تساءلت في نهاية مقالي السابق عن وضع الترجمة في عالمنا العربي الآن، وما شروطها في عصرنا الراهن، وإلى أي حد يتم مراعاة تلك الشروط؟

ولقد سبق أن نوهت في ذلك المقال إلى أن حركة الترجمة ينبغي أن تكون مزدوجة، أي تسير في مسارين معكوسين: من اللغة الأجنبية إلى اللغة الأم، ومن اللغة الأم إلى اللغة الأجنبية، وتلك عملية في فهم وتأويل الثقافات. ولكننا ينبغي أن نصارح أنفسنا بأن الحركة المعكوسة من اللغة الأم إلى اللغات الأجنبية تعد ضئيلة في عالمنا العربي، وذلك وضع له ما يبرره إذا كنا نعترف بأن حركة الإبداع نفسها لا تزال محدودة في عالمنا العربي، وأننا لا نملك سوى أن نؤسس لمرحلة النقل التي تمهد لمرحلة الإبداع؛ فالترجمة لا تكون مستحقة إلا بالنسبة إلى الأعمال الإبداعية في مجالات العلم والفكر والثقافة بما تشتمل عليه من آداب. وأنا لا أقصد من وراء ذلك الإيعاز بأن هناك نضوبا في العملية الإبداعية في عالمنا العربي أو إلى عدم إمكانية قيام حركة ترجمة معكوسة من العربية إلى اللغات الأجنبية: فلا شك أن هناك إبداعات عربية تجد منافذَ عديدة للترجمة، ولكن أغلبها يقع في مجال الأدب، خاصة الرواية (بوصفها النص الذي يمكن من خلاله التعرف على ثقافة الشعوب الأخرى وأسلوب حياتها وطرائق تفكيرها). حقّا إن هناك إبداعات في المجالات الأخرى، ولكنها ضئيلة للغاية، ولا يتم الترويج لها بشكل جيد، ليس فقط من خلال وسائط الإعلام، وإنما أيضا من خلال عملية ترجمة عن العربية يقوم بها العرب أنفسهم أو من يتقنون العربية من الأجانب. ولا يخامرني الشك في أن هناك بعضا من الإبداعات العربية- ليس فقط في مجال الأدب، وإنما أيضا في مجال الفكر- تضارع الإبداعات الغربية التي تنال شهرة واسعة بسبب كونها مكتوبة بلغة سائدة وتدعمها وسائط إعلام جبارة: ذلك أن اللغة السائدة هي لغة الغالب كما لاحظ ابن خلدون؛ ومع ذلك فإننا لا ينبغي أن نقف بلا حيلة إزاء هذه الحقيقة.

وحتى حينما ننظر إلى وضع الترجمة في عالمنا العربي على مستوى النقل عن الثقافات الأجنبية، فإننا نجد أن حركة الترجمة على هذا المسار تعد ضئيلة تماما. فلو أننا نظرنا إلى حركة الترجمة في الدول المتقدمة، سوف نجد أن مراكز الترجمة منتشرة في كل جامعاتها الكبرى، وتسهم بقوة في هذه الحركة على الأصعدة كافة. ويكفي هنا أن ننظر في دور بعض الجامعات الغربية في نشر الترجمات الإنجليزية الذائعة على المستوى العالمي في مجال الفلسفة والفكر عموما، بل إن هناك دُور نشر متخصصة في فروع معينة من المعرفة الفلسفية، وهذا ما فصلت قوله في مقال سابق بهذه الجريدة بعنوان «الترجمة وصناعة الثقافة».

بل إن حركة الترجمة العربية تعد محدودة بالنسبة إلى حركة الترجمة العبرية؛ فبحسب تقرير للأمم المتحدة في العقد الأول من هذا القرن (نشرته جريدة إيلاف)، تترجم إسرائيل قرابة 1500 كتاب سنويّا في مقابل 330 كتابا فقط تترجمه الدول العربية مجتمعة!! وربما تكون عدد الكتب المترجمة إلى العربية قد ازدادت مؤخرا، ولكن المؤكد أيضا أن الفجوة بين الترجمات إلى العربية والترجمات إلى العبرية قد اتسعت بعد مرور أكثر من عقد من الزمان؛ ببساطة لأن الفجوة في التعليم والمعرفة تتسع باستمرار بين إسرائيل والدول العربية، رغم أن إسرائيل تترجم عن اللغات الأخرى إلى لغة تكاد تكون ميتة هي اللغة العبرية، بينما اللغة العربية تظل إحدى اللغات الكبرى الحية.

من المؤكد أن هناك حركة ترجمة في عالمنا العربي وإن كانت خافتة، فكيف نرصد تلك الحركة ومدى جديتها وجودتها؟ وما السبيل إلى النهوض بها؟

حينما نرصد هذه الحركة، يمكننا أن نلاحظ أنها تتمركز في المغرب العربي عموما، وفي مملكة المغرب خصوصا؛ فقد انتقلت حركة الترجمة من المشرق العربي (بما في ذلك مصر) إلى المغرب بدءا من أقصاه. ويحق لنا التساؤل عن السبب في ذلك. لعل أول ما يتبادر إلى أذهاننا هو أن إجادة اللغة الفرنسية في دول المغرب العربي قد أدت إلى قيام حركة ترجمة في هذه الدول التي أتاحت لها المعرفة باللغة الفرنسية الولوج إلى الثقافة الغربية، في حين أن المعرفة باللغات الأوروبية قد تراجعت بقوة في بلدان المشرق العربي. ولا يمكن لأحد أن ينكر هذه الحقيقة، ولكن التأمل العميق للأمر لا يمكن أن يكتفي بهذا التبرير: ذلك أن اللغة الفرنسية ظلت حاضرة في ثقافة شعوب المغرب العربي، بل إنها كانت متداولة على لسان الأشخاص العاديين، ربما بشكل أفضل من حضورها الآن لدى التلاميذ والمتعلمين؛ وهذا يستدعي السؤال: لماذا الآن ومنذ عقود قليلة يتم استخدام تلك اللغة في نقل الثقافة الغربية؟ الإجابة ببساطة هي: التعليم. فاللغة تظل مجرد أداة نتداولها، ولكن توظيفها في نقل المعرفة هو أمر يظل مرهونا برغبتنا في الفهم والتعلم، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال نهضة في التعليم. الإرادة السياسية الحقيقية في نهضة التعليم هي التي تؤسس حركة الترجمة، بوصفها حركة في النقل تمهد لحركة النقد ثم الإبداع.

وعندما نقول إن حركة الترجمة تتمركز في المغرب، فإننا نعني بذلك أنها تنطلق منه في معظمها؛ أما صناعة الترجمة فهي شأن آخر، أعني شأن يتعلق بنشر الترجمة ودعمها وتشجيعها. ومن هذه الناحية يمكن القول إن مركز هذه الصناعة يكمن في الخليج العربي الذي تُخصص بعض بلدانه جوائز كبرى تشجيعا للترجمة ودعما لها، مثل: «جائزة الشيخ حمد» القطرية، و«جائزة الشيخ زايد للكتاب» الإماراتية، و«جائزة الملك عبد الله» السعودية، و«جائزة السلطان قابوس» العُمانية. كما أن هناك مراكز معتبرة تُعنى بالترجمة، أهمها: «مؤسسة «كلمة» الإماراتية، ومؤسسة «معنى» السعودية، وإن كانت هذه الأخيرة قد بدأت قوية ولكنها تعاني في الفترة الأخيرة من مشكلات لوجستية.

السؤال الآن: هل حركة الترجمة في عالمنا العربي كافية لتحديث الثقافة العربية؟ هذا هو موضوع مقالنا التالي.