تتسع فضاءات الإعلام غير التقليدي وعلاقات وسائل التواصل الاجتماعي لإنشاء واحتواء الكثير من قنوات التواصل الفاعلة الحقيقية التي أنقذت كثيرا من مستخدميها من شبح الاكتئاب وفخ الانطواء، كما أنها منحت مختلف الفئات العمرية والشباب خصوصا قنوات ما كانوا يحلمون بها لإطلاق آرائهم وأفكارهم، ومواهبهم وإبداعاتهم في مجالات شتى دون الحاجة لأكثر من جهاز محمول ومسرح للبث الافتراضي يصنعه صاحب الحساب وحده؛ بحيث يمكن أن يكون مجرد زاوية في المنزل أو حتى خارجه، بل يمكن أن يكون أقل من ذلك حيث التصميم الرقمي لمسرح منفصل عن كل الواقع المكاني الحقيقي، وفي هذا لا يمكن كذلك إغفال تعاضد وسائل التواصل الاجتماعي مع أحدث تقنيات التصوير والإخراج المتاحة للجميع عبر تطبيقات الهاتف المحمول المدفوعة أو حتى المجانية.

هاتف محمول ونقطة إرسال واقعية أو افتراضية للبث الحي تصنع قناة تواصلية مع العالم يملك صاحبها إرسال ما شاء من رسائل ومحتوى، وهنا يكمن الوجه الآخر لوسائل التواصل الاجتماعي عبر هذه القنوات الشخصية في حسابات تصل لكل شرائح المجتمع بما فيهم الأطفال والمراهقون في كل العالم.

هنا تحديدا بدأت أزمة بيع الخصوصية مع حسابات شخصية متنوعة؛ كلها تبحث عن محتوى يمكنه جذب أكبر عدد من المتابعين فاتسع فضاء مركز الإرسال الافتراضي ليهاجم منازل الأسر وزوايا المنزل، بل وحتى غرف النوم في انتهاك واضح لما كان يعتبر منطقة خصوصية لا يمكن أن تُمس، وخطوطا حمراء لا يمكن تجاوزها وفق كل المعايير الاجتماعية والقيمية لكل الثقافات دون استثناء. تحوّل الخاص اليوم إلى عام والعام إلى مشاع، وصار أمرا واردا أن يشارك المتابعون والمعجبون حول العالم في متعلق شخصيّ أو خلاف أسري بين المرء وأمه أو أبيه، وبينه وبين شريكه زوجا أو زوجة، فيمكن لطفل في أقصى بقعة من الأرض اقتراح حل لمشكلة عائلية أو خلاف شخص فقط لأنه من متابعي صاحب الحساب وله الحق في مشاركة ما قرر صاحب الحساب نشره، وبعد أن يعبر المختلف والشاذ حدود التعوّد والألفة تصبح الظاهرة مطلبا ومسعى، خصوصا مع تكرار بعض الأوهام المُسَوِّغة لانتهاك الخصوصية مثل «الشخصية العامة ملك للجميع» و«معجبوك في كل مكان يحبون معرفة تفاصيل حياتك» و«متابعوك بانتظار جديدك» ليقع المشهور أو مدعي الشهرة أو طالبها في مزلق انتهاك الخصوصية مستسيغا طعم العمومية، ثم التنافس على مساحات الخصوصية المنتهكة أكثر فأكثر بل إن بعضهم نشر تحديات معلنة حول ما يمكنه كشفه من أسرار شخصية، ليدخل التصوير والنشر دائرة الفضائحية والتشهير، لتشهد على كل تلك الفوضى ملفات المحاكم المعاصرة التي صارت تخصص أقساما خاصة لتلك القضايا نظرا لتفشيها.

تصوير اليوميات والبث الحي الدوري على ما فيه من تفاصيل شخصية قد لا ترقى أبدا لصنع أي محتوى، وعلى ما تتيحه للآخرين من فرص لانتهاك خصوصية الإنسان وتصيد أخطائه وتوثيق ردَّات فعله، إلا أنها تبقى قرارا شخصيا يتحمل صاحبه تبعاته والتزاماته، وللأسف وقع في هذا المنزلق كثير حتى ممن كان يظن بهم العقل والحكمة مأخوذين بإغراء الثناء وسحر توثيق اللحظة ووصف الشخصية العامة. لكن ماذا عن انتهاك خصوصية الآخرين دون تصريح أو استئذان؟! وما نريد بـ «الآخرين» هنا كل إنسان قد تربطك به علاقة قربى أو نسب أو لا تربطك به علاقة إطلاقا لتستبيح خصوصياتهم ويومياتهم الآمنة لمجرد أنك شخصٌ أَجْوفٌ أو مخلوق رقميٌّ مُستلب فكريا تملك جهازا محمولا وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي؟! ضمن هذا السياق أسرد بعض المشاهد المتكررة يوميا:

-تصوير إنسان فاقد للوعي في غرفة العناية المركزة أو في أحد الأقسام الطبية بحالات مختلفة قد تصل لأسوأ ما يمكن عليه الإنسان، فمن أعطاك الحق لنشر هذا التسجيل أو هذه الصورة؟ وأين تقبع إنسانيتك حين لم تتذكر أن هذا الإنسان تعود الظهور بأفضل صورة أو لم يكن يقبل التصوير أصلا، وأنه لو ملك قراره لما قبل ظهوره للناس بهذا الشكل وهذه الهيئة، إضافة إلى حقه الشخصي في الاحتفاظ بتفاصيل وضعه الصحي دون مشاركتها للعامة!

- تصوير قريب لك أو حتى غريب وهو ينازع الروح في المنزل أو في غرفة بالمستشفى مسكونا بوهم طلب الدعاء والحقيقة التي لا بد أن تراها في مرآة سلوكك أنك تتوسل وتستجدي الاهتمام والمتابعة وإن كان على حساب خصوصية والدك أو والدتك أو قريبك المريض، فمتى كان الدعاء بحاجة لتوثيق بصورة أو تسجيل فيديو؟! وفي هذا ظهر مقطع لشاب عربي قبل أيام وهو يصور والده في سيارة الإسعاف معلقا على الصورة «آخر مرة أرى بها والدي»، ما زلت «شخصيا» لا أستطيع فهم نفسية وحزن الإنسان الرقمي الذي يستغرق في تحديث الخبر وتوثيق المشهد واستجداء العاطفة في أشد لحظات الأسى التي تتطلب الصمت والسكون!.

- التنافس على تصوير ونشر وتوزيع مقطع حادث مروري أو حادثة ما وانتهاك حرمات الناس في تصرف غير مسؤول لا يبرره إلا انعدام الإنسانية وفقر القيم وتعطّل المنطق، وإلا فهل فكرت لحظة في أن هذا الحادث قد يقع لك أو لأهلك؟ وهل كنت لترضى بالتوثيق والنشر الذي ينتهك حرمات وخصوصيات أو يُعمِّق ألما وأسى؟

لا يمكن إغفال متابعات أثبتت وقوع كثير ممن يُظَنُّ بهم الخير والعقل في منزلق التصوير والنشر الذي صار مألوفا حدّ صعوبة رفضه أو الاعتراض عليه، وكأن بر الوالدين يبرر انتهاك حرماتهم وخصوصياتهم ولحظات ضعفهم، وكأن محبة الناس تبرر اختراق أسرارهم وخبايا علاقاتهم، وكأن سلطة الأب أو الأم تبيح لهم انتهاك طفولة أطفالهم بجعلها مشاعا مشتركا، أو ميدانا للتنمر والتحطيم، كما لا يمكن إغفال مآل كثير من هذه الانتهاكات التي وصلت لقطع الرحم أو تدمير العلاقات الأسرية أو حتى الانتحار في بعض الحالات التي تفقد مسرح الشهرة والأضواء فلا يبقى شيء تعيش لأجله بعد الصخب وانتهاك الذات، كل ذلك من الوسائل تبرره غاية واحدة هي السعي للوصول لمحتوى مختلف جاذب لندخل دائرة المشاهرين وحلقات الأكثر متابعة.

لا يمكن -مجتمعيا- تقبل هذه الأنماط من انتهاك الخصوصية واختراق حرمات البيوت والأسر مهما كانت دعواها لأننا حينها نطبق «الغاية تبرر الوسيلة» فهذا منزلق الخطر الذي ينبغي تحليل محاذيره؛ إذ لا يمكن لأمة تعلي من قيمة الإنسان وتحترم ثوابتها من قيم وعادات أصيلة أن تقبل ذلك مهما كانت الغايات نبيلة أو سامية، فما بالكم والغايات مادية بحتة تحول الجميع إلى آلات لجمع للمال، وقوالب لتصنيع وتسويق التسطيح والتفاهة؟!

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية