يعرف محبو أسطورة كرة القدم الأرجنتيني دييغو مارادونا أنه طالب عام 2005 بطرد الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن من قمة الأمريكتين التي كانت تستضيفها الأرجنتين آنذاك، احتجاجًا على جرائمه في العراق، ويعرف المعجبون بالفيلسوف الألماني مارتن هايدغر وصمة النازية والعلاقة بهتلر التي ظلت تطارده حتى وفاته. أنطلق من هذين المثالَيْن لأتحدث عن نظرة التعالي التي يرشق بها عدد غير قليل من المثقفين، كرةَ القدم ونجومها، معتبرين إياهم بأنهم يقدمون قدوة سيئة للشباب. بل إن توفيق الحكيم - الأديب المصري المعروف- اتّهم لاعبَ الكرة بأنه «يفكّر بقدمه» في مقابل الأديب الذي «يفكّر بقلمه».

وإذا كنتُ لا أماري مطلقًا أن المثقف - أديبًا كان أو باحثًا أو أكاديميًّا - هو المعوّل عليه في بناء أي أمة، فإني أؤمن أيضًا أنه فيما يخص القدوة الحسنة فإنه ليس كل مثقف يصلح أن يكون قدوة، وليس كل لاعب لا يصلح أن يُحتذى به. والواقع أن كثيرًا من المثقفين ينطلقون في هجومهم على لاعبي الكرة من كونهم -أي اللاعبين- «فارغي الرؤوس، ويفعلون كيت وكيت، ولا هدف لهم في الحياة إلا جمع الأموال من ركلهم للكرة، إلخ»، في حين أن هناك أدباء ومثقفين كثرًا تنطبق عليهم هذه الصفات، وربما أشد منها.

والحقيقة أن هجوم المثقفين على لاعبي الكرة يمكن أن يندرج في خانة الحسد من جهة، وغرور المعرفة من جهة أخرى، وإلا فإنه ليس كل لاعب كرة سطحيَّ التفكير، ولا كل أديب له مؤلفات عميقَ الرؤية وذا ثقافة. المسألة لا علاقة لها بالقدم أو القلم، بل بالموهبة؛ هذا أعطاه الله موهبة اللعب، وذاك أعطاه موهبة الكتابة، أما التصرفات خارج هاتين الموهبتين فإنها تنطبق على أي من الفريقين؛ فإذا كان أندرو هول لاعب نادي ستوك سيتي الإنجليزي قد قتل صديقته بسبب غيرته، فإن الكاتب الهولندي ريتشارد كلينهامر قتل زوجته ليكتب رواية!، بل إننا نجد أحيانًا موقف اللاعب الأخلاقي متفوّقًا على موقف المثقف؛ كما رأينا في مثال مارادونا وهايدغر.

وإذن؛ فإن نجوم الكرة مثل نجوم السياسة أو الاقتصاد أو الفن أو الأدب، فيهم الجيد الذي يصلح أن يكون قدوة، وفيهم السيئ الذي لا ينبغي الاقتداء به. في النوع الأول سأضرب مثالًا اللاعب الإنجليزي ماركوس راشفورد، نجم نادي مانشيستر يونايتد، الذي اشتهر بمبادراته الخيرية الكثيرة، لا سيما في فترة جائحة كورونا سنة 2020م، فعلى الرغم من تخفيض راتبه في النادي بسبب الإغلاق وتوقف اللعب إلا أن أعماله الخيرية لم تتوقف، فعمل على جمع عشرين مليون جنيه استرليني خُصِّصَتْ للأطفال الفقراء في بريطانيا. ولم يكتف بذلك وإنما شنّ حملة كبيرة في حسابه على تويتر ضد قرار الحكومة البريطانية في ذلك العام (2020م) وقْفَ دعم الأطفال الفقراء مع نهاية العام الدراسي، بحجة عودة الحياة بشكل تدريجي إلى طبيعتها بعد رفع الإغلاق، وقد أدتْ حملته إلى تراجع الحكومة البريطانية عن قرارها، وبسبب أعماله الخيرية الكثيرة منحته جامعة مانشيستر درجة الدكتوراه الفخرية. إن لاعبًا كهذا يستحق بلا شك أن يكون قدوة للأجيال الصاعدة.

في المقابل، فإن ثمة لاعبين لا يصلحون لأن يكونوا قدوة أو مثالًا يُحتذى، منهم مثلًا رونالدينيو، اللاعب البرازيلي الذي يعد أحد أكثر اللاعبين موهبة في تاريخ اللعبة، لكن موهبته لم تستمر طويلًا لأنه استمرأ حياة الليل واللهو واستهان بصحته التي هي عُدَّتُه للعب، ومنهم الإسباني جيرارد بيكيه الذي صارت خيانته لشريكة حياته المطربة الكولومبية شاكيرا على كل لسان، بل وأغنية تُغنّى، وغطت على كل تاريخه في اللعب مع ناديه برشلونة.

من هنا نُدرك أنه يمكن للاعب أن يكون قدوة حسنة أو سيئة، مثله مثل أي محامٍ أو طبيب أو مهندس أو فنان، وأن التأثير الحسَن للاعب على عامة الناس مرتبط كثيرًا بسيرته الحسنة خارج الملعب، جنبًا إلى جنب مع سيرته داخله. وبتنا نعرف أنه بمجرد أن يقضي لاعب محبوب إجازته في مكان ما من العالم فإن هذا المكان سيتصدّر عناوين الصحف والمجلات والقنوات الإذاعية والتلفزيونية، حتى وإن لم يقصد اللاعب الدعاية له. لنتأملْ مثلًا كيف أصبحت غرفة ميسي في جامعة قطر التي سكن فيها أثناء مونديال 2022م مزارًا سياحيا. ولننظر كيف قفزت مبيعات كتاب «فن اللامبالاة» لمارك مانسون إلى مستوى خرافي لمجرد أن صورة ظهرت للاعب المصري محمد صلاح وهو يقرأه!.

خلاصة القول؛ القدوة - حسنة كانت أم سيئة - مرتبطة بتصرفات الإنسان، بغض النظر عن مهنته أو وظيفته أو جنسيته، فيمكن أن نجد القدوة الحسنة في صاحب القلم الذي يكتب الحِكَم، ويمكن أن نجدها في صاحب القدم التي تركل الكرة.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني