خلال لقاءاتي الممثل اللبناني رفيق علي أحمد لم تفارقني صورته في مسلسل «الزير سالم» للمخرج حاتم علي الذي أدّى به دور (كليب)، وحين حدّثته عنه لم يهتمّ كثيرا، وفاجأني بأنه لم يشاهد المسلسل باستثناء مقاطع منه!

بل لم يبد حماسا للحديث عن الأعمال التي قدّمها في التلفزيون، وهي كثيرة، حيث إن الناس، خلال تجوالنا، كانوا يبتسمون بوجهه، ويحيّونه، وحين استفسرت عن سرّ عدم اهتمامه بأعماله التي قدّمها على الشاشة الصغيرة، قال: إنه رجل مسرح بالدرجة الأولى، والعمل في التلفزيون لم يغرِه في يوم من الأيام، ولم ينخرط به، إلا لتغطية متطلّبات الحياة، لذا كثيرا ما اعتذر عن أعمال تلفزيونيّة عُرضت عليه، وحتى بعض التي مثّل بها، أكملها على مضض، لعدم قناعته ببعض المشاهد، والحوارات، غير أنّه قبل العمل بها، نظرا للمردود المادي الجيد الذي يدرّه التلفزيون على المشتغلين به، عكس المسرح الذي يحتاج إلى ميزانية غالبا ما تكون من جيب الفنان، دون أن يحقّق أي عائد مادي.

ومع ذلك تحدّث بسعادة عن المشاهد التي صوّرها راكبا الحصان، في الأعمال التاريخيّة، ومن بينها مسلسل «الزير سالم» والعلاقة الودية التي نشأت بينه وبين الحصان وذات يوم استبدلوا الحصان بآخر، فقال لفريق التصوير: أين حصاني؟ قالوا له: كيف عرفت أنه ليس حصانك؟ أجاب: لأن الحصان لم يعرفني!!

وفي شوارع مسقط، عرفه الكثيرون، والتقطوا صورا معه، وحدث أن أحد معجبيه، وهو رجل أعمال عراقي، دفع حساب وجبة غداء عامرة بأطايب المأكولات، حبّا له، ورغم أن الشهرة طموح كلّ ممثل، والفنان رفيق لا يخفي أن هذا الطموح ساوره، في بداياته، لكن الأمور أخذت مسارا آخر يقول كتابه: «الراوي الممثل.. على خشبة الحياة» الصادر عن الهيئة العربية للمسرح في الشارقة: حتى الممثل في داخلي الذي كان طامحا لأضواء الشهرة وتبعاتها تدجّن في المسرح، ولم يعد سوى أداة تعبير كالريشة للرسام، وإزميل ومطرقة النحّات، إنما هو الأقدس بينها والأصدق تعبيرا، كيف لا وأدواته الجسد والصوت؟» وقد كشف في هذا الكتاب عن معاناته اللذيذة مع المسرح، تلك المعاناة التي سرعان ما تتبدّد حين يُفتح الستار، ويجد نفسه واقفا على خشبة المسرح أمام الجمهور الذي يتفاعل مع كل حركة وإيماءة وكلمة.

يقول الفنان رفيق: «منذ صغري، أحببتُ أن أتحرّر من سجن ذاتي، لأدخل في رحاب أنفس الشخصيات البشرية. رغبت في أن أكون ممثلا كأي ممثل يكتب له نص مسرحي واقع، خيال، كوميديا، تراجيديا، يؤدّيه على الخشبة، فيحظى برضى الجمهور وتصفيقه ثم يعود لممارسة حياته كغيره من الناس، ولكنني كلما حاولت ذلك يفيض بي خزّان ذاكرتي وتقتحمني حكاياتي وقضايا مجتمعي، فأحكيها راويا، أو ممثّلا، أو الاثنين معا، في أغلب الأحيان، قدري أن أكون أنا الحكاية وأنا الراوي»، وبين الحكاية، وراويها محطّات في سيرة بدأت من الولادة بقرية يحمر شقيف في جنوب لبنان، وازدهرت على مسارح بيروت، وتجارب مع فرق مسرحيّة من بينها: فرقة (الممثلون العرب) وفرقة (مسرح الحكواتي)، والاشتغال مع أساطين المسرح العربي كالطيب الصديقي ونضال الأشقر، وروجيه عساف ويعقوب الشدراوي وممدوح عدوان ومنصور الرحباني الذي شاهده على مسرح (لاستيه) في مسرحية (الجرس) فأعجب به وحيّاه واختاره بعد سنوات، ليؤدّي دور (سقراط) في مسرحية (آخر أيام سقراط) وكانت تجربة مهمة في المسرح الغنائي كتب عن تفاصيلها في فصل حمل عنوان مسرح منصور الرحباني صدّره بعبارة سقراط «الدم حبر الحقيقة» عمل معه تجارب مهمّة: (حكم الرعيان) و(جبران والنبي) و(سقراط) و(دون كيشوت) ويقول عن هذه التجارب: «عملي مع الرحابنة حلم تحقّق، له في الذاكرة والوجدان مساحة ومكان آنس عند ذكره والعودة إليه».

ومما يحزنه اليوم القطيعة التي حصلت بين الأجيال الفنية، بسبب غياب الكثير من القامات التي عمل معها في بداياته واستفاد منها، فقد أخذ أصحابها بيديه، لكنه اليوم حين يمدّ يديه لا يجد من يمسك بها من الجيل الجديد الذي اختلفت اهتماماته، لذا قام بتدوين تجاربه في كتابه، وخصوصا المونودراما التي جعلت واحدا من أهم ممثلي مسرح المونودراما في العالم العربي، والكتابة بالنسبة له عمل مضن، يقول: «كتابتي لمسرحية جديدة تتطلب عاما أو عامين بين بحث وتجميع وتدوين ورسم شخصيات».

وتحدّث عن مسرحيات مثلها على مدى أكثر من ثلاثة عقود كـ: الحلبة، والجرس، والمفتاح، وزواريب، وجرصة، ووحشة، وعلاقاته مع المسرحيين الذين عمل معهم وعايشهم على مسرح الحياة، ليعطي عصارة تجارب واحد من أهمّ رجالات المسرح في عالمنا العربي اليوم.