حين شاهدت المتطرّف الذي قام بحرق المصحف أمام الجامع الكبير في ستوكهولم في مقطع فيديو، يستنجد بالسلطات السويدية لحمايته، خائفا، لم أستغرب ذلك، فقد «ذهبت السكرة وعادت الفكرة» ورأى ما جنت يداه، من عبث بالمقدسات، فالنار التي أشعلها في المصحف الشريف امتدت لتلتهم أمنه الشخصي.

هذا الخوف ذكرني بمسرحية الكاتب الروسي جريجورى جورين «انسوا هيروسترات» التي قرأتُها في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، بعد أن شاهدتها على مسرح الرشيد ببغداد، في عرض من إخراج الراحل المنصف السويسي تحت اسم آخر هو «من أين جاءت هذه البلية؟» ويبدو أن السويسي غير العنوان لأن فيه يكمن واحد من فخاخ النص الذي يتحدّث عن واحد من المهووسين بحب الظهور، ولو على حساب النيل من المقدسات، فقام بحرق معبد «ارتميدا» الذي كان يعد من عجائب الدنيا، فألغى السويسي اسمه، لكي لا يكرسه، فيأتي بنتيجة عكسية، كما جرى في أحداث المسرحية التي تتحدث عن تاجر مغمور اسمه «هيروسترات» عاش في القرن الرابع قبل الميلاد «تحديدا في سنة 365 ق.م» في مدينة أيفيس الإغريقية، وحين فشل في لفت أنظار الناس من خلال أعماله، وإنجازاته، قرر أن يلفت أنظارهم بطريقة ثانية، عندما يمس مقدساتهم، فقدحتْ في ذهنه فكرة أن يقوم بإحراق معبد المدينة، ونفّذها، وخلال قيامه بعملية الحرق صاح بأعلى صوته: «أنا هيروسترات .. أنا من أحرق المعبد.. احفظوا اسمي»، فلم يكن يهمه أيُّ شيء سوى إرضاء غرور ذاته المريضة، السادية، فهو يقول «اليوم يلعنني الناس وغدا يحبونني لأنني تحدّيتُ الآلهة»، وحين شاهد الناس النيران وهي تلتهم المعبد، هجموا عليه، ولكن الشرطة خلّصته من غضبهم، وحول للمحاكمة التي حكمت عليه بالإعدام، ولكي يحرمه الحاكم من بلوغ هدفه أصدر أمرا بنسيان اسمه، وتجاهله تماما، محذرا من الإشارة إليه، فصار الجميع في المدينة ينادي «انسوا هيروسترات.. انسوا هيروسترات» وبدلا من نسيانه، انتشر اسمه في المدينة، والبعض رأى أنه جريء، لكن الكاتب تسلل إلى أعماقه وأظهر خوفه، يقول هيروسترات «في المرة الأولى خفتُ حين فكرت بما فعلت، والثانية خفتُ في المعبد حين أرقتُ القطران على الجدران، وكان خوفا أقوى من الخوف الأول، والمرة الثالثة خفتُ أكثر بعد أن هجم الناس ورأيتُ الرعب بعيون الأطفال والنساء والرجال الذين جاءوا لإنقاذ المعبد. كان خوفا من الناس والآن أنا خائف من الموت»، تماما كما ظهر المتطرّف الذي حرق المصحف الشريف في ستوكهولم في ذلك المقطع، خائفا، رغم أنه كان يتمتع بحراسة أمنية، وقام بفعلته تحت أنظار الشرطة السويدية، التي منحته الموافقة، بدعوى حماية «حرية التعبير» تلك «الحرية» تتباهى بها السويد البعيدة عن الأزمات، لافتة إليها أنظار العالم، مثل حفيد «هيروسترات» الذي أعلن قبل ذلك بيوم عبر حسابه في «اليوتيوب» أنّه سيفعل فعلته دون أن يطرح رأيا قائما على فكرة أو مبدأ، يبيّن به سبب قيامه بها، وليس هناك سوى إظهار الذات بالنيل من المقدس، في عمل مشين مسّ مشاعر ملياري مسلم في أنحاء العالم.

هذا النموذج يتكرر في كل عصر، وخاصة في عصرنا الذي صارت به شبكات التواصل «أفقا مفتوحا للحمقى حسب وصف الكاتب الإيطالي امبرتو إيكو كونها «تمنح حقّ الكلام لجيوش من الحمقى» وقد كشفت وسائل التواصل الاجتماعي عن الكثير من هؤلاء، الذين لا يهمهم سوى «الترند»، ورفع سقف المتابعة، وزيادة عدد المتابعين، ومن المفارقات أن هذا الشخص يعرف نفسه بحسابه باليوتيوب «مفكر وكاتب ملحد تنويري ثائر على كل شيء في الحياة» وهو تضخيم للذات، وادّعاء لا يوجد ما يدعمه، فليس له أيّ كتاب، ولا هو في العير ولا النفير، أما «ثورته على الحياة» فإذا كانت بمثل هذه الأفعال، فهي ليست ثورة، بل فوضى وزوبعة في فنجان مهشم.

إن البحوث والدراسات النفسية تؤكد أنّ المتطرفين يعانون من مشاكل نفسية وعقلية، ويحتاجون لعلاج نفسي، يؤهلهم اجتماعيا أكثر من أي عقوبة أخرى، ومن الجميل، أن نرى هذه الوقفة المضادة للدول والمنظمات العالمية والهيئات الدولية والشعوب، وسيبقى القرآن الكريم محفوظا بعناية الله تعالى «إنا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون»، فحتّى الكعبة المشرّفة لم تسلم من الهدم، لكنها بقيت محاطة بأنوار قدسية، ورعاية إلهية، وستبقى إلى قيام الساعة بإذنه تعالى، أما المتطرّفون المهووسون بذواتهم المريضة فسيذهبون إلى مزبلة النسيان.

عبدالرزاق الربيعي كاتب وشاعر عماني ونائب رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي