بين عامي 1946 و1952 كان مالكوم إكس يقضي سنواته العشرين الأولى في جوف زنزانة صغيرة بولاية ماساشوستس الأمريكية، محكومًا بتهمة السرقة والسطو المسلح، وذلك قبل أن يخرج من تلك البؤرة العمياء من حياته ليصبح واحدًا من أبرز رموز الحركات النضالية في أمريكا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، منفردًا عن غيره ليس ببشرته السوداء وتوجهاته الإسلامية (من «إسلام إليجا محمد» العنصري المقابل للعنصرية، إلى الإسلام)؛ بل كواحد من ألمع خطباء الحرية والعدالة المنافحين عن حقوق الإنسان في تلك السنوات الأمريكية الهائجة.
وفي عزلته الإجبارية بالسجن كان مالكوم إكس يحرر ذاكرته الصعبة ويتحرر منها بالكتابة إلى عائلته وعدد قليل من الأشخاص الذين يعرفهم بالخارج، ويجري مراجعاته الذاتية كضحية لعنصرية المجتمع الأبيض وثقافته الإشكالية دائمًا في التفاعل مع السود، تلك العنصرية التي كانت الخلفية الكامنة وراء تجارب مالكوم إكس الطائشة التي قادته من تلميذ يحلم بأن يصبح محاميًا أمريكيًا لامعًا إلى حياة الشوارع العبثية التي ساقته بدورها إلى واحد من سجون بلاده التي لم تتعرف عليه منذ البداية سوى كيافع زنجي مشتبه به.
غير أن كلماته الفقيرة التي كان يجتهد في كتابتها وتصديرها إلى الخارج عن طريق رسائل مكتوبة بخط اليد ظلت تفشل في الإفصاح عن معاناته، فلم يكن معجمه اللغوي المتقشف قادرًا على الإيفاء باختلاجاته العميقة التي لم يعتد البوح بها، كما بقي خط يده الرديء على الورق يذكره دائمًا بطفولته المدرسية التي هجرها قبل أن يُكمل تعليمه متأثرًا بجراحه البليغة من نصيحة أسداها إليه أحد مدرسيه: «يا مالكوم، لا يمكنك أن تكون محاميًا وأسود في الوقت نفسه، عليك أن تكون أكثر واقعية»! يمكن أن نحلل هذه النصيحة الموغلة في عتمات العنصرية من منظور اللغة والسلطة؛ فمهنة المحاماة هي واحدة من بين المهن التي تتطلب مزاولتها العناية الفائقة بالبلاغة والتمكن من إدارة اللغة سياسيًا وتطويعها، ولكنها قبل ذلك كله تتطلب سلطة لغوية لا تأتي فقط من المهارة والأسلوب المكتسب بالخبرة والتثقُّف بل هي من المعطيات التي تفرضها الرُّتبة الاجتماعية والسياسية للمتكلم، والمبنية على طبيعة النظرة العامة التي يسبغها المتلقون لهويته العرقية والطبقية والدينية، ولذلك فإن الزنجي الناجح في مدينة لانسينع التي انتقل إليها طفلًا لم يكن سوى ذلك النادل أو ماسح الأحذية أو بوَّاب المتاجر، كما يقول في سيرته التي أخرجها الكاتب الأمريكي أليكس هيلي بعد حوار طويل معه.
أما اكتشاف القراءة في السجن فهي حكاية لن تعود غريبة عندما نطالع سير الكثير من الشخصيات السياسية والأدبية التي تعرضت لتجربة السجن في مرحلة مبكرة من حياتها، إذ تكررت حكاية اللقاء بالكتب لأول مرة في الزنزانة الضيقة مع الكثير من السجناء، لكن هذه الحكاية الصغيرة والمألوفة هي من ستطبع حياة مالكوم إكس إلى الأبد، صانعةً منها حكاية أمريكية طويلة صالحة لمسلسل تلفزيوني تتداخل فيه التحولات الروحية والفكرية بالسياسة حتى اغتياله الغادر على منصة الدعوة إلى الإسلام في قلب مدينة نيويورك عام 1965.
هناك في السجن اكتشف مالكوم إكس المكتبة كمكان للتواصل مع «العالم المفقود» ولم يكن ذلك العالم المفقود سوى حياته الجديدة التي تنتظره على بُعد سنوات خارج السجن. لكن اكتشافه كسجين للقراءة لم يكن هو الأمر المثير بالنسبة لي كقارئ عابر لسيرته بقدر ما أثارني اكتشافه لقاموس اللغة الإنجليزية الذي تصفحه لأول مرة في غياهب زنزانته وكأنه سائح غريب بين أروقة متحف يحوي كل الكلمات التي لم يلامس حوافها في يوم من الأيام ولم يتذوق نبرها من قبل كفتى تربَّى على تداول لغة الشارع.
عندما فكرتُ قبل سنوات بقراءة «لسان العرب» بمجلداته من الجلدة للجلدة كنت واثقًا بأنني سأقرأ أهم عمل بشري مكتوب في حياتي، لكنني سرعان ما تراجعت عن المشروع بل واعتبرته فكرة مجنونة، خاصة في خضم هذا الوقت الإلكتروني الذي يخطفنا وينهب ساعاتنا، فلا أظن أن بإمكان المرء أن يقرأ معجمًا كاملًا إلا إذا كان في فردوس ما منزوعِ الزمن. فهل كان ذلك الظلام المغلق على مالكوم إكس هو فردوسه الأبدي الذي لا يدق فيه الزمن في القلب حتى يشرع في تهجي القاموس كاملاً؟ إذ ظل يلتقط مفردات اللغة الإنجليزية غير المستعملة ويحفرها بالقلم الجاف في دفتر صغير تحول مع الوقت إلى معجم شخصي يخمن أنه من مليون كلمة، ويضيف: «كتبتُ كلماتٍ لم أعلم بوجودها في العالم»! وكأن اكتشافه اللغةَ في السجن يوحي بمفارقة غريبة؛ أعني اكتشاف سُلطة اللغة في قلب أكثر الأماكن التي يفقد فيها الإنسان سلطته الطبيعية حتى على نفسه وأكثر شؤونه خصوصية، وهو المكان الذي سيؤهله ليصبح واحدًا من أهم الخطباء وأكثرهم تأثيرًا في الجماهير الأمريكية المناهضة للعنصرية خلال خمسينات وستينات القرن الماضي، إلى الحد الذي يذهب فيه الكثير من المختصين اليوم لدراسة تأثير خُطب مالكوم إكس في الأدب الأفروأمريكي.
سالم الرحبي شاعر وكاتب
وفي عزلته الإجبارية بالسجن كان مالكوم إكس يحرر ذاكرته الصعبة ويتحرر منها بالكتابة إلى عائلته وعدد قليل من الأشخاص الذين يعرفهم بالخارج، ويجري مراجعاته الذاتية كضحية لعنصرية المجتمع الأبيض وثقافته الإشكالية دائمًا في التفاعل مع السود، تلك العنصرية التي كانت الخلفية الكامنة وراء تجارب مالكوم إكس الطائشة التي قادته من تلميذ يحلم بأن يصبح محاميًا أمريكيًا لامعًا إلى حياة الشوارع العبثية التي ساقته بدورها إلى واحد من سجون بلاده التي لم تتعرف عليه منذ البداية سوى كيافع زنجي مشتبه به.
غير أن كلماته الفقيرة التي كان يجتهد في كتابتها وتصديرها إلى الخارج عن طريق رسائل مكتوبة بخط اليد ظلت تفشل في الإفصاح عن معاناته، فلم يكن معجمه اللغوي المتقشف قادرًا على الإيفاء باختلاجاته العميقة التي لم يعتد البوح بها، كما بقي خط يده الرديء على الورق يذكره دائمًا بطفولته المدرسية التي هجرها قبل أن يُكمل تعليمه متأثرًا بجراحه البليغة من نصيحة أسداها إليه أحد مدرسيه: «يا مالكوم، لا يمكنك أن تكون محاميًا وأسود في الوقت نفسه، عليك أن تكون أكثر واقعية»! يمكن أن نحلل هذه النصيحة الموغلة في عتمات العنصرية من منظور اللغة والسلطة؛ فمهنة المحاماة هي واحدة من بين المهن التي تتطلب مزاولتها العناية الفائقة بالبلاغة والتمكن من إدارة اللغة سياسيًا وتطويعها، ولكنها قبل ذلك كله تتطلب سلطة لغوية لا تأتي فقط من المهارة والأسلوب المكتسب بالخبرة والتثقُّف بل هي من المعطيات التي تفرضها الرُّتبة الاجتماعية والسياسية للمتكلم، والمبنية على طبيعة النظرة العامة التي يسبغها المتلقون لهويته العرقية والطبقية والدينية، ولذلك فإن الزنجي الناجح في مدينة لانسينع التي انتقل إليها طفلًا لم يكن سوى ذلك النادل أو ماسح الأحذية أو بوَّاب المتاجر، كما يقول في سيرته التي أخرجها الكاتب الأمريكي أليكس هيلي بعد حوار طويل معه.
أما اكتشاف القراءة في السجن فهي حكاية لن تعود غريبة عندما نطالع سير الكثير من الشخصيات السياسية والأدبية التي تعرضت لتجربة السجن في مرحلة مبكرة من حياتها، إذ تكررت حكاية اللقاء بالكتب لأول مرة في الزنزانة الضيقة مع الكثير من السجناء، لكن هذه الحكاية الصغيرة والمألوفة هي من ستطبع حياة مالكوم إكس إلى الأبد، صانعةً منها حكاية أمريكية طويلة صالحة لمسلسل تلفزيوني تتداخل فيه التحولات الروحية والفكرية بالسياسة حتى اغتياله الغادر على منصة الدعوة إلى الإسلام في قلب مدينة نيويورك عام 1965.
هناك في السجن اكتشف مالكوم إكس المكتبة كمكان للتواصل مع «العالم المفقود» ولم يكن ذلك العالم المفقود سوى حياته الجديدة التي تنتظره على بُعد سنوات خارج السجن. لكن اكتشافه كسجين للقراءة لم يكن هو الأمر المثير بالنسبة لي كقارئ عابر لسيرته بقدر ما أثارني اكتشافه لقاموس اللغة الإنجليزية الذي تصفحه لأول مرة في غياهب زنزانته وكأنه سائح غريب بين أروقة متحف يحوي كل الكلمات التي لم يلامس حوافها في يوم من الأيام ولم يتذوق نبرها من قبل كفتى تربَّى على تداول لغة الشارع.
عندما فكرتُ قبل سنوات بقراءة «لسان العرب» بمجلداته من الجلدة للجلدة كنت واثقًا بأنني سأقرأ أهم عمل بشري مكتوب في حياتي، لكنني سرعان ما تراجعت عن المشروع بل واعتبرته فكرة مجنونة، خاصة في خضم هذا الوقت الإلكتروني الذي يخطفنا وينهب ساعاتنا، فلا أظن أن بإمكان المرء أن يقرأ معجمًا كاملًا إلا إذا كان في فردوس ما منزوعِ الزمن. فهل كان ذلك الظلام المغلق على مالكوم إكس هو فردوسه الأبدي الذي لا يدق فيه الزمن في القلب حتى يشرع في تهجي القاموس كاملاً؟ إذ ظل يلتقط مفردات اللغة الإنجليزية غير المستعملة ويحفرها بالقلم الجاف في دفتر صغير تحول مع الوقت إلى معجم شخصي يخمن أنه من مليون كلمة، ويضيف: «كتبتُ كلماتٍ لم أعلم بوجودها في العالم»! وكأن اكتشافه اللغةَ في السجن يوحي بمفارقة غريبة؛ أعني اكتشاف سُلطة اللغة في قلب أكثر الأماكن التي يفقد فيها الإنسان سلطته الطبيعية حتى على نفسه وأكثر شؤونه خصوصية، وهو المكان الذي سيؤهله ليصبح واحدًا من أهم الخطباء وأكثرهم تأثيرًا في الجماهير الأمريكية المناهضة للعنصرية خلال خمسينات وستينات القرن الماضي، إلى الحد الذي يذهب فيه الكثير من المختصين اليوم لدراسة تأثير خُطب مالكوم إكس في الأدب الأفروأمريكي.
سالم الرحبي شاعر وكاتب