مقالي هذه المرة ليس عن شؤون الموسيقى والغناء بشكل مباشر، ولكن زيارتي للأخ والصديق أحمد بن سعيد الكثيري أبي صقر، والتجول في مزرعته العامرة وهو الشاعر الغزلي صاحب النصوص الرقيقة والرائعة والذي لا صلة له بشؤون الزراعة سبب في إعداد هذا المقال. فقد غامر الشاعر المزارع مغامرة عظيمة بالتوجه للزراعة في جبل جحنين بريف صلالة، ونجح نجاحا باهرا رغم التحديات. والشيء المذهل في تجربة أبي صقر الزراعية تمكّنه من زراعة مئات الأشجار الاستوائية محلية وآسيوية وأفريقية وأمريكية جنوبية وأصنافها المثمرة، ولعل واحدة من هذه الأشجار مانجو نادرة عرّفها بأنها الأغلى في العالم، والذين نجحوا في زراعتها في بلدانهم ــ كما يقول ــ أطلقوا عليها تسميات محلية، ولما نجح هو في إنبات عدد منها أطلق عليها «مانجو طفول» الاسم المميز للإناث في ظفار.

اهتمت بعض وسائل الإعلام المحلية والأجنبية بالحديث عن هذه التجربة الزراعية، ونُشر عنها العديد من مقاطع الفيديو على اليوتيوب، والشاعر المزارع يستقبل الكثير من الشخصيات الرسمية من سلطنة عمان وخارجها للاطلاع على تجربته، وقدم بعضهم وعودا بشأن الاستثمار في المزرعة وتطويرها.

مزرعة أبي صقر نموذجية بكل معنى الكلمة ويمكن تعميمها في جبال ظفار وسهولها، فالمياه متوفرة وتجري للبحر في بعض الأماكن دون استغلال لها، وللأسف بعض الناس غادرت هذه الجبال نحو المدن الساحلية. ولكن نجاح هذه الأنواع من المزروعات ربما يشجع الناس للعودة إلى ديارها القديمة لزراعتها وإنتاج أفضل المحاصيل وإنشاء ثقافة جديدة تعتمد على الزراعة ورعي الماشية ذات المردود الاقتصادي، وربما إعادة أداء أغاني الحصاد والحياة الثقافية التقليدية أو ابتكار أنماط موسيقية جديدة وإنشاء المسارح والمراكز الثقافية ذات يوم على هذه المروج الخضراء تلبية لحاجة سكانها.

أبو صقر الشاعر يصف نفسه « بالمتناقض» بسبب تعدد المجالات التي عمل فيها ولا صلة لها ببعضها، فهو من الناحية العلمية حاصل على بكالوريوس في تخصص علم النفس، ولكنه عمل مدة طويلة في الإذاعة محررا إخباريا ومعدا للبرامج ثم رئيس قسم الرصد. وفي الوقت نفسه هو عسّال معروف وينتج العديد من أجود أنواع الأعسال في المنطقة، وهو كذلك شاعر موهوب له العديد من النصوص التي غناها بعض المطربين في ظفار مثل الفنان سالم بن علي سعيد، ومدين مسلم، ومحسن الفقيه، ولكن نجاحاته الأكثر شهرة كانت في الزراعة التي بدأها دون علم بها أو تعليم لها.

ومن نصوصه التي كنت قد لحنتها له نص ظريف كتبه الشاعر منذ فترة طويلة يجاري فيه المثل القديم المعروف: «يستاهل البرد من ضيع دفاه»، ولكن سأختار نصا آخر غناه الفنان سالم بن علي سعيد (رحمة الله عليه) بعنوان: «مساء الخير»، أعتقد أن محبي أبي هشام وهم كثر قد سمعوه بصوته وبعزفه المميزين. لحن أغنية «مساء الخير» من مقام البياتي وهو واحد من أبرز المقامات التي صنع عليها أبو هشام ألحانه الجميلة، والظريف في لحنه هذا قفلته الغنائية غير المعتادة بصيغة السؤال على ثالثة المقام. أما الضرب الإيقاعي فهو «إيقاع السارع» كما يسمونه في اليمن، «والصنعاني» حسب تسميتنا المحلية، وهذا الضرب الإيقاعي اتبع فيه العوديون أسلوبا خاصة في نقر الريشة واضح جدا في أسلوب عزف أبي هشام. وهنا بعض أبيات الأغنية (مع بعض التصرف):

مساء الخير يا أغلى حبيب.. مساء الخير يا شبه الملاك

سواء إنك بعيدا أو قريب.. حبيبي ربنا يسعد مساك

شوف الشمس عانقها المغيب.. وقد طل القمر يضوي سماك

كذا سحر المساء كم هو عجيب.. إذا النسمات هبت من قداك

ملأت الكون شذا عطرا وطيب.. وليل الأنس كم يحلو معاك

حبيبي بسمتك أفضل طبيب.. تبسم خلنا أفرح معاك

أتذكر أننا في هذه الجبال الخصبة كنّا نعيش على زراعة موسمية لبعض الحبوب وقليل من المحاصيل الخضرية، ومعظم المواد الغذائية نحصل عليها من صلالة المدينة بعضها محلي المصدر وأخرى تأتي من خلف المحيط، وقد عانت الناس كثيرا بسبب عدم الاهتمام بالزراعة في هذا الريف الذي يغلب على نشاط أهله رعي الماشية، وأجزم أنه لو كانت عناية أكبر بالزراعة في الجبل أو السهل ما كانت الناس تحتاج أن تستورد غذاءها الأساسي من الخارج لا قديما ولا حديثا. من هنا سيكون من المفيد استغلال هذه المزرعة وتجربة صاحبها في تعليم الطلاب والتثقيف الزراعي العام وإحياء هذا النشاط وتنميته.

مسلم الكثيري موسيقي وباحث