المواطنة في الإسلام (1) -
إعداد - نادر أبو الفتوح -
يقول الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر الأسبق، أن الإسلام دين العقل والحرية، لا يجبر أحدًا على الدخول فيه، ولذلك نرى أن المبادئ والأسس التي قام عليها الإسلام، تتمثل في حفظ الدين والنفس والمال والعقل والعرض، وقد قال الله عز وجل في القرآن الكريم (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، تؤكد الآية الكريمة بشكل قاطع على أن الدخول في الإسلام يكون من خلال العقل والاقتناع التام دون إكراه، والحق سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)؛ لأن الإسلام يريد للإنسان كل خير، والمسلم لابد أن يكون قوي الإيمان، يتمتع بالعقل والفكر والتدبر، وكل هذه المعاني حثت عليها نصوص الشريعة الإسلامية.
ويضيف الشيخ عاشور أن الإسلام جعل حرية العقيدة من أسس المواطنة، وذلك بهدف أن يعيش جميع الناس في المجتمع المسلم في ترابط وتكاتف، والتاريخ الإسلامي يحمل الكثير من المواقف والأحداث، التي تؤكد أن المسلمين عاشوا مع غير المسلمين في مجتمع واحد، تجسدت فيه كل صور المواطنة الحقيقية، التي أدت في النهاية لتقدمه ونهضته، كذلك ففي وقت الفتوحات الإسلامية، فإن المسلمين لم يجبروا أحدًا على الدخول في الإسلام، ونجد أن نصوص القرآن الكريم أمرت بالحفاظ على بيوت العبادة لغير المسلمين، فيقول تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، وهذه الآية الكريمة تجسد منهج الإسلام، في التعامل مع غير المسلمين، الذين يعيشون معهم في مجتمع واحد، وهي تأمر بالبر والإحسان؛ لأن المواطنة في الإسلام، تعني أن جميع أبناء الوطن مسلمين وغير مسلمين، لهم نفس الحقوق والواجبات.
ومن مواقف الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في التعامل مع غير المسلمين، عندما هاجر من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، كان أول ما فعله صلى الله عليه وسلم هو بناء المسجد، وبعد ذلك بدأ في تأسيس الدولة، التي قامت على الترابط والتكاتف بين الجميع، سواء مسلمين أو غير مسلمين، فوضع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، أول دستور يحقق مبدأ المواطنة في التاريخ، فكانت وثيقة المدينة، التي جعلت هناك حقوقا وواجبات لكل أبناء المدينة، وأن اليهود من سكان المدينة لهم حقوق، طالما عاشوا مع المسلمين في سلام، لا يجبرهم أحد على ترك معتقداتهم، وأن يقوموا بأداء واجبهم وعدم التعاون مع أعداء المسلمين، كما أنه صلى الله عليه وسلم استقبل وفد نصارى نجران، وأقاموا في المسجد، بل أدوا صلاتهم فيه، ولم يجبرهم صلى الله عليه وسلم، على الدخول في الإسلام.
ويشرح الشيخ عاشور أن المواطنة في الإسلام، تعني أن تكون هناك حرية في العقيدة؛ لأن الشريعة الإسلامية تنشد القوة والعزة للمجتمع، وتتحقق العلاقات القوية بين المسلمين وغيرهم في الوطن الواحد من خلال احترام أصحاب الديانات السماوية، وعدم المساس بهم، وذلك حتى يعيش الجميع في سلام واستقرار؛ لأنه إذا حدث خلاف بين أبناء الوطن الواحد، من ذوي الانتماءات المتعددة، فإن هذا المجتمع لن يستطيع مواجهة الأعداء من الخارج، وسوف يصبح هذا الوطن مهدد من الداخل والخارج، وكل ذلك يهدد الجميع مسلمين وغير مسلمين، ولذلك كانت دعوة الإسلام لاحترام المخالف، وحث الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- على عدم التعرض لهم، في الحديث الشريف: (من آذى ذميًا فقد آذاني)، والهدف من ذلك أن يعيش المسلمين مع غيرهم في مجتمع واحد، تسوده القيم والأخلاق التي تحترم المخالف في العقيدة.
ويشدد الشيخ عاشور على أن دعوة الإسلام لتحقيق مبادئ المواطنة، من خلال حرية العقيدة، أوجبت أن يتعامل المسلم مع غير المسلمين في كل المعاملات، إلا التي تخالف تعاليم الشريعة الإسلامية، بل أمر الإسلام عند التعامل معهم، أن يكون ذلك بالإحسان، فلا يجوز أخذ أموالهم بغير حق عند التعامل معهم، ولا يحق للمسلم أن يعتدي على أعراضهم، أو ينتقص من حقوقهم، وقد حذر الإسلام من ذلك، في الحديث الشريف لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: (أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، ويدل الحديث الشريف على أن غير المسلم الذي يعيش في بلاد أغلبها مسلمين، له كل الحقوق والواجبات، وله حق البقاء على عقيدته، ولا يجوز لأحد إكراهه على الدخول في الإسلام، وهو مواطن من الدرجة الأولى، له كافة الحقوق والواجبات التي يتمتع بها المسلم، فالمواطنة في الإسلام، تؤكد على حرية العقيدة، ولا يجوز أن يكون الاختلاف في العقيدة سببًا في الاعتداء على حقوق الآخرين، أو التطاول عليهم، لأن المجتمع يتقدم وينهض بجهود كل أبنائه مسلمين وغير مسلمين.