ترجمة: أحمد شافعي -

كانت الجملة بريئة المقصد: «لا بد أنك شديدة الشجاعة إذ تعملين في العراق». كان ذلك في صباح يوم أحد مشمس وكنت في إجازة أقضيها في المملكة المتحدة، وإذا بالرجل الطيب الجالس في المقهى إلى مائدة مجاورة لمائدتي يسألني عن طبيعة عملي، بينما كلابه الألمانية الثلاثة تنعم بين قدميه بالشمس.

غارزةً الشوكة في قطعة مشوية من الفطر، تواريت في كلمات من قبيل «يعني، ليس الأمر في الحقيقية مثلما يتصور الناس»، في محاولة مستميتة لأن أغير مجرى الحديث فينصب على كلابه وروتينها الصباحي.

الحقيقة أنني بوصفي مراسلة صحفية أجنبية مقيمة في بغداد، لا أشعر في أغلب الأحيان بأنني شجاعة على الإطلاق.

ليس بوسعي أن أتكلم باسم صحفيين يعملون في بلاد من قبيل أوكرانيا فهم في غمار صراع نشط. أما أنا فإن أكبر تحد ينطوي عليه عملي في عراق عام 2023 لا يتمثل في عدم التنقل على جبهات متحركة، أو تحاشي القناصة، أو أي شيء آخر مما قد يستوجب حفنة من الشجاعة المعهودة. فالواقع أبسط من هذا كثيرا.

تكمن صعوبة عملي الكبرى في التعامل مع إخفاقات الدولة العراقية، بعد عقدين من الغزو ذي القيادة الأمريكية. فلم تنشئ الحكومات المتوالية البنية الأساسية الملائمة ومن ثم لا تتوافر الخدمات الأساسية من قبيل المياه والكهرباء بشل جيد، فضلا عن التلوث المزمن.

توشك الاختناقات المرورية الرهيبة في بغداد أن تكون تجسيدا لهذه المشكلات. فبسبب أن الطرق ليست واسعة بالقدر الكافي ووسائل النقل العامة نادرة الوجود، ينفق سكان المدينة ساعات من كل يوم داخل السيارة. وهكذا أقضي أنا وزميلي وقتا طويلا للغاية ونحن نثرثر عالقين في شوارع معبأة بالدخان حتى بات أحدنا على دراية بقدر هائل من تفاصيل حياة الآخر. فأعرف عنه أنه يحب الاستيقاظ مبكرا وأنه محب للأيرلنديين. ويعرف عني أنني أتناول حبوب الإفطار مع الزبادي لا مع الحليب ونادرا ما أسافر مقتصدة في الأمتعة. شيء رائع أن تكون للمرء رفقة طيبة، لكنني أتمنى أيضا لو أن التحرك لكيلومترات قليلة في وسط المدينة لا يقتضي الزحف لزهاء ساعة.

حينما يكون مسؤولو الحكومة أكثر اهتماما بالثراء الشخصي منهم بتخطيط المدينة فما الذي يجعل حركة المرور تجري في سلاسة؟ وما الذي يجعل الهواء نظيفا في حين أنه ما من بدائل تذكر للمولدات العاملة بالديزل ومحركات السيارات التي تنفذ الكثير من العوادم؟ وما الذي يجعل أنهار البلاد ومجاري المياه البديعة فيها تجري نقية في حين أن مياه الصرف الصحي والنفايات الصناعية تُصَب فيها صبا؟

من المؤكد أن العراقيين يعانون عشرة أمثال ما تعانيه مراسلة أجنبية من التلوث وانقطاعات الكهرباء والمياه غير الصالحة للشرب. والسؤال الذي كثيرا ما يطرحه أبناء البلد عليّ هو «لماذا أنت هنا؟ لماذا لا تعملين في المملكة المتحدة حيث الأمور أيسر؟»

أنا في الشرق الأوسط، جسدا وروحا، منذ ما يربو على سبع سنين، فترك ذلك أثره عليَّ من عدة نواح. فأنا لا أرى الأصدقاء أو الأهل في المملكة المتحدة بالقدر الذي أحبه. والعلاقات التي يعدها البعض من جملة المسلمات يصعب عليّ أن أكوِّنها أو أحافظ عليها، في ظل شعوري بالإرهاق وصعوبة أن أكون أكثر لينا. وينال العمل من التركيز مما يجعل المرء في نهاية المطاف يريد من أغلب الناس أشياء غير معهودة، كأن أرغب - على سبيل المثال - في اقتناء الكلاب الألمانية القابعة بين قدمي ذلك الرجل أكثر مما قد أرغب في أي يوم أن يكون لدي أطفال.

ولا أريد بشيء من هذا كله الشكوى. ففي الغالب يكون المراسلون الصحفيون الأجانب حاملين لجوازات سفر قوية، فهم ينعمون بحظ أنهم قادرون (غالبا) على اختيار متى وأين يسافرون. وأنا أحب العراق، وعندي أيضا ميزة القدرة على مغادرتها وقتما أريد.

يطلق عليّ أحد الأصدقاء العراقيين لقب السندباد،، في إشارة إلى البطل البحار في ألف ليلة وليلة. وبرغم لطف هذا اللقب، لكنه ينطوي أيضا على مفارقة مريرة. ففي عام 2023، ليس بوسع العراقي العادي أن يسافر شأن الملاح البغدادي الشهير دونما اضطرار إلى استصدار العديد من التأشيرات. في حين أن الغربي حامل جواز السفر قادر على القيام وعبور البحار السبعة وكأنما لا وجود للحدود.

ثمة أيضا تفرقة يصعب تقبلها بين الإعلام الأجنبي والإعلام العراقي. فثمة سيكولوجيا غريبة في أنفس بعض المسؤولين العراقيين ممن يتضح تماما أنهم يفضلون الحديث إلى الغربيين على الحديث مع الصحفيين من حاملي جنسيتهم. وقد عرفت مسؤولين حكوميين كبارا كانوا يطلبون مني ألا أحضر معي زملائي العراقيين إلى لقاءاتنا أو يقولون صراحة إنهم لا يثقون فيهم. أهي عنصرية داخلية؟ هل يقيس أولئك الناس قيمتهم بمدى رؤيتهم وهم جالسون برفقة الغربيين؟ هل فقدان الثقة هذا بقية مما ترك عصر صدام حسين حيث كان فقدان الثقة متفشيا على جميع المستويات؟ ما من إجابات لدي. ولكن كثيرا من أفضل الصحفيين الذين أعرفهم عراقيون، وعندهم القدرة على تمييز لغو السياسيين. وإنه لمن واجبنا نحن المراسلين الصحفيين الأجانب أن ندعمهم في عملهم وأن نقاوم المسؤولين غير المتعاونين.

نعم، نحن بحاجة إلى دأب ومثابرة من أجل الاستمرار، ونحن على علم بأن عملنا الصحفي قد لا يؤدي إلى تغيير الأوضاع التي نراها من حولنا وكثيرا ما تكون مزرية. ومن سوء الحظ أن عملنا لن يجعل الناس تعامل بعضها بعضا بمزيد من الاحترام، أو يزيل التلوث، أو يفضي إلى تغيير لقوانين الهجرة المجحفة. فالشجعان بحق هم العراقيون الذين يواجهون كل هذه الأمور في حياتهم اليومية.

رجوعا إلى إفطار المملكة المتحدة، لا أعرف هل يجدر بي الانخراط في حوار طويل مع الرجل حول خلو يوم عملي المعتاد من الإثارة. مؤكد أنه قصده طيب. لكنني، بدلا من ذلك الحوار، أربت مرة أخرى على الكلاب الألمانية، وأتناول قطعة أخرى من الفطر بشوكتي. لا أعتقد أنه يريد سماع خطبتي في هجاء الاختناقات المرورية.

ليزي بورتر صحفية مقيمة في الشرق الأوسط، تكتب في السياسة والطاقة والأمن، مع اهتمام جانبي بالقضايا الدينية. وهي كبيرة مراسلين في Iraq Oil Report.

عن مجلة بروسبكت