الزمن في عرفنا أشبه بنهر جار يتدفق لكنه يملك كيانا ضخما، ففي ثناياه يسبح الكون بأسره وسلطته مهيمنة علينا جميعا، فهو نهر يسع الكون وما فيه، فالشمس بعظمتها تخضع للوقت والقمر بجماله ينصاع لسلطته والإنسان بكل ما آتاه الله من عقل وحكمه يقف خاضعا أمام بأس الزمن وبطشه.
وعلى الرغم من جبروته وبطشه فإننا نفقد الإحساس به أحيانا فعندما تكون في الطائرة ليلا وتطفأ الأنوار، وتغط في نوم عميق، وبعدها تنتبه، فتدور بعينيك في من حولك. لماذا؟ لأنك تريد أن تبحث عما يشير إلى الوقت الذي مضى على نومك وعندما لا ترى أي تغيير من حولك لا تدرك كم من الوقت قد مضى، والسبب في عدم معرفتك هو أنك لم تر شيئا من حولك قد تغير، ولذا يصعب عليك معرفة مدة الوقت الذي مضى إن لم تنظر إلى الساعة، مما يعني أن التغير في الحدث الفيزيائي من حولنا هو الذي يعطينا إحساسا بالزمن، ولولا التغير في الأحداث من حولنا لما تولد لدينا مفهوم الزمن.
بل إن التفريق بين الماضي والمستقبل هو أيضا نتاج الحدث الفيزيائي فلو وضعت كيس الشاي في كوب يحوي ماء ساخنا فإن جزيئات الشاي ستنتشر في الوسط المائي بسهولة ويسر ولكن العكس لن يحدث مطلقا كأن تتجمع جزيئات الشاي هذه في الكيس مرة أخرى، ومن هنا فإن حدوث الانتشار لجزيئات الشاي يدلك على الماضي وهو تجمع الجزيئات في الكيس.
ولكن ماذا لو كان العكس ممكنا؛ فكما أن جزيئات الشاي تنتشر من كيس الشاي في الماء الحار فإنها تتجمع من الماء إلى الكيس بشكل طبيعي ودون تدخل من أحد؟ لو أن حدوث ذلك كان ممكنا لما تمكنا من التفريق بين الماضي والحاضر!
فإذا جمعنا هذين الأمرين معا، وهما: الإحساس بالوقت المرتبط بالتغير الحاصل في الظواهر الفيزيائية، وسير الظواهر الفيزيائية في اتجاه واحد؛ فسنجد أننا سنفقد أي شعور بالوقت، وبذلك نجد أن الوقت مرتبط ارتباطا وثيقا بالتغير الحاصل في الحدث الفيزيائي.
فالزمن بناء على ما أوردناه ليس له وجود حقيقي إنما هو نتيجة للتغير الحاصل في الحدث الفيزيائي، فإذا لم يحدث تغير في الحدث الفيزيائي فلا معنى للزمن، ولا يمكن في تلك الحالة الإحساس به، فحتى لو فرضنا أن الزمن له وجود مستقل فإن هذا الوجود المستقل لا يعني لنا شيء ويفقد قيمته إذا فقدنا الإحساس به، ومن هنا فالقيمة العملية للزمن إنما تكمن في الشعور بوجوده وهذا الشعور لا يحصل إلا بحدوث تغير في الحدث الفيزيائي.
ومن هنا فقد حاول علماء الطبيعة سبر أغوار مفاهيم الماضي والحاضر والمستقبل من خلال الحدث الفيزيائي لكنهم واجهوا تحديا كبيرا والسبب في ذلك أن القوانين الطبيعية لا تتأثر بالزمن، فالمعتاد في هذه المعادلات أن الطرف الأيمن منها يساوي الطرف الأيسر وهذا يعني أن التحول من الطرف الأيمن إلى الأيسر ممكن والعكس صحيح أيضا، فالمعادلات تشير إلى أن الطرفين ممكنان والتحول من الطرف الأيمن إلى الأيسر ممكن ولا شيء يمنع من حدوثه، ومن هنا فإننا إذا عرفنا المتغيرات الحالية بدقة أمكننا الكشف عن الماضي كما يمكّننا ذلك من التنبؤ بالمستقبل.
فمن خلال هذه الخواص للقوانين الفيزيائية أمكننا أن نعلم مثلا متى حدث كسوف الشمس في الماضي وهذه القوانين ذاتها مكّنتنا من التنبؤ بالكسوف مستقبلا.
وهكذا نجد أن القوانين الفيزيائية لا تميز بين الماضي والمستقبل وتعرف هذه الخاصية بالتناظر الزمني وجميع القوانين الفيزيائية تتميز بهذه الخاصية.
لكننا في الواقع العملي نجد أن الحوادث لا يمكن أن تحدث بصورة معاكسة -كما هو الحال عندما نضع كيس الشاي في الماء الساخن - والسؤال هو إذا كانت المعادلات الفيزيائية تتميز بالتناظر الزمني، فلماذا تنحصر الظاهرة الفيزيائية في اتجاه واحد؟ لماذا تنتشر جزيئات الشاي في الماء الساخن دائما ولم يحدث أن جزيئات الشاي المنتشرة
في الماء تجمعت في كيس الشاي؟ وبما أن طرفي المعادلة تفصل بينهما إشارة (=)، فلماذا تتحرك جزيئات الشاي في اتجاه واحد؟
إن سير الظواهر الفيزيائية في اتجاه واحد هو أمر غاية في البداهة ومستطرد بشكل دائم في حياتنا العملية، وهذا يعني أن هناك قانونا طبيعيا يتحكم في اتجاهها ويدفعها دفعا في اتجاه واحد، إن هذا القانون له أهمية بالغة فهو الذي يولد لنا إحساسا بالزمن وهو الذي يمكننا من التمييز بين الماضي والحاضر.
فما هذا القانون؟ وكيف يتحكم بنا ويولد لنا إحساسا بالزمن؟
من الواضح أن هذا القانون يبسط نفوذه على جميع القوانين، فهو ليس جزءا منها كما هو ظاهر ولكنه مسلط عليها، فكما أسلفنا أن وجود إشارة (=) بين طرفي القوانين الفيزيائية يعني أن التحول من الطرف الأيمن من المعادلة إلى الأيسر والعكس ممكنا، لكننا في الواقع العملي نجد أن اتجاه الظاهرة الفيزيائية في اتجاه واحد وهذا يعني أن القانون الذي نبحث عنه مسلط على هذه القوانين الفيزيائية.
إن هذا القانون يعرف بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية.
وينص القانون على وجود كمية فيزيائية معينة تعرف بالإنتروبي لأي نظام فيزيائي معزول، ومهما حدث فإن هذه الخاصية تتجه باتجاه واحد وهو ارتفاع قيمتها ولا يمكن أن تقل قيمتها فهي تسير باتجاه واحد في كل نظام فيزيائي معزول.
فإذا قلنا إن الكون بأسره نظام فيزيائي معزول فإن الإنتروبي في هذا الكون في ازدياد مستمر، فلا يمكن للإنتروبي في هذا الكون أن تتجه باتجاه معاكس وتقل قيمتها.
إن هذا القانون يشير إلى أن هذه الكمية الفيزيائية والتي أسميناها «إنتروبي» لها اتجاه واحد فهي كسهم الزمن لا يعود إلى الوراء، وهذه الكمية الفيزيائية هي الوحيدة التي نعلم أن لها سهما كسهم الزمن وتسير في اتجاه واحد.
ولكن ما هذه الكمية الفيزيائية والتي أسميناها الانتروبي وما الذي تقيسه؟ وإلامَ تشير؟
قبل أن نتناول تعريف الإنتروبي لابدّ من توضيح المقصود بالنظام الفيزيائي المعزول، ويمكن تعريفه بأنه مجموع المادة والطاقة المرتبطة زمانا ومكانا بحيث يمكن لها أن تعمل بشكل مستقل ودون تدخل خارجي من المحيط أو البيئة الموجودة فيها وسيتضح المفهوم أكثر عندما نناقش الأمثلة فيما بعد.
أما الإنتروبي فهي مقياس كمي لعدد الطرق التي يمكن للذرات أو الجزيئات الكيميائية أن تترتب بها في النظام الفيزيائي المغلق.
فكما أشرنا سابقا إلى أنه عندما نضع كيس الشاي في ماء ساخن فإن جزيئات الماء تنتشر في الوسط المائي، والسؤال ما الذي يدفعها للانتشار؟
والجواب أن انتشارها يسمح لها بمزيد من الحركة، لذا فإن الطرق التي من الممكن أن تترتب بها جزيئات الشاي في الماء أكثر بكثير من الطرق التي تترتب بها جزيئات الشاي داخل مساحة كيس الشاي الضيقة.
إن زيادة طرق الترتيب يعني أن هناك مزيدا من الحرية لحركة جزيئات الشاي وهذه الحرية في الحركة تعني مزيدا من الفوضى والعشوائية. لماذا؟ لأنها تتحرك في مساحة أوسع، لذا فان ذلك يزيد من الفوضى والعشوائية، بينما لو حدث العكس بمعنى أن جزيئات الشاي تجمعت في الكيس بعد انتشارها في الماء، فإن ذلك سيخفض عدد الطرق الممكنة لحركة جزيئات الشاي، فتقل العشوائية وتزيد التراتبية.
ومن هنا فقد اعتبرت «الانتروبي» مقياسا لعشوائية النظام، فالنظام الفيزيائي المعزول يتجه دوما إلى زيادة العشوائية أي زيادة «الإنتروبي» أو بقائها ثابتة ولكن لا يمكن للإنتروبي أو العشوائية أن تتجه باتجاه معاكس فتقل أو تنخفض.
الأمر نفسه ينطبق على عدد طرق ترتيب جزيئات الماء مقارنة بجزيئات الثلج، فطرق ترتيب جزيئات الماء تفوق بشكل كبير عدد طرق ترتيبها في الثلج، ومن هنا فإن الإنتروبي للماء أعلى من الثلج.
قد يقول قائل ماذا لو قمنا باستخلاص الشاي من الماء بمحلول عضوي مثلا ومن ثم قمنا باستخلاص الشاي من المحلول العضوي وذلك بتبخيره وتجميع جزيئات الشاي ومن ثم قمنا بوضعها في الكيس، ففي هذه الحالة تكون طرق ترتيب جزيئات الشاي قد انخفضت وبهذا نكون قد خالفنا القانون الثاني للديناميكا الحرارية؟
والجواب لا، لأن عملية الاستخلاص التي قمت بها زادت من العشوائية، فأنت أضفت محلولا عضويا في بادئ الأمر وبذلت جهدا في استخلاص الشاي، هذا الجهد ولد حرارة في جسمك وهذه الحرارة رفعت من حرارة الهواء المحيط بك، وبإعطائك الحرارة لمحيطك فأنت منحت جزيئات الهواء طرقا أكثر لترتيب جزيئات الهواء من حولك وبالتالي ارتفعت العشوائية في محيطك، كما أنك قمت بتبخير المحلول العضوي.
وهذا أدى إلى انطلاق جزيئات المحلول العضوي في الهواء وازدادت طرق ترتيب جزيئات المحلول العضوي، مما زاد من عشوائيتها، لذا فإن مجموع ما قمت به أدى إلى ارتفاع العشوائية والاضطراب؛ أي إلى زيادة الإنتروبي، فأنت لكي تستخلص الشاي من الماء بذلت جهدا وهذا الجهد أدى في المحصلة إلى ارتفاع الإنتروبي في النظام الفيزيائي، ولأنك والمحلول العضوي أصبحتما جزءًا من النظام الفيزيائي، فأنتما جزء من مادة وطاقة النظام الفيزيائي، بينما عندما نقوم بوضع كيس الشاي في الماء الساخن ولا تقبض الكيس بيدك، فإن كيس الشاي مع الماء أصبحا نظاما فيزيائيا منعزلا عنك لعدم وجود تواصل مكاني أو زماني معهما.
أما عندما نضع ماء في الثلاجة ويتجمد، فالنظام الفيزيائي هنا لم يعد مغلقا لأن الثلاجة تتزود بالطاقة من مصدر آخر وليست ذاتية المصدر؛ لهذا نجد أن أي محاولة لتخفيض الإنتروبي في مكان ما في نظام فيزيائي مغلق غير ممكنة ما لم يصاحبه ارتفاع في الإنتروبي في مكان آخر في ذلك النظام الفيزيائي المغلق، ولابد أن تكون المحصلة النهائية هي ارتفاع الإنتروبي أي زيادة العشوائية والاضطراب.
وكما تلاحظ في الأمثلة السابقة فإن هناك رابطا قويا بين الحرارة المنبعثة والإنتروبي، فنحن عندما نريد أن نقلل الإنتروبي في مكان ما في النظام الفيزيائي المغلق نبذل طاقة وهذه الطاقة لا تتحول كليا إلى ذلك المكان بل إن جزءًا من الطاقة التي بذلناها تتحول إلى مكان آخر من النظام على شكل حرارة منبعثة وتقوم بدورها في رفع الإنتروبي، والمحصلة النهائية تكون زيادة في الإنتروبي، وهكذا نجد أن هناك ارتباطا وثيقا بين الطاقة والحرارة والإنتروبي، فالطاقة تتحول إلى حرارة والحرارة ترفع من الإنتروبي، وهذا هو أحد أهم الأسباب التي تمنع من أن تخصص الطاقة المبذولة كاملة لمكان معين في النظام الفيزيائي، بل لابد لجزء من الطاقة أن تتحول إلى مكان آخر في النظام الفيزيائي حتى تكون المحصلة النهائية زيادة في الإنتروبي في النظام الفيزيائي المغلق، ومن هنا فهناك استحالة أن تكون كفاءة عملية ما لنقل الطاقة يعادل ١٠٠٪.
وهذا يعني أن التغير الذي نشاهده في الكون هو نتيجة لزيادة العشوائية أو الإنتروبي في هذا الكون، ولولا هذه الزيادة في الإنتروبي لما استطعنا أن نميز بين الماضي والحاضر والمستقبل؛ لأن الكون كان سيبقى كما هو لا تغير فيه، لذلك كان الماضي والحاضر والمستقبل أمرا واحدا لا فرق بينهم
وهكذا نصل إلى نتيجة مفادها: أن الفارق بين الماضي والحاضر والمستقبل ما هو إلا فارق في كمية الاضطراب والعشوائية في هذا الكون، فالماضي أقل اضطرابا وعشوائية من الحاضر والحاضر أقل عشوائية من المستقبل.
لذلك نقول إن الماضي والحاضر والمستقبل ما هم إلا نتاج العشوائية (الانتروبي) ولدوا من رحمها وترعرعوا في حجرها، وإحساسنا بالزمن هو وليد الإنتروبي.
أ. د. حيدر أحمد اللواتي كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
وعلى الرغم من جبروته وبطشه فإننا نفقد الإحساس به أحيانا فعندما تكون في الطائرة ليلا وتطفأ الأنوار، وتغط في نوم عميق، وبعدها تنتبه، فتدور بعينيك في من حولك. لماذا؟ لأنك تريد أن تبحث عما يشير إلى الوقت الذي مضى على نومك وعندما لا ترى أي تغيير من حولك لا تدرك كم من الوقت قد مضى، والسبب في عدم معرفتك هو أنك لم تر شيئا من حولك قد تغير، ولذا يصعب عليك معرفة مدة الوقت الذي مضى إن لم تنظر إلى الساعة، مما يعني أن التغير في الحدث الفيزيائي من حولنا هو الذي يعطينا إحساسا بالزمن، ولولا التغير في الأحداث من حولنا لما تولد لدينا مفهوم الزمن.
بل إن التفريق بين الماضي والمستقبل هو أيضا نتاج الحدث الفيزيائي فلو وضعت كيس الشاي في كوب يحوي ماء ساخنا فإن جزيئات الشاي ستنتشر في الوسط المائي بسهولة ويسر ولكن العكس لن يحدث مطلقا كأن تتجمع جزيئات الشاي هذه في الكيس مرة أخرى، ومن هنا فإن حدوث الانتشار لجزيئات الشاي يدلك على الماضي وهو تجمع الجزيئات في الكيس.
ولكن ماذا لو كان العكس ممكنا؛ فكما أن جزيئات الشاي تنتشر من كيس الشاي في الماء الحار فإنها تتجمع من الماء إلى الكيس بشكل طبيعي ودون تدخل من أحد؟ لو أن حدوث ذلك كان ممكنا لما تمكنا من التفريق بين الماضي والحاضر!
فإذا جمعنا هذين الأمرين معا، وهما: الإحساس بالوقت المرتبط بالتغير الحاصل في الظواهر الفيزيائية، وسير الظواهر الفيزيائية في اتجاه واحد؛ فسنجد أننا سنفقد أي شعور بالوقت، وبذلك نجد أن الوقت مرتبط ارتباطا وثيقا بالتغير الحاصل في الحدث الفيزيائي.
فالزمن بناء على ما أوردناه ليس له وجود حقيقي إنما هو نتيجة للتغير الحاصل في الحدث الفيزيائي، فإذا لم يحدث تغير في الحدث الفيزيائي فلا معنى للزمن، ولا يمكن في تلك الحالة الإحساس به، فحتى لو فرضنا أن الزمن له وجود مستقل فإن هذا الوجود المستقل لا يعني لنا شيء ويفقد قيمته إذا فقدنا الإحساس به، ومن هنا فالقيمة العملية للزمن إنما تكمن في الشعور بوجوده وهذا الشعور لا يحصل إلا بحدوث تغير في الحدث الفيزيائي.
ومن هنا فقد حاول علماء الطبيعة سبر أغوار مفاهيم الماضي والحاضر والمستقبل من خلال الحدث الفيزيائي لكنهم واجهوا تحديا كبيرا والسبب في ذلك أن القوانين الطبيعية لا تتأثر بالزمن، فالمعتاد في هذه المعادلات أن الطرف الأيمن منها يساوي الطرف الأيسر وهذا يعني أن التحول من الطرف الأيمن إلى الأيسر ممكن والعكس صحيح أيضا، فالمعادلات تشير إلى أن الطرفين ممكنان والتحول من الطرف الأيمن إلى الأيسر ممكن ولا شيء يمنع من حدوثه، ومن هنا فإننا إذا عرفنا المتغيرات الحالية بدقة أمكننا الكشف عن الماضي كما يمكّننا ذلك من التنبؤ بالمستقبل.
فمن خلال هذه الخواص للقوانين الفيزيائية أمكننا أن نعلم مثلا متى حدث كسوف الشمس في الماضي وهذه القوانين ذاتها مكّنتنا من التنبؤ بالكسوف مستقبلا.
وهكذا نجد أن القوانين الفيزيائية لا تميز بين الماضي والمستقبل وتعرف هذه الخاصية بالتناظر الزمني وجميع القوانين الفيزيائية تتميز بهذه الخاصية.
لكننا في الواقع العملي نجد أن الحوادث لا يمكن أن تحدث بصورة معاكسة -كما هو الحال عندما نضع كيس الشاي في الماء الساخن - والسؤال هو إذا كانت المعادلات الفيزيائية تتميز بالتناظر الزمني، فلماذا تنحصر الظاهرة الفيزيائية في اتجاه واحد؟ لماذا تنتشر جزيئات الشاي في الماء الساخن دائما ولم يحدث أن جزيئات الشاي المنتشرة
في الماء تجمعت في كيس الشاي؟ وبما أن طرفي المعادلة تفصل بينهما إشارة (=)، فلماذا تتحرك جزيئات الشاي في اتجاه واحد؟
إن سير الظواهر الفيزيائية في اتجاه واحد هو أمر غاية في البداهة ومستطرد بشكل دائم في حياتنا العملية، وهذا يعني أن هناك قانونا طبيعيا يتحكم في اتجاهها ويدفعها دفعا في اتجاه واحد، إن هذا القانون له أهمية بالغة فهو الذي يولد لنا إحساسا بالزمن وهو الذي يمكننا من التمييز بين الماضي والحاضر.
فما هذا القانون؟ وكيف يتحكم بنا ويولد لنا إحساسا بالزمن؟
من الواضح أن هذا القانون يبسط نفوذه على جميع القوانين، فهو ليس جزءا منها كما هو ظاهر ولكنه مسلط عليها، فكما أسلفنا أن وجود إشارة (=) بين طرفي القوانين الفيزيائية يعني أن التحول من الطرف الأيمن من المعادلة إلى الأيسر والعكس ممكنا، لكننا في الواقع العملي نجد أن اتجاه الظاهرة الفيزيائية في اتجاه واحد وهذا يعني أن القانون الذي نبحث عنه مسلط على هذه القوانين الفيزيائية.
إن هذا القانون يعرف بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية.
وينص القانون على وجود كمية فيزيائية معينة تعرف بالإنتروبي لأي نظام فيزيائي معزول، ومهما حدث فإن هذه الخاصية تتجه باتجاه واحد وهو ارتفاع قيمتها ولا يمكن أن تقل قيمتها فهي تسير باتجاه واحد في كل نظام فيزيائي معزول.
فإذا قلنا إن الكون بأسره نظام فيزيائي معزول فإن الإنتروبي في هذا الكون في ازدياد مستمر، فلا يمكن للإنتروبي في هذا الكون أن تتجه باتجاه معاكس وتقل قيمتها.
إن هذا القانون يشير إلى أن هذه الكمية الفيزيائية والتي أسميناها «إنتروبي» لها اتجاه واحد فهي كسهم الزمن لا يعود إلى الوراء، وهذه الكمية الفيزيائية هي الوحيدة التي نعلم أن لها سهما كسهم الزمن وتسير في اتجاه واحد.
ولكن ما هذه الكمية الفيزيائية والتي أسميناها الانتروبي وما الذي تقيسه؟ وإلامَ تشير؟
قبل أن نتناول تعريف الإنتروبي لابدّ من توضيح المقصود بالنظام الفيزيائي المعزول، ويمكن تعريفه بأنه مجموع المادة والطاقة المرتبطة زمانا ومكانا بحيث يمكن لها أن تعمل بشكل مستقل ودون تدخل خارجي من المحيط أو البيئة الموجودة فيها وسيتضح المفهوم أكثر عندما نناقش الأمثلة فيما بعد.
أما الإنتروبي فهي مقياس كمي لعدد الطرق التي يمكن للذرات أو الجزيئات الكيميائية أن تترتب بها في النظام الفيزيائي المغلق.
فكما أشرنا سابقا إلى أنه عندما نضع كيس الشاي في ماء ساخن فإن جزيئات الماء تنتشر في الوسط المائي، والسؤال ما الذي يدفعها للانتشار؟
والجواب أن انتشارها يسمح لها بمزيد من الحركة، لذا فإن الطرق التي من الممكن أن تترتب بها جزيئات الشاي في الماء أكثر بكثير من الطرق التي تترتب بها جزيئات الشاي داخل مساحة كيس الشاي الضيقة.
إن زيادة طرق الترتيب يعني أن هناك مزيدا من الحرية لحركة جزيئات الشاي وهذه الحرية في الحركة تعني مزيدا من الفوضى والعشوائية. لماذا؟ لأنها تتحرك في مساحة أوسع، لذا فان ذلك يزيد من الفوضى والعشوائية، بينما لو حدث العكس بمعنى أن جزيئات الشاي تجمعت في الكيس بعد انتشارها في الماء، فإن ذلك سيخفض عدد الطرق الممكنة لحركة جزيئات الشاي، فتقل العشوائية وتزيد التراتبية.
ومن هنا فقد اعتبرت «الانتروبي» مقياسا لعشوائية النظام، فالنظام الفيزيائي المعزول يتجه دوما إلى زيادة العشوائية أي زيادة «الإنتروبي» أو بقائها ثابتة ولكن لا يمكن للإنتروبي أو العشوائية أن تتجه باتجاه معاكس فتقل أو تنخفض.
الأمر نفسه ينطبق على عدد طرق ترتيب جزيئات الماء مقارنة بجزيئات الثلج، فطرق ترتيب جزيئات الماء تفوق بشكل كبير عدد طرق ترتيبها في الثلج، ومن هنا فإن الإنتروبي للماء أعلى من الثلج.
قد يقول قائل ماذا لو قمنا باستخلاص الشاي من الماء بمحلول عضوي مثلا ومن ثم قمنا باستخلاص الشاي من المحلول العضوي وذلك بتبخيره وتجميع جزيئات الشاي ومن ثم قمنا بوضعها في الكيس، ففي هذه الحالة تكون طرق ترتيب جزيئات الشاي قد انخفضت وبهذا نكون قد خالفنا القانون الثاني للديناميكا الحرارية؟
والجواب لا، لأن عملية الاستخلاص التي قمت بها زادت من العشوائية، فأنت أضفت محلولا عضويا في بادئ الأمر وبذلت جهدا في استخلاص الشاي، هذا الجهد ولد حرارة في جسمك وهذه الحرارة رفعت من حرارة الهواء المحيط بك، وبإعطائك الحرارة لمحيطك فأنت منحت جزيئات الهواء طرقا أكثر لترتيب جزيئات الهواء من حولك وبالتالي ارتفعت العشوائية في محيطك، كما أنك قمت بتبخير المحلول العضوي.
وهذا أدى إلى انطلاق جزيئات المحلول العضوي في الهواء وازدادت طرق ترتيب جزيئات المحلول العضوي، مما زاد من عشوائيتها، لذا فإن مجموع ما قمت به أدى إلى ارتفاع العشوائية والاضطراب؛ أي إلى زيادة الإنتروبي، فأنت لكي تستخلص الشاي من الماء بذلت جهدا وهذا الجهد أدى في المحصلة إلى ارتفاع الإنتروبي في النظام الفيزيائي، ولأنك والمحلول العضوي أصبحتما جزءًا من النظام الفيزيائي، فأنتما جزء من مادة وطاقة النظام الفيزيائي، بينما عندما نقوم بوضع كيس الشاي في الماء الساخن ولا تقبض الكيس بيدك، فإن كيس الشاي مع الماء أصبحا نظاما فيزيائيا منعزلا عنك لعدم وجود تواصل مكاني أو زماني معهما.
أما عندما نضع ماء في الثلاجة ويتجمد، فالنظام الفيزيائي هنا لم يعد مغلقا لأن الثلاجة تتزود بالطاقة من مصدر آخر وليست ذاتية المصدر؛ لهذا نجد أن أي محاولة لتخفيض الإنتروبي في مكان ما في نظام فيزيائي مغلق غير ممكنة ما لم يصاحبه ارتفاع في الإنتروبي في مكان آخر في ذلك النظام الفيزيائي المغلق، ولابد أن تكون المحصلة النهائية هي ارتفاع الإنتروبي أي زيادة العشوائية والاضطراب.
وكما تلاحظ في الأمثلة السابقة فإن هناك رابطا قويا بين الحرارة المنبعثة والإنتروبي، فنحن عندما نريد أن نقلل الإنتروبي في مكان ما في النظام الفيزيائي المغلق نبذل طاقة وهذه الطاقة لا تتحول كليا إلى ذلك المكان بل إن جزءًا من الطاقة التي بذلناها تتحول إلى مكان آخر من النظام على شكل حرارة منبعثة وتقوم بدورها في رفع الإنتروبي، والمحصلة النهائية تكون زيادة في الإنتروبي، وهكذا نجد أن هناك ارتباطا وثيقا بين الطاقة والحرارة والإنتروبي، فالطاقة تتحول إلى حرارة والحرارة ترفع من الإنتروبي، وهذا هو أحد أهم الأسباب التي تمنع من أن تخصص الطاقة المبذولة كاملة لمكان معين في النظام الفيزيائي، بل لابد لجزء من الطاقة أن تتحول إلى مكان آخر في النظام الفيزيائي حتى تكون المحصلة النهائية زيادة في الإنتروبي في النظام الفيزيائي المغلق، ومن هنا فهناك استحالة أن تكون كفاءة عملية ما لنقل الطاقة يعادل ١٠٠٪.
وهذا يعني أن التغير الذي نشاهده في الكون هو نتيجة لزيادة العشوائية أو الإنتروبي في هذا الكون، ولولا هذه الزيادة في الإنتروبي لما استطعنا أن نميز بين الماضي والحاضر والمستقبل؛ لأن الكون كان سيبقى كما هو لا تغير فيه، لذلك كان الماضي والحاضر والمستقبل أمرا واحدا لا فرق بينهم
وهكذا نصل إلى نتيجة مفادها: أن الفارق بين الماضي والحاضر والمستقبل ما هو إلا فارق في كمية الاضطراب والعشوائية في هذا الكون، فالماضي أقل اضطرابا وعشوائية من الحاضر والحاضر أقل عشوائية من المستقبل.
لذلك نقول إن الماضي والحاضر والمستقبل ما هم إلا نتاج العشوائية (الانتروبي) ولدوا من رحمها وترعرعوا في حجرها، وإحساسنا بالزمن هو وليد الإنتروبي.
أ. د. حيدر أحمد اللواتي كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس