خرجنا من طنجة مرورا بتطوان، حالمين بالزرقة التي تتمتع بها «شفشاون» في الشمال المغربي. كان برفقتنا شاب صغير في عمر الـ15 يدعى أسامة من أبناء المدينة التي أشرق وجودها عام 1471. أخبرنا أسامة بأنّ هذه المدينة تشكلت لإيواء مسلمي الأندلس بعد طردهم من إسبانيا. استوقفتني كلمة «شفشاون» كثيرا، وكنت قد قرأت بأنّها كلمة أمازيغية. قال أسامة: «شف»: انظر، «شاون»: القرون، انظر إلى القرون أي «الجبال»، فرفعنا رؤوسنا آنذاك، ورأينا الجبال التي تحيط بالمدينة وتحميها كقلعة حصينة، ولم تكن القرون وحدها، فلقد أضيفت الأسوار والبوابات والأبراج أيضا.

مضينا بين الممرات الضيقة، البيوت الحميمة الملتصقة بعضها ببعض ذات الطابع الأندلسي، التعبيرات الجمالية التي نبعت من ذاكرة امتزاج الثقافات. المنسوجات اليدوية تعمر الطرقات، والسلالم اللانهائية تفضي إلى مزيد من الزرقة، فمصدر العيش الأساسي في «شفشاون» هو السياحة والصناعات الحرفية مثل: الحلي والملابس التقليدية وآلات الموسيقى الأندلسية. انعطف بنا أسامة إلى «رأس الماء»، حيث تتدفق الشلالات العذبة التي تزود المدينة بالمياه الصالحة للشرب والزراعة.

قبل سفرنا بليلة، وأثناء عشاء السمك الذي دعانا إليه الناقد عبدالرحيم جيران وزوجته المحبة في طنجة، أخبرنا جيران بأنّ «شفشاون» التي تقع عند السفح، تبدو للبعض أشبه ما تكون «بدمعة الجبل»، وذكرتنا الصديقة منى حبراس ببيت شعر لعبد الكريم الطبال يصفها بأنّها: «سماءٌ في الأرض».

حرّضني حديث أسامة عن السيدة الحرة (1485م)، التي حكمت شفشاون لفترة من الزمن، فبدأت البحث عن قصّتها، عرفت أنّها زوجة أمير تطوان وكان والدها مؤسس المدينة، وهي بحسب قراءتي: تعد إحدى أهم نساء المغرب في القرن السادس عشر، فقد كافحت ضد البرتغاليين الغزاة.

وفي مكان ناء، كان جامع «بوزعافر» ينتصب على قمة الجبل الذي يطل على المدينة. عدت مجددا للبحث حوله فوجدت بأنّ الإسبان هم من قاموا في فترة الاستعمار ببنائه، لكن المفارقة «لم تقم فيه صلاة!»، لم يستوعب السكان بناء حاكم إسباني لمسجد، فاعتبروا ذلك من نوادر الزمان!، وظنوا أنّه وسيلة تجسس على المدينة التي لم يكن من اليسير ولوجها لوعورة مسالكها ودروبها. «بوزعافر» كلمة باللهجة المحلية وتعني: «صاحب الشوارب الكبيرة»، ورغم تمتع الجامع بصومعة مئذنة فإنّ قاعدته تشبه الكنيسة، ولذا بقي لزمن طويل مكانا خربا تدور حوله الحكايات الغامضة.

في السوق، شاهدنا المادة الطبيعية التي يدهنون بها البيوت لتشع بالزرقة، فسألنا عن اختيار هذا اللون دون غيره؟ قال لنا أسامة: «كما يحمل اللون الأخضر دلالة في الثقافة الإسلامية، فإن اللون الأزرق جاء من إسبانيا»، ويرى البعض الزرقة رمزا للسلام والأمن وقوة السماء، ففي ذلك الوقت، «عاش المغاربة المحليون إلى جانب اليهود والمورسكيين معا لمدة قرن أو أكثر».

شاهدنا السكان المحليين يرتدون ملابسهم التقليدية، شاهدنا القطط تعبر الأزقة بانسجام وألفة، وفي المطعم التقليدي الذي تطل نوافذه على الأزقة الضيقة والمتلاحقة، طلبنا الطواجين والكسكس ووقعنا في غرام «الأتاي» بجولاتنا العديدة.

تنقلنا بين الرباط وكازابلانكا، وطنجة مرورا بتطوان وشفشاون وانتهاء بأصيلة، فكان كل شيء ابتداء من الطقس المنعش، وسدود الماء، والتشجير الذي يأخذ حيزه الآسر من كل مدينة، الطعام الشهي وبساطة الناس، التاريخ وقصصه الفاتنة، وشعورنا بالأمان، كل هذه الأشياء يمكنها أن تجعل المغرب في مقدمة الدول السياحية في الوطن العربي الممزق بسبب ظروفه السياسية والاقتصادية. لقد شعرت بوجود تشابه كبير بين عمان والمغرب، فالبلدان يتمتعان بتاريخ عميق وممتد، كما يرفلان بأصالة واستقرار باتا كالعملة النادرة، وينعمان بأماكن يتمنى المرء أن يذهب إليها، لكنها أماكن تركت على فطرتها ولم تتدخل بعد «الإرادة» لجعلها ترى عبر تهيئة البنى الأساسية وسائل الجذب العصرية.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى