من أكثر الكتب التي كان لها عميق الأثر في حياتي والذي فتح لي أخيلة وأبوابا من تتبع القصص وتقصي منابعها، كتاب «ألف ليلة وليلة»، الذي تعثرت به أول أيام الإعدادي بالمكتبة الوحيدة التي كانت تبيع الكتب القديمة في مدينة القيروان، في نسخة حجرية لا ناشر لها ولا مقدمة، صبت في أوراق صفراء وغلاف عادي غير مجلد، كانت النسخة في أربعة أجزاء ملقاة على الأرض بجانب «روايات عبير»، وخمسة أجزاء تقريبا من كتاب الأغاني وبعض القصص البوليسية المترجمة، أخذت من البائع بحسب طاقتي المالية جزءا وحيدا منها، فوهبني البقية دينا مؤجلا أدفعه في القريب العاجل، فعدت إلى البيت تغمرني سعادةٌ لا مثيل لها، ورجعت إلى البائع مساء لأعطيه بقية ماله، وأشتري بدين مؤجل ما توفر لديه من أجزاء كتاب الأغاني.

في ليلتي تلك أمسكت كتاب «ألف ليلة وليلة»، ووقع لي بالضبط ما أسَر شهريار، ولم يمنعني صياح الديكة ولا انبلاج الصبح عن ترك الكتاب، فوقعت في شراكه، وأخذتني عوالمه الغريبة والعجيبة، عوالم تفتحت لي وبانت من وراء الصفحات الصفراء المتآكلة، وأدمنت الكتاب ولا أجد ما أصف به شعوري في هذه المرحلة أبلغ مما عبر عنه المستشرق كولريدج بيانا لهيامه بألف ليلة إذ وقع على الكتاب وهو في سن السادسة، وتأثر به، وعبر عن هذا الهيام بقوله: «أعطني الأعمال التي ملأت شبابي بالبهجة والحبور، أعطني، أعطني الليالي العربية»، انقطعت عن العالم لأيام، سائحا في حكايات تأخذك إلى عالم الجن، إلى عالم البحر، إلى أهوال لم أسمع بها، واختلطت في ذهني عجينة لم أقدر على تخليص الصحيح منها من التخييلي لحد اليوم، «هارون الرشيد» و«جعفر البرمكي» وغيرهما من الشخصيات التاريخية التي زج بها في عوالم «ألف ليلة وليلة»، وأخذت أنا الصبي المحب لكتب الألغاز وللروايات البوليسية وللكتب العاطفية والأخلاقية، الذي بدأ يتهجى بعض الشعر الفرنسي، ويفتح بعض كتب فلوبير وبلزاك والمنفلوطي والعقاد بجبل من الحكايات، بسيل جارف مرغب من القصص، عوالم من الجواري ومن الملوك ومن مختلف صنوف البشر الذين صيغوا في حكايات لم أنقطع يوما عن تتبعها، حكايات تصاغ بطريقة آسرة، تنفتح وتتفتح منها حكايات لا تنغلق، مثل العلبة الصينية أو الدمية الروسية، تفتح حكاية فتجد أخرى فأخرى، ولا تنغلق العلب إلا بغلق آخرها ثم تراجعا إلى أولها، حكايات لم تمت بمرور الزمن، «حكاية التاجر مع العفريت»، «حكاية الصياد مع العفريت»، «حكاية التاجر أيوب وابنه غانم وابنته فتنة»، «حكاية الملك قمر الزمان ابن الملك شهرمان»، «حكاية نعم ونعمة»، وغيرها من الحكايات التي نحتت في ذاكرتي لحد اليوم، وجعلتني أتتبع الحكايات في منابتها ومنابعها ومظاهرها وأشكالها. عندما خرجت إلى العالم بعد اعتكافي على إنهاء «ألف ليلة وليلة» كنت شخصا مختلفا جدا، هو الكتاب الأول الذي رسمني وغيرني بشدة، وهزني من الداخل، والأهم أنه الكتاب الأول الذي أخذني من كل العالم من حولي، ولم يقع لي ذلك إلا مع «ألف ليلة وليلة» وفي مرحلة لاحقة، في مرحلة الشباب، كانت المرة الثانية والأخيرة التي يتمكن فيها كتاب من قطعي نهائيا عن الكون، وكان ذلك مع عبد الرحمان منيف في «مدن الملح». ميزة «ألف ليلة وليلة» أنه كتاب أخاذ، يجعلك تعيش عوالمه، ومن نافل القول أن أستعرض دوره في توجيه الأدب الكوني ومنحه حكايات، فهو ذخيرة لا تنضب، وأكتفي من ذلك بإيراد ما عبر عنه كولريدج عند قراءته للكتاب، يقول: «ولما كنت قد قرأت مجلدا من تلك الحكايات مرارًا وتكرارًا قبل عيد ميلادي الخامس، فلا بد أن يكون معروفًا نوعية الخيالات والأحاسيس التي كانت تنتابني حينذاك. كان الكتاب، على ما أذكر، يقع في ركن من نافذة البهو في منزل والدي العزيز، ولا يمكن أن أنسى الشعور الذي هو مزيج من الرهبة والرغبة الجارفة الذي كنت أحس به كلما نظرت إلى المجلد وتأملته، إلى أن تغمر شمس النهار الغرفة وتغطيه بأشعتها؛ وعندئذ، وليس قبل ذلك، كنت أحس بالشجاعة لأن أمسك بالكنز الثمين وأهرع به إلى ركن مشمس في الفناء». لم أنس يوما شغفي بقراءة «ألف ليلة وليلة»، وفعلا أتمنى استرجاع لحظة من تلك اللذة التي لا تعادلها لذة في الكون، أن تغيب بكليتك عن الكون، وأن تعيش في عالم الحكاية، لا تتمنى أن تنهيها، وكلما بزغ من الحكاية صباح جديد يقطعها تيقظت منك رغبة في تخطي الجملة القاطعة لليلة «وأدرك شهرزاد الصباح وسكتت عن الكلام المباح»، لتذهب إلى الجملة الواصلة «بلغني أيها الملك السعيد والرأي الرشيد»، لتكمل بقية الحكاية واصلا ما انقطع ضاربا عرض الزمن عن رغبة شهرزاد في أسر شهريار ليلة أخرى، فما حاجتي بأن أكون أسير حكاية تنتهي عند الفجر؟ ولكن الحقيقة أني قد وقعت أسير الحكاية لحد الساعة. سحر ما في هذا الكتب، لم يصبني أنا فقط، بل أصاب عالما من القراء، ومن كبار الكتاب في العالم، سحر يجعل قراءته مختلفة على حد قول عبد الفتاح كيليطو: «لا يقرأ هذا الكتاب كما تقرأ سائر الكتب. بداخله يوجد شيء ما سحري، وإذن مرعب. وهو في ذلك يشبه الكتاب المسجل به مصير كل فرد على حدة، لكون نهايته تلتقي مع لحظة موت القارئ. بهذا المعنى، فإن الموت هو ثمن القراءة، أي ثمن الحياة».