في أستراليا ارتفعت أسعار المنازل في الأشهر الثلاثة الماضية. وفي الولايات المتحدة صعد مؤشر خاص بأسعار المنازل يتابعه الناس على نطاق واسع بنسبة 1.6% من أدنى مستوى له في يناير. وارتفعت أسعار أسهم شركات بناء العقارات السكنية بمعدل الضعف مقارنة بأداء سوق الأسهم بشكل عام. في منطقة اليورو تبدو السوق العقارية منتظمة. وفي تقرير صدر مؤخرا عن أمريكا كتب محللون ببنك جي بي مورجان تْشيس «من الآن فصاعدا معظم التأثير السلبي من قطاع المنازل على نمو الناتج المحلي الإجمالي يجب أن يكون طفيفا».

جاء في تقرير لخبراء ببنك جولدمان ساكس عن كوريا الجنوبية «نرجِّح أننا خلفنا وراءنا الآن ذروة التأثير السلبي للتراجع الأخير في سوق العقار السكني على الاستهلاك الشخصي»، حيث سبق أن توقع خبراء الاقتصاد خسائر فادحة في أسعار المنازل، ففي مارس 2022 وهو الشهر الذي بدأ فيه بنك الاحتياط الفيدرالي رفع أسعار الفائدة لمحاربة التضخم كانت قيمة المنزل في البلدان الغنية أعلى بنسبة 41% من قيمته قبل خمسة أعوام، وقد تعافت الأسعار من الأزمة المالية في الفترة 2007-2009، ثم ارتفعت أثناء جائحة كوفيد-19، بعد ذلك ارتفعت أسعار فائدة البنوك المركزية بأكثر من 3% في المتوسط عالميا مما رفع من تكلفة القروض العقارية وأبطأ الاقتصاد. من المؤكد أن الأسعار العالمية للمنازل هدأت، فهي الآن أقل بنسبة 3% من ذُراها الأخيرة أو أدنى بحوالي 8% إلى 10% بعد حساب التضخم. هذا يتَّسق مع متوسط تصحيحات الأسعار منذ أواخر القرن التاسع عشر، لكن التراجع الأخير مختلف لأنه أعقب ازدهارا خلال الجائحة عندما ارتفعت الأسعار بأسرع معدل لها على الإطلاق. الخلاصة هي أن الأسعار الحقيقية للمنازل تظل أعلى كثيرا من مستواها في عام 2019. ولا شك أن العديدين من مواليد الثمانينيات والتسعينيات والعشرية الأولى من القرن الحالي الذين حلموا بأن انهيارا في أسعارها سيمكنهم من شراء أول منزل يقتنونه أصيبوا بالإحباط. أثناء فترات التدهور العالمي الكبير لأسعار المنازل تواجه البلدان أوقاتا صعبة جدا. بعد الأزمة المالية هبطت أسعار المساكن في أيرلندا إلى النصف، وتدهورت أسعار المنازل الأمريكية بنسبة 20%، هذه المرة يتحسن أداء من كان أداؤهم ضعيفا، ففي سان فرانسيسكو هبطت الأسعار بنسبة 10% من ذروتها مع هجرة موظفي شركات التقنية إلى فلوريدا وتكساس، مع ذلك توقفت الأسعار عن الهبوط ولا يزال سعر المنزل المتوسط فوق 1.1 مليون دولار. في أستراليا أسعار المنازل التي شهدت ارتفاعا كبيرا في 2020-2021 هبطت بنسبة 7%، لكن السوق تتعافى كما يشير مزاد أقيم مؤخرا، ففي ضاحية «دابل باي» المعروفة بقاطنيها المُسِنِّين والمطلَّة على ميناء سيدني كان سعر افتتاح المزاد للبيت «البنجالو» المكون من غرفتي نوم 4 ملايين دولار أسترالي (2.7 مليون دولار أمريكي). وقال الدلاَّل ما معناه إن البيت يحتاج إلى بعض الإصلاحات، لكن ذلك لم يمنع الحشد الغني الذي كان يتدافع بالمناكب خارج بوابته من المزايدة بحماس، ورست أخيرا مطرقة الدلال عند سعر يزيد عن 6 ملايين دولار أسترالي. مقارنة بالفترات السابقة التي شهدت تدهور أسعار المنازل ليس هنالك ما يدل على أن انخفاض أسعارها تسبب في عدوى مالية، ولا يبدو أن البنوك قلقة من تزايد حالات العجز عن سداد القروض العقارية، فهي قللت من تعرضها للأصول (القروض والأوراق المالية) المرتفعة المخاطر. وفي نيوزيلندا ارتفعت متأخرات قروض الرهونات العقارية، لكنها تظل أقل من مستواها الذي كان سائدا قبل الجائحة. في أمريكا تراجع التخلف عن سداد القروض العقارية للمنزل المستقل (المنفصل) مؤخرا إلى أدنى مستوى له في فترة ما بعد الأزمة المالية، وفي كندا تقترب حصة متأخرات القروض العقارية من أدنى مستوى لها على الإطلاق، كما لا يبدو أن متاعب العقارات تمسك بخناق الاقتصاد العريض. حقا الاستثمار الضعيف في الإسكان يبطئ من نمو الاقتصاد، لكن التأثير طفيف. في الأزمات العقارية السابقة تراجع عدد عاملي البناء بشدة قبل فترة طويلة من ضعف باقي سوق العمل، لكن اليوم لا يزال هنالك طلب شديد عليهم، ففي كوريا الجنوبية هبط التوظيف في قطاع البناء قليلا من أعلى مستوى له في أثناء الجائحة، لكن الآن يبدو أنه ينمو مرة أخرى، أما في أمريكا فيرتفع التوظيف بنسبة 2.5% سنويا في اتساق مع المتوسط في الأجل الطويل، وفي نيوزيلندا الشواغر في قطاع البناء أعلى كثيرا من مستوياتها التاريخية.

هناك ثلاثة عوامل تفسر المرونة المدهشة لقطاع العقار السكني بالبلدان الغنية وهي الهجرة والتمويل العائلي وتفضيلات المشترين. لنتناول أولا عامل الهجرة التي تحطِّم أرقامَها القياسية في أرجاء العالم الغني، ففي أستراليا تضاعف «صافي الهجرة» قياسا بمستوياته قبل الجائحة وفي كندا بلغ ضعف مستواه الأعلى السابق، كما يعزز طلبُ القادمين الجدد سوقَ العقار، كما تشير الأبحاث على أن كل مائة ألف مهاجر «صاف» إلى أستراليا ترفع أسعار المساكن بنسبة 1%، وفي لندن وهي أول مدينة يصل إليها العديد من القادمين الجدد إلى بريطانيا ارتفعت أسعار الإيجارات الجديدة بنسبة 16% في العام الماضي. أما العامل الثاني فهو متانة الأوضاع المالية العائلية الذي يلعب أيضا دورا، فالأكثر ثراء حرَّكوا ازدهار قطاع الإسكان بعدما أوقفت الإجراءات التنظيمية لقروض الرهونات العقارية في فترة ما بعد الجائحة إقراض المشترين الأقل قدرة على السداد.

في أمريكا في عام 2007 بلغت درجة الجدارة الائتمانية للمقترض الوَسَطي (بين أعلى درجة وأدنى درجة) 700، وهذا رقم لا بأس به تقريبا، لكن في عام 2021 كانت قريبة من 800 وهذا رقم جيد جدا، فالعائلات الأكثر ثراء يمكنها بسهولة تحمل أقساط القروض العقارية الأكثر ارتفاعا، لكن أيضا سيكون مقترضون عديدون قد حصلوا في الماضي على قروض بأسعار فائدة منخفضة وثابتة.

في الفترة من 2011 إلى 2021 هبطت حصة القروض العقارية حول بلدان الاتحاد الأوروبي والممنوحة على أساس فائدة متغيرة من حوالي 40% تقريبا إلى أقل من 15%، ورغم ارتفاع أسعار الفائدة يظل متوسط نسبة مدفوعات خدمة الدين إلى الدخل في بلدان العالم الغني أقل من المتوسط السائد قبل الجائحة، نتيجة لذلك توجب على عدد أقل من الأُسَر إما بيع مساكنها أو الانتقال إلى مساكن أقل حجما مقارنة بتراجعات سوق الإسكان السابقة، فالجائحة نفسها لعبت دورا، ففي الفترة 2020-2021 قلصت أُسَر عديدة استهلاكها بشدة وهذا ما أدى إلى تراكم «مدخرات فائضة» ضخمة تصل إلى تريليونات عديدة من الدولارات، هذه المدخرات أيضا شكلت وسادة حماية للأسر من أسعار الفائدة المرتفعة، كما يشير تحليل لبنك جولدمان ساكس إلى ارتباط إيجابي حول البلدان بين حجم فوائض الادخارات والمرونة في أسعار المساكن.

فالكنديون راكموا مدخرات كبيرة أثناء الجائحة وخلافا للتوقعات استقرت أسعار المساكن مؤخرا، أما السويديون فقد ادخروا أموالا أقل وسوقهم العقارية أضعف كثيرا.

العامل الثالث يتعلق بتفضيلات الناس، حيث تشير الأبحاث التي نشرها بنك إنجلترا إلى أن التغير في حاجات الناس (بما في ذلك احتمال الرغبة في المكتب المنزلي أو تفضيل المنزل على الشقة) يفسر 50% من ارتفاع أسعار المساكن في بريطانيا أثناء الجائحة، وفي بلدان عديدة بما في ذلك أستراليا تقلَّص متوسط حجم الأسرة وهذا ما يشير إلى أن الناس أقل رغبة في مشاطرة المسكن (السكنى المشتركة)، وفي أوقات التضخم قد يرغب أناس عديدون الاستثمار في الأصول المادية الأفضل حفظا لقيمة أموالهم كالعقارات والبنية التحتية. كل هذا يمكن أن يعني أن الطلب على المساكن سيظل أعلى من مستواه قبل الجائحة مما سيحدّ من إمكانية هبوط الأسعار.

هل من الممكن أن يكون تراجع سوق الإسكان قد تأخر فقط؟ ربما، تدهورُ أسعار المنازل في السابق بما في ذلك في أواخر التاسع عشر كان يحدث تدريجيا أكثر منه فجائيا، وربما أيضا يميل مسؤولو البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة أو الإبقاء على ارتفاعها حتى تبدأ تكلفة الاقتراض المرتفعة في التأثير حقا على الاقتصاد، فإيجاد إحساس لدى ملاك المنازل بأنهم أقل مالا إحدى وسائل دفعهم لتقليل الإنفاق، وهذا يساعد على خفض التضخم، مع ذلك هنالك سبب للاعتقاد بأن الأسوأ انتهى. فثقة المستهلك ترتفع مجددا في العالم الغني بعد أن تراجعت في العام الماضي إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، ولا يزال لدى الأسر في المتوسط الكثير من المدخرات الفائضة، إلى ذلك، النقص الهيكلي في العقارات السكنية يعني أن هنالك دائما تقريبا من يرغب في الشراء إذا لم يكن بمقدور شخص آخر أن يفعل ذلك، ولا يكاد يوجد ما يشير إلى أن الناس فقدوا رغبتهم في الحصول على مكاتب منزلية وغرف أو مساحات فوق أسطح منازلهم للتمارين البدنية من رفع أثقال وخلافه، ربما انتهى ازدهار العقار السكني في هدوء ودون أن يلفت الانتباه.