يستوطن القناع مكانته في الذاكرة الاجتماعية؛ بتسميته المحلية في السلطنة بـ «البرقع» كأحد الصور النمطية التي اعتاد عليها الفرد في أي مجتمع، ولذلك قد لا يثير لبسه في لحظة ما ذلك الاستغراب الكبير، فهو ضمن المدلولات الاجتماعية المتعارف عليها كلباس، ومع ذلك؛ فقد تنتقل هذه الصورة النمطية المتعارف عليها إلى مجموعة من المفاهيم، ويكون لها وزن معنوي، ويكون لها تأثيرات ملموسة على الواقع، وخاصة عندما تكون هذه التأثيرات سلبية، حيث تنتقل من الصورة إلى الفعل، وهنا يتجاوز مفهوم الأقنعة البعد المادي الملموس؛ الذي يعرفه الجميع؛ والذي يستخدمه مجموعة من الناس، إما لغرض اللباس لتغطية الوجه، كما هو الحال كلباس للنساء، عند بعض الشعوب، أو يرتديه من هم على خشبة المسرح لتأدية مقطع مسرحي معين، أو لغرض الفكاهة والتندر كما هو الحال في المهرجانات لبث مزيد من البهجة والسرور، وخاصة للأطفال الذي يجرون وراء أولئك المقنعين بأشكالهم الـ «كرنفالية» المضحكة - فعلى سبيل المثال - «سلبت الأقنعة ألباب جماهير بالي منذ القرن السابع عشر، شأنها كشأن الأزياء المنسقة والموسيقى الهادئة والحركات المتقطعة (...) وتحكي القصص (...) تاريخ أهالي جزيرة بالي، ولا تتغير الشخصيات أبدا: فمظهرها وحركاتها وأدوارها، وحتى الترتيب الذي تظهر به تظل كما هي» -مجلة ناشيونال جرافيك العربية؛ أبريل: 2023م- والرؤية تتسع كثيرا في هذا الاتجاه (الاستخدام المادي للأقنعة) وفي حالتها الشائعة هذه لا تقدم جديدا، ولا تثيرا استغرابا، ولا توجد مساحة للأسئلة، فكل ذلك معاش على امتداد أعمار المجتمعات، والقيم، والتقاليد، وعند كل شعوب الأرض بلا استثناء، فأينما يممنا وجوهنا نحو المشرق أو المغرب، فهناك ثمة زاوية ما نجد فيها من يتقنع، بلباس، أو بقطعة قماش، أو قطعة مصنوعة من مواد مختلفة، وقد تضاف إلى بعضها الألوان الزاهية، وبعضها الآخر تضاف خيوط متدلية، أو أشكال شتى من المصنوعات الصغيرة، وكل ذلك يخدم هدفا ما؛ يعرفه صانع القناع، أو ما هو متعارف عليه في ذلك الوسط الاجتماعي المخضب بقيمه، وعاداته، وتقاليده، حيث لا شيء عبث على الإطلاق، ولكن ما يتفق عليه في كل هذه الأشكال والتصاميم لهذه الأقنعة أنها تخفي شيئا وراءها، لا تريد أن تفصح عنه، سواء كان عيبا خلقيا، أو عيبا اجتماعيا، أو ضرورة دينية، أو تشبيها بشخصية مشهورة، أو لإضفاء مزيد في اتساع الرؤية البصرية، لأن الأجسام أو الأجساد الطبيعية لن تلفت النظرة الخاطفة التي يسقطها الزمن في حينها على أي شيء طبيعي؛ إلا إذا خرج عن طبيعته المعروفة.
تذهب المناقشة هنا أكثر؛ إلى البعد الرمزي للقناع، وما أكثر الأبعاد الرمزية للأقنعة التي يتقنع بها البشر سواء على المستوى الفردي، أو المستوى الجماعي، حيث تختلف الوسائل، والممارسات، عبر مقاصد كثيرة، معلنة وغير معلنة، معروفة وغير معروفة، موجهة أو غير موجهة، ومن أمثلة ذلك لا الحصر: الكذب، النفاق، التحايل، الخيانة، الموهبة اللفظية «قوة الحجة» الواسطة، الوجاهة، الشهادات العلمية المغشوشة، الحروب بالوكالة، التمظهر غير الحقيقي، أو المتجاوز في حدوده المقبولة، وفي كل أحوال الأقنعة الرمزية هناك هدف يسعى لتحقيقه من قبل متبني القناع الرمز، صحيح أن الفاصل بين القناعين المادي والرمزي دقيق جدا أو متقارب إلى حد كبير من جهة الهدف، إلا أن ما يميز القناع الرمزي أنه غير مرئي، وغالبا؛ ما ينبئ عن مجموعة الخبائث والخطط السيئة المتخفية خلفه، فليس هناك قناع رمزي آت لخدمة البشرية «لوجه الله» وإنما لا بد أن يدس بين جنباته سموما يود تصديرها إلى الطرف الآخر، سواء أدرك الطرف الآخر ذلك، وعمل لما قبل إسقاط الفعل على الواقع، أو لم يدرك؛ وأوقع نفسه في مصيدته، أو أخذ على حين غرة، مع أن مجمل الأقنعة الرمزية تعرف من أول وهلة، بحكم الخبرات وتكرار تجارب الحياة التي يمر عليها الإنسان، فلم تعد الأقنعة الرمزية مخفية على أحد، أو لا أحد يعرف مراميها، ومقاصدها، وما سوف تؤول إليه من نتائج كارثية، ولعل أكبر الأقنعة وأشهرها على الإطلاق هو النفاق المستفحل سلوكا وتوظيفا في كل مشاريع الحياة اليومية، وهو المعايش بصورة يومية لا يكاد موقف يخلو منه؛ إلا في حالات نادرة تصفو فيها النفوس؛ حيث لا ترى في الآخر إلا شريكا طيبا آمنا «لا يصطاد في الماء العكر» ومع ذلك تبقى الأقنعة الرمزية تحديا غير منكور لتجدد الوسائل والممارسات التي يأتي بها البشر للوصول إلى أهدافهم، ولذلك فكثيرا مما نقع في مصيدة ما لم نحسب لها حساب الوقيعة، لاطمئناننا إلى الطرف الآخر، وهو الاطمئنان الذاهب إلى مفهوم «الدنيا لا تزال بخير» حيث يوقعنا الآخر في هذه المصيدة.
يشير العنوان إلى أن هناك زمنا مسروقا لصالح حاضنة الأقنعة؛ في بعديها المادي والرمزي؛ فالأقنعة تتيح اختصار المسافات الزمنية للوصول إلى الهدف، وذلك لأن الرؤية المباشرة للجسد، أو للفعل المتقصد من ورائه تحقيق هدف ما لمن في نيته التقنع أن يصل إلى (هدفه/ أهدافه) بتلك السرعة المتوقعة، وقد لا يجد أصلا من يصغي إليه لأن الأهداف تكون واضحة، أو تكتشف بسرعة حركات الجسد، أما في حالة التقنع بأي منها، فإن في ذلك اختصارا واضحا لكل دوافع الحذر والتحوط، وإعادة التفكير، والبحث للوصول إلى الحقيقة، حيث يأتي تحقيق المطالب بالسرعة غير المتوقعة إلا في حالات نادرة التي تكون فيها مراجعة لذات الأمر، كأن يصاحب ذلك توجس ما؛ وذلك عندما يثار شيء من الشك وعدم اليقين في مطالب المتقنع، فالمتسول على سبيل المثال: عندما يتقنع بثوب رث ممزق، وحالة يظهر فيها الضعف والانكسار، والعجز، فمبرر تقديم المساعدة له؛ من قبل المتلقي؛ أكثر إقناعا؛ ولا تحتاج إلى كثير من التفكير والتأمل، فمقتضى الحال يغني عن السؤال، وإعادة النظر، فهذه الأقنعة التي استخدمها المتسول لها سرعة البرق في التأثير على قناعات المتلقي؛ التي قد يكون متشددا فيها بعض الشيء، حيث يتجاوز تشدده في تلك اللحظة لدواع إنسانية كما يُقَيِّمُ ذلك في تلك اللحظة الحرجة، بخلاف لما يأتي في ثوب نظيف، ومظهر تبدو النعمة ظاهرة عليه، فقد يساور المتلقي الشك في أن هذا الفرد غير مستحق للمساعدة لما تبدو عليه حالته النضرة، مع أن الحقيقة قد تكون أن ذلك المتقنع بقناع الضعف والفقر غير مستحق للمساعدة، بينما الثاني هو المستحق للمساعدة، وقد يأتي ظالم؛ ولكنه متقنع بأسلوب لفظي يفتح كل الأبواب المغلقة بقوة الحجة المدعومة بالعبارة القاطعة، فيسلب حق المظلوم؛ بينما قد يكون المظلوم على العكس من ذلك تماما، ولذلك جاء في الحديث النبوي الشريف، عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار» متفق عليه - حسب المصدر - وقس على ذلك أمثلة كثيرة في الحياة اليومية، فاستخدام وسائل الأقنعة الرمزية في كثير من المواقف لهدف سلب الضحية أسلوب معروف، وعلى مستويات كثيرة، وحتى على مستوى الأنظمة السياسية التي تكيد بعضها لبعضها الآخر، حيث توظف الكثير من الأقنعة للوصول إلى الأهداف المرسومة من هذه المكيدة أو تلك، ولذلك؛ فليس شرطا من يريد أن يحتل الآخر، وينهب ثروته أن يأتيه بصورة مباشرة؛ حيث يدرك أن ذلك لن يكون أمرا سهلا وميسرا، وإنما سيفكر بألف طريقة عبر أقنعة رمزية يعرف من خلالها أن الطرف الآخر سوف يقع في شرك الخديعة الكبرى، دون أدنى مقاومة، وما الحروب بالوكالة القائمة اليوم على امتداد الكرة الأرضية إلا واحدة من أمثلة كثيرة، تستخدم فيها أقنعة كثيرة إمعانا في الإساءة بصورة غير مباشرة.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
تذهب المناقشة هنا أكثر؛ إلى البعد الرمزي للقناع، وما أكثر الأبعاد الرمزية للأقنعة التي يتقنع بها البشر سواء على المستوى الفردي، أو المستوى الجماعي، حيث تختلف الوسائل، والممارسات، عبر مقاصد كثيرة، معلنة وغير معلنة، معروفة وغير معروفة، موجهة أو غير موجهة، ومن أمثلة ذلك لا الحصر: الكذب، النفاق، التحايل، الخيانة، الموهبة اللفظية «قوة الحجة» الواسطة، الوجاهة، الشهادات العلمية المغشوشة، الحروب بالوكالة، التمظهر غير الحقيقي، أو المتجاوز في حدوده المقبولة، وفي كل أحوال الأقنعة الرمزية هناك هدف يسعى لتحقيقه من قبل متبني القناع الرمز، صحيح أن الفاصل بين القناعين المادي والرمزي دقيق جدا أو متقارب إلى حد كبير من جهة الهدف، إلا أن ما يميز القناع الرمزي أنه غير مرئي، وغالبا؛ ما ينبئ عن مجموعة الخبائث والخطط السيئة المتخفية خلفه، فليس هناك قناع رمزي آت لخدمة البشرية «لوجه الله» وإنما لا بد أن يدس بين جنباته سموما يود تصديرها إلى الطرف الآخر، سواء أدرك الطرف الآخر ذلك، وعمل لما قبل إسقاط الفعل على الواقع، أو لم يدرك؛ وأوقع نفسه في مصيدته، أو أخذ على حين غرة، مع أن مجمل الأقنعة الرمزية تعرف من أول وهلة، بحكم الخبرات وتكرار تجارب الحياة التي يمر عليها الإنسان، فلم تعد الأقنعة الرمزية مخفية على أحد، أو لا أحد يعرف مراميها، ومقاصدها، وما سوف تؤول إليه من نتائج كارثية، ولعل أكبر الأقنعة وأشهرها على الإطلاق هو النفاق المستفحل سلوكا وتوظيفا في كل مشاريع الحياة اليومية، وهو المعايش بصورة يومية لا يكاد موقف يخلو منه؛ إلا في حالات نادرة تصفو فيها النفوس؛ حيث لا ترى في الآخر إلا شريكا طيبا آمنا «لا يصطاد في الماء العكر» ومع ذلك تبقى الأقنعة الرمزية تحديا غير منكور لتجدد الوسائل والممارسات التي يأتي بها البشر للوصول إلى أهدافهم، ولذلك فكثيرا مما نقع في مصيدة ما لم نحسب لها حساب الوقيعة، لاطمئناننا إلى الطرف الآخر، وهو الاطمئنان الذاهب إلى مفهوم «الدنيا لا تزال بخير» حيث يوقعنا الآخر في هذه المصيدة.
يشير العنوان إلى أن هناك زمنا مسروقا لصالح حاضنة الأقنعة؛ في بعديها المادي والرمزي؛ فالأقنعة تتيح اختصار المسافات الزمنية للوصول إلى الهدف، وذلك لأن الرؤية المباشرة للجسد، أو للفعل المتقصد من ورائه تحقيق هدف ما لمن في نيته التقنع أن يصل إلى (هدفه/ أهدافه) بتلك السرعة المتوقعة، وقد لا يجد أصلا من يصغي إليه لأن الأهداف تكون واضحة، أو تكتشف بسرعة حركات الجسد، أما في حالة التقنع بأي منها، فإن في ذلك اختصارا واضحا لكل دوافع الحذر والتحوط، وإعادة التفكير، والبحث للوصول إلى الحقيقة، حيث يأتي تحقيق المطالب بالسرعة غير المتوقعة إلا في حالات نادرة التي تكون فيها مراجعة لذات الأمر، كأن يصاحب ذلك توجس ما؛ وذلك عندما يثار شيء من الشك وعدم اليقين في مطالب المتقنع، فالمتسول على سبيل المثال: عندما يتقنع بثوب رث ممزق، وحالة يظهر فيها الضعف والانكسار، والعجز، فمبرر تقديم المساعدة له؛ من قبل المتلقي؛ أكثر إقناعا؛ ولا تحتاج إلى كثير من التفكير والتأمل، فمقتضى الحال يغني عن السؤال، وإعادة النظر، فهذه الأقنعة التي استخدمها المتسول لها سرعة البرق في التأثير على قناعات المتلقي؛ التي قد يكون متشددا فيها بعض الشيء، حيث يتجاوز تشدده في تلك اللحظة لدواع إنسانية كما يُقَيِّمُ ذلك في تلك اللحظة الحرجة، بخلاف لما يأتي في ثوب نظيف، ومظهر تبدو النعمة ظاهرة عليه، فقد يساور المتلقي الشك في أن هذا الفرد غير مستحق للمساعدة لما تبدو عليه حالته النضرة، مع أن الحقيقة قد تكون أن ذلك المتقنع بقناع الضعف والفقر غير مستحق للمساعدة، بينما الثاني هو المستحق للمساعدة، وقد يأتي ظالم؛ ولكنه متقنع بأسلوب لفظي يفتح كل الأبواب المغلقة بقوة الحجة المدعومة بالعبارة القاطعة، فيسلب حق المظلوم؛ بينما قد يكون المظلوم على العكس من ذلك تماما، ولذلك جاء في الحديث النبوي الشريف، عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار» متفق عليه - حسب المصدر - وقس على ذلك أمثلة كثيرة في الحياة اليومية، فاستخدام وسائل الأقنعة الرمزية في كثير من المواقف لهدف سلب الضحية أسلوب معروف، وعلى مستويات كثيرة، وحتى على مستوى الأنظمة السياسية التي تكيد بعضها لبعضها الآخر، حيث توظف الكثير من الأقنعة للوصول إلى الأهداف المرسومة من هذه المكيدة أو تلك، ولذلك؛ فليس شرطا من يريد أن يحتل الآخر، وينهب ثروته أن يأتيه بصورة مباشرة؛ حيث يدرك أن ذلك لن يكون أمرا سهلا وميسرا، وإنما سيفكر بألف طريقة عبر أقنعة رمزية يعرف من خلالها أن الطرف الآخر سوف يقع في شرك الخديعة الكبرى، دون أدنى مقاومة، وما الحروب بالوكالة القائمة اليوم على امتداد الكرة الأرضية إلا واحدة من أمثلة كثيرة، تستخدم فيها أقنعة كثيرة إمعانا في الإساءة بصورة غير مباشرة.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني