يعتمد منهج الاستقراء على قانون العلية «السببية»، وهذا المنهج مبني على مبدأ الحتمية رغم انتمائه إلى المنهج التجريبي الذي يعتمد على الملاحظة الجزئية التي تقود إلى فرضية ثم نظرية كلية. تزعزع مبدأ الحتمية -الذي يعمل وفق قانون السببية- مع بدايات القرن العشرين مع ظهور الكوانتم والنسبية، وأعاد طرح المنطق الأرسطي ضرورة النظرة الكلية عبر الافتراض العلمي قبل الملاحظة التي تقترح المقدمات للنتائج المطلوبة أو المتوقعة، وهذا ما أعاد الطرح العقلاني للعملية الاستنباطية التي تنظر إلى الكل لفهم الجزء، وهذه المنهجية لها جانب معزز للدفع بالحركة العلمية وتسريع وتيرتها، وفي وصف هذه المنهجية تقول يُمنى طريف الخولي -التي تعرّف هذه المنهجية بـ«المنهج الفرضي الاستنباطي»- في كتابها «فلسفة العلم في القرن العشرين» «الصفحة:167»: «إن وضع الفرض قبل الملاحظة بمثابة ثورة منهجية، تكاد تشابه الثورة الكوبرنيقية التي وضعت الشمس بدلا من الأرض كمركز، فتغيرت منظومة الكون والنظرة إلى طبيعته وحُلت إشكاليات فلكية جمة وارتسم طريق لتقدم متسارع للعلم. وبالمثل تغيرت منظومة المنهج والنظرة لطبيعة المعرفة العلية وحُلت إشكاليات إبستمولوجية جمة وارتسم طريق لتطور متسارع في فلسفة العلم».
عودة المنهج الاستنباطي الذي يتعامل مع القضايا الكلية وصولًا إلى النتائج الجزئية هو بمثابة انتصار للعقلانية دون فقدان للمنهجية التجريبية التي تتمثل في الملاحظة؛ حيث تأتي الفرضية الكلية «العقلانية» سابقة للملاحظة الجزئية «التجريبية»؛ لتعيد التوازن المنهجي للبحث العلمي دون أي تغييب لكل من المنهجين «العقلاني والتجريبي»، وهذا يعيد أذهاننا إلى التوافقية الكانطية التي مزجت بين العقلانية والتجريبية ووازنت في إبراز دورهما. نجد كذلك أن عودة العقلانية لقيادة المنهج التجريبي وتوجيه بوصلته بمثابة إحياء للهيمنة الفلسفية التي كادت أن تُفقدَ وسط الهيمنة التجريبية المتمثلة في المنهج الاستقرائي، وهذا ما يجعل تصريحات عدد من العلماء والفلاسفة وتنبؤاتهم محطّ تراجع، منها التصريح الشهير لستيفن هوكنج الذي أعلن فيه «موت الفلسفة»، في حين أنّ الفلسفة أعادت تموضعها في الحقل العلمي، وعادت لتقوم بدورٍ قيادي بعد فترة مِنَ التغييب.
قد يتساءل البعض عن ملامح بروز المنهجية الفرضية الاستنباطية وإزاحتها -التدريجية- للمنهجية الاستقرائية المحضة؛ فأجدُها في الظاهرة الرقمية المتمثلة -خصوصا- في عمل الذكاء الاصطناعي عبر تدفق البيانات للخوارزميات التي تكسبها الذكاء مع كثرة البيانات وتنوعها، وهنا تتضح بعض خيوط الاستنباطية التي تعمل عليها خوارزمية بعض نماذج الذكاء الاصطناعي -تحديدا نماذج الشبكات العصبية وفق نماذج التعلم العميق- في عملية التعلم حيث تتبنى هذه الخوارزمية الفرضية «التنبؤية» لمقدماتها «البيانات» ولنتائجها المحتملة «المخرجات»؛ وهذه عملية رياضية تتمثل في خوارزمية الانتشار الخلفي «Back Propagation» الذي سبق أن شرحتها -بشكل مقتضب- في أحد مقالاتي السابقة المنشورة في «جريدة عُمان»، وهذه الخوارزمية خاصة بعملية التعلّم داخل الذكاء الاصطناعي، حيث تعمل على اتصال المدخلات «Inputs» بالمخرجات «Outputs» عبر ضبط الأوزان «Weights» التي تعمل على ضمان أفضل اتصال بين الشبكات العصبية «Neural Networks» بعضها مع بعض وفقًا لمبدأ الاحتمالات الاستنباطية «التوقعات» الأولية «الفرضيات الأقرب للصواب»، حيث تقود هذه الفرضيات «الرياضية» إلى خطوة «استقرائية» تجريبية تتمثل في المراقبة «الملاحظة» الجزئية للمخرجات «النتائج» وإعادة العملية، بدءا من العملية الاستنباطية «الفرضية» وانتهاء بالعملية الاستقرائية، إذ تستمر عملية تعديل الأوزان وفقًا لهذه المنهجية «الرياضية» التي تعيد ترتيب فلسفة العلم في العصر الرقمي الحديث، وتعيد صياغة المنهج الفلسفي للعلم. أرى هذا الطرح التأويلي لشكل الفلسفة العلمية المرتكزة على أعمدة الاستنباط والاستقراء «العقلانية والتجريبية» بمثابة إكمال لمقال سابق نشرته في «جريدة عُمان» بعنوان «فلسفة العلم في العصر الرقمي الحديث» في العدد المنشور بتاريخ 3 يونيو 2023.
أعاد تبنّي خوارزمية الذكاء الاصطناعي لمنهج الاحتمالات الرياضي القضية اللايقينية التي تحتدم داخل الدماغ الرقمي للذكاء الاصطناعي؛ ليعيد الصدارة الفلسفية للعقلانية حيثُ طرح الفرضيات «اللايقينية والاحتمالية» مقدم على الطرح التجريبي المتمثل في الملاحظة «اليقينية»، إلا أنّ هذا لم يُفقِدِ المشهد العلمي المتمثل في الذكاء الاصطناعي مصداقيته، بل زاد من التوسع العلمي عبر التعدد الفرضي «الاحتمالي» الذي يتيح الوصول لأفضل النتائج العلمية دون التمسك بالقرار الواحد الذي أعاق المسيرة العلمية. تستند التحولات العلمية إلى ركائز منهجية تحدد التوجهات القادمة للمسارات العلمية حتى مع عدم قدرة هذه المنهجية العلمية الولوج إلى جميع الحقول العلمية خصوصا التي لا تزال في عزلة من التداخل الرقمي -على الأقل في ظروف أولية- مثل حقل العلوم الطبية «الصحية» التي تتمسك -إلى حد ما- بالمنهج الاستقرائي التجريبي؛ كون دراسة الجزئيات ومراقبتها مهمة أساسية من الصعب استبدالها بالمنهجية الاستنباطية، إلا أنّ مثل هذه الحقول العلمية لا يمكن استيعابها المنفصل عن النماذج الرقمية الذكية؛ فقد بات ملحوظا دور الذكاء الاصطناعي في القدرات التحليلية والتنبؤية إلى كفاءات تصل 100% في كثير من الحالات. نحن نشهد تحولات جذرية في المشهد العلمي -مع دخولها عصرا رقميًّا جديدًا- أهمها التأسيس الجذري للمنهجية العلمية التي عادت إلى الحاضنة الفلسفية العقلانية مع إبقائها للتجريبية، وفي مصطلح آخر يمكن أن نسميه «الاستقرائية-الاستنباطية».
د. معمر بن علي التوبي كاتب وباحث عُماني
عودة المنهج الاستنباطي الذي يتعامل مع القضايا الكلية وصولًا إلى النتائج الجزئية هو بمثابة انتصار للعقلانية دون فقدان للمنهجية التجريبية التي تتمثل في الملاحظة؛ حيث تأتي الفرضية الكلية «العقلانية» سابقة للملاحظة الجزئية «التجريبية»؛ لتعيد التوازن المنهجي للبحث العلمي دون أي تغييب لكل من المنهجين «العقلاني والتجريبي»، وهذا يعيد أذهاننا إلى التوافقية الكانطية التي مزجت بين العقلانية والتجريبية ووازنت في إبراز دورهما. نجد كذلك أن عودة العقلانية لقيادة المنهج التجريبي وتوجيه بوصلته بمثابة إحياء للهيمنة الفلسفية التي كادت أن تُفقدَ وسط الهيمنة التجريبية المتمثلة في المنهج الاستقرائي، وهذا ما يجعل تصريحات عدد من العلماء والفلاسفة وتنبؤاتهم محطّ تراجع، منها التصريح الشهير لستيفن هوكنج الذي أعلن فيه «موت الفلسفة»، في حين أنّ الفلسفة أعادت تموضعها في الحقل العلمي، وعادت لتقوم بدورٍ قيادي بعد فترة مِنَ التغييب.
قد يتساءل البعض عن ملامح بروز المنهجية الفرضية الاستنباطية وإزاحتها -التدريجية- للمنهجية الاستقرائية المحضة؛ فأجدُها في الظاهرة الرقمية المتمثلة -خصوصا- في عمل الذكاء الاصطناعي عبر تدفق البيانات للخوارزميات التي تكسبها الذكاء مع كثرة البيانات وتنوعها، وهنا تتضح بعض خيوط الاستنباطية التي تعمل عليها خوارزمية بعض نماذج الذكاء الاصطناعي -تحديدا نماذج الشبكات العصبية وفق نماذج التعلم العميق- في عملية التعلم حيث تتبنى هذه الخوارزمية الفرضية «التنبؤية» لمقدماتها «البيانات» ولنتائجها المحتملة «المخرجات»؛ وهذه عملية رياضية تتمثل في خوارزمية الانتشار الخلفي «Back Propagation» الذي سبق أن شرحتها -بشكل مقتضب- في أحد مقالاتي السابقة المنشورة في «جريدة عُمان»، وهذه الخوارزمية خاصة بعملية التعلّم داخل الذكاء الاصطناعي، حيث تعمل على اتصال المدخلات «Inputs» بالمخرجات «Outputs» عبر ضبط الأوزان «Weights» التي تعمل على ضمان أفضل اتصال بين الشبكات العصبية «Neural Networks» بعضها مع بعض وفقًا لمبدأ الاحتمالات الاستنباطية «التوقعات» الأولية «الفرضيات الأقرب للصواب»، حيث تقود هذه الفرضيات «الرياضية» إلى خطوة «استقرائية» تجريبية تتمثل في المراقبة «الملاحظة» الجزئية للمخرجات «النتائج» وإعادة العملية، بدءا من العملية الاستنباطية «الفرضية» وانتهاء بالعملية الاستقرائية، إذ تستمر عملية تعديل الأوزان وفقًا لهذه المنهجية «الرياضية» التي تعيد ترتيب فلسفة العلم في العصر الرقمي الحديث، وتعيد صياغة المنهج الفلسفي للعلم. أرى هذا الطرح التأويلي لشكل الفلسفة العلمية المرتكزة على أعمدة الاستنباط والاستقراء «العقلانية والتجريبية» بمثابة إكمال لمقال سابق نشرته في «جريدة عُمان» بعنوان «فلسفة العلم في العصر الرقمي الحديث» في العدد المنشور بتاريخ 3 يونيو 2023.
أعاد تبنّي خوارزمية الذكاء الاصطناعي لمنهج الاحتمالات الرياضي القضية اللايقينية التي تحتدم داخل الدماغ الرقمي للذكاء الاصطناعي؛ ليعيد الصدارة الفلسفية للعقلانية حيثُ طرح الفرضيات «اللايقينية والاحتمالية» مقدم على الطرح التجريبي المتمثل في الملاحظة «اليقينية»، إلا أنّ هذا لم يُفقِدِ المشهد العلمي المتمثل في الذكاء الاصطناعي مصداقيته، بل زاد من التوسع العلمي عبر التعدد الفرضي «الاحتمالي» الذي يتيح الوصول لأفضل النتائج العلمية دون التمسك بالقرار الواحد الذي أعاق المسيرة العلمية. تستند التحولات العلمية إلى ركائز منهجية تحدد التوجهات القادمة للمسارات العلمية حتى مع عدم قدرة هذه المنهجية العلمية الولوج إلى جميع الحقول العلمية خصوصا التي لا تزال في عزلة من التداخل الرقمي -على الأقل في ظروف أولية- مثل حقل العلوم الطبية «الصحية» التي تتمسك -إلى حد ما- بالمنهج الاستقرائي التجريبي؛ كون دراسة الجزئيات ومراقبتها مهمة أساسية من الصعب استبدالها بالمنهجية الاستنباطية، إلا أنّ مثل هذه الحقول العلمية لا يمكن استيعابها المنفصل عن النماذج الرقمية الذكية؛ فقد بات ملحوظا دور الذكاء الاصطناعي في القدرات التحليلية والتنبؤية إلى كفاءات تصل 100% في كثير من الحالات. نحن نشهد تحولات جذرية في المشهد العلمي -مع دخولها عصرا رقميًّا جديدًا- أهمها التأسيس الجذري للمنهجية العلمية التي عادت إلى الحاضنة الفلسفية العقلانية مع إبقائها للتجريبية، وفي مصطلح آخر يمكن أن نسميه «الاستقرائية-الاستنباطية».
د. معمر بن علي التوبي كاتب وباحث عُماني