ترجمة - قاسم مكي -

هذا الشهر كان مهمَّا بالنسبة لأرقام التضخم في الولايات المتحدة. فقد حصلنا على تقريرين رئيسيين من مكتب إحصاءات العمل عن أسعار المستهلك وأسعار المنتج. كما صدر تقريران عن توقعات المستهلكين والشركات لمعدل التضخم. في كل هذه التقارير الأربعة تتراوح الأخبار من مقبولة إلى رائعة.

ما زلنا لا نعرف على وجه اليقين ما إذا سيكون بمقدورنا وضع التضخم تحت السيطرة دون انكماش الاقتصاد. الاحتمالات تبدو أفضل.

لكن هل يمكن أن نتبيَّن ذلك بوضوح مما نقلته إلينا الأخبار؟ إجابتي هي بالنفي ليس لأن وسائل الإعلام أخطأت في فهم الحقائق ولكن لأن معظم تغطيتها (بالتأكيد التغطية التي شاهدتها) تشكلت دون مسوّغ بواسطة رقم واحد. إنه بالطبع معدل «التضخم الأساسي» أو التضخم السنوي باستبعاد الغذاء والطاقة. هذا المقياس كان مفيدا في الماضي لكنه صار مضللا في مرحلة ما بعد كوفيد.

على أية حال العديد من التقارير الخبرية التي شاهدتها أوردت شيئا مثل « التضخم الرئيسي تراجع في مايو لكن التضخم الأساسي ظل مرتفعا « عاكسة بذلك الانطباع بأننا ربما لا نحقق الكثير من التقدم في مكافحة التضخم. (التضخم الرئيسي يشمل كل السلع والخدمات في مؤشر أسعار المستهلك بما في ذلك الغذاء والطاقة أما المقياس الآخر وهو التضخم الأساسي فيستبعدهما لأن أسعارهما سريعة التقلب - المترجم).

توضح زيادات الأسعار في العام الماضي أن التضخم العام تراجع كثيرا. لكن جزءا كبيرا من ذلك التراجع يعكس هبوط أسعار البنزين. لذلك مقياس التضخم الأساسي «التقليدي» الذي لا يشمل هذا الهبوط بالكاد تراجع.

لكن أي شخص مُطَّلع ويتابع هذه الأرقام يعرف أن هذه المقارنة لا تقول لنا الكثير عما يحدث بالفعل.

لمعرفة سبب ذلك من المفيد العودة إلى الماضي وإدراك لماذا نحن نتحدث في العادة عن مقياسين مختلفين للتضخم.

في عام 1975 جادل الاقتصادي روبرت جوردون أن من الضروري التمييز بين التضخم المدفوع بالسلع شديدة التقلب في أسعارها كالغذاء والطاقة وما أسماه «التضخم الأساسي الذي يتأثر فقط بالسلع والخدمات الأكثر استقرارا في أسعارها.

مثلا التضخم الناشئ عن ارتفاع أسعار النفط يختفي ويعود بسهولة. لكن التضخم الذي يتسبب فيه ارتفاع الأجور يصعب خفضه. بعبارة أخرى المقياس الذي يستبعد الأسعار الأكثر تقلبا يمكن أن تساعد في التقاط الإشارة من الضجيج (استخلاص المعلومات المفيدة من غير المفيدة).

عمليا، انتهى الأمر ببنك الاحتياط الفدرالي إلى التركيز على مقياس التضخم الأساسي الذي ببساطة استبعد المواد الغذائية والطاقة المشكِّلة تاريخيا المصادر الرئيسية للتقلبات الكبيرة ولكن المؤقتة أو القصيرة الأجل في معدل التضخم.

هذا التركيز كان مفيدا جدا في أعقاب الأزمة المالية. كان هنالك ارتفاع لبرهة وجيزة في التضخم خلال الفترة 2010-2011. وهو ما دفع بعض الناس وأساسا من دوائر اليمين السياسي إلى الشكوى من أن بنك الاحتياط «يحطّ من قيمة» الدولار. لكن البنك تحلَّى بالهدوء وواصل سياسته لأن التضخم الأساسي ظل هادئا وكان البنك مصيبا في ذلك.

إذن الفكرة العامة لاعتماد مقياس التضخم الأساسي واستخدامه لتوجيه السياسة (النقدية) كانت ولا تزال جيدة. لكن المشكلة أن المقياس التقليدي للتضخم الأساسي لم يعد يستخلص الإشارة (المعلومات المفيدة عن التضخم) من الضجيج. بل يضيف إليه.

أحد أسباب ذلك أن الصدمات المؤقتة والكبيرة تأتي الآن من مصادر أخرى خلاف الغذاء والطاقة وأهمها اختلالات سلاسل التوريد التي تقود على سبيل المثال إلى تقلبات ضخمة في أسعار السيارات المستعملة.

بل ما هو أهم أن التضخم الأساسي التقليدي شديد التأثر بسعر المسكن (تكلفة السكن كالإيجارات ومدفوعات قروض الرهونات العقارية) والذي يشكل 40% من المؤشر.

وأهم مكونات تضخم المسكن بدوره هي متوسط الإيجار المدفوع بواسطة المستأجرين وقيمة الإيجار المكافئ للمالك. وهذا الأخير افتراض لما سيدفعه ملاَّك المنازل إذا كانوا هم المستأجرين لها. إنه مقياس مستمد أساسا من متوسط الإيجارات.

لكن هنا المسألة. فمعظم المستأجرين لديهم عقود إيجار لفترات طويلة بعض الشيء بحيث إن متوسط الإيجار الذي يدفعه المستأجرون يتخلف كثيرا عن الإيجارات التي يدفعها المستأجرون الجدد. وهو ما يعكس بدقة أكثر الوضع الحالي للاقتصاد. في الأوضاع العادية هذا ليس شيئا مهما. لكن هنالك ارتفاع هائل في أسعار الإيجارات في الفترة بين عام 2021 وأوائل عام 2022 ربما بسبب تزايد العمل عن بُعد.

هذا الارتفاع في الأسعار تركناه وراءنا الآن. نحن نعرف ذلك من عدد من التقديرات الخاصة لإيجارات السوق. مثلا من شركة «زيلو» للتسويق العقاري بالولايات المتحدة. كما لدينا الآن أيضا بعض الأرقام الرسمية. ويحسب الباحثون بمكتب إحصاءات العمل الأمريكي كلا من متوسط معدلات الإيجار (متوسط تكلفة استئجار عقار في منطقة محددة) ومعدل المستأجرين الجدد (في فترة زمنية معينة).

في الواقع متوسط معدلات الإيجار يهبط. لكن معدل المستأجرين الجدد لا يزال يشهد ارتفاعا رغم أنه أقل كثيرا مما في السابق.

ما يُخبرنا به كل هذا أن مقياس التضخم الأساسي شديد التأثر بالبيانات القديمة جدا (التي لم تعد صالحة). أحدث أرقام التضخم تعود في جزء كبير منها إلى ارتفاع تكاليف المسكن. لكن إيجارات السوق لا ترتفع في الواقع بمعدل 8% سنويا. بل هي إما ثابتة أو أنها تهبط.

شيء آخر إضافي. في الماضي ربما كان من المعقول وضع اعتبار للتغييرات في السنة المنصرمة. لكن بالنظر إلى التقلبات التي يمر بها الاقتصاد مؤخرا هذه الفجوة الزمنية تبدو كبيرة جدا.

البيانات الشهرية غير مستقرة إلى حد بعيد. لذلك يركز العديد من خبراء الاقتصاد الآن على التغييرات التي تحدث خلال ثلاثة أو ستة أشهر. أما أنا فأعتقد حتى بيانات الأشهر الثلاثة ليست دقيقة. لذلك بيانات الستة أشهر أفضل. لكن على أية حال نحن لا نريد التركيز على المعدلات السنوية للتغيير.

إذن على ماذا يجب أن ينصب تركيزنا؟ مقياسي المفضل هذه الأيام هو التضخم «الأساسي جدا» الذي يستبعد كلا من أسعار السيارات المستعملة والمسكن. هذا المقياس يرسم صورة واضحة لانكماش الأسعار والتي ربما ليست هي الصورة التي نحصل عليها من أخبار التضخم الأخيرة.

للإنصاف، مقاييس التضخم الأخرى أقل وضوحا. وما أهدف إليه أساسا اليوم ليس المجادلة بأننا نكسب الحرب على التضخم (رغم اعتقادي أننا نكسبها).

ما أؤكد عليه بدلا من ذلك أن على وسائل الإعلام الكف عن تضخيم تقديرات التضخم السنوي التي تستبعد أسعار الغذاء والطاقة.

فيما مضى كان معدل التضخم الأساسي مفيدا. لكنه الآن صار من موروثات الماضي. ووضع هذا المعدل البالي في مقدمة أخبار التضخم يضلل القُرّاء بدلا من أن يزيدهم علما.

كروجمان حائز على جائزة نوبل للاقتصاد في عام 2008 وكاتب رأي في صحيفة نيويورك تايمز.

الترجمة خاصة لـ عمان