشيخ حسن العطار وتلميذه النجيب رفاعة الطهطاوي وبيئة العلماء وشيوخ الأزهر التي كانت تمثل البيئة التقليدية لحركة الفكر والأدب والثقافة كانت هي المهاد الأول للمعارك والمنازعات الفكرية والأدبية وإن كان معظمها يدور في فلك الثقافة الدينية التقليدية، وعلوم الثقافة العربية الموروثة فلم يكن من بينها ما يشير إلى انتقالة كبيرة على مستوى الفكر أو التجديد الأدبي.
لكن مع ظهور الصحافة الحديثة والمطبعة، والمجلة، ودفع عجلة الترجمة، والاتصال بروافد الثقافة الغربية، ثم بعد ذلك نشأة الجامعة الحديثة (الجامعة الأهلية، التي ستصير فيما بعد الجامعة المصرية) كل هذه العوامل بالإضافة إلى سياق ومناخ فكري وثقافي كامل، شهد ظهور أفكار جمال الدين الأفغاني وتلميذه المصلح المجدد الشيخ محمد عبده، كل هذا أثمر في النهاية عن حركة فكرية وثقافية ناهضة، وبدأ ظهور الرأي والرأي الآخر، والاتجاه إلى آفاق أخرى غير آفاق التقليد والنقل، فظهرت حركة إحياء التراث، وظهر الاتجاه التجديدي الذي استقى أفكاره ومحدداته النظرية من الاحتكاك بالثقافة الغربية ومؤسساتها ونظمها.. إلخ. كل هذا أثمر في النهاية معارك فكرية وأدبية شديدة الخصوبة والغنى، ومثلت في مجملها نبض هذه الثقافة وحيويتها.
- 6 -
في الفترة من الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، كانت المعارك ذات طبيعة فكرية أكثر من كونها "أدبية" أو يمكن القول إن صفة أدبية هنا تتسع لتشمل الفكري والثقافي معا، وليس بمعنى الاقتصار على فنون القول الشعري والنثري وما يصاحبهما من نشاط نقدي فقط. يقول أنور الجندي في كتابه المشار إليه:
"ولقد كان هذا هو أبرز جوانب المعارك الأدبية التي يمكن القول إنها درات حول "مفاهيم" الثقافة والفكر والحضارة والأدب، في خلال أربعة تيارات واضحة هي المحافظة، والتجديد، ثم التغريب، والعودة إلى الأصالة، وقد دلت هذه المعارك على يقظة المحافظين وما أسموا دعاة القديم، فقد هبوا عندما قاوموا تمصير اللغة العربية أو مذاهب التجزئة والقوميات الضيقة أو الفرعونية أو الفينيقية أو غيرها، أو الشعر الجاهلي أو آراء التغريب أو الإلحاد أو التهوين من شأن الدين في المجتمع أو الفكر أو فضل العرب على الحضارة، وقد كانوا أصدق إيمانًا وأقرب إلى الحق وأبعد عن الانحراف".
وتبدو هنا حماسة أنور الجندي للتيار التقليدي المحافظ، وقد كان هو ذاته واحدا من أبرز ممثلي هذا التيار، وإن كان في بداياته أكثر انفتاحا وتسامحا وكان إنتاجه يتسم بالأصالة والغزارة، أما في عقوده الأخير (من السبعينيات تحديدا) فقد تحول تحولا كبيرا ناحية تيارات الإسلام السياسي، وتوظيفها الفج لكل إسهام فكري أو ثقافي أو أدبي لخدمة أهدافها أو معاداة خصومها وتشويه أفكارهم بل تشويه منتجي هذه الأفكار أنفسهم في واحدة من أشرس وأعنف المواجهات التي انتهت بالدم والاغتيال في حق كتاب ومفكرين ومبدعين.