ينظر إلى الخلاف والاختلاف على أنهما مفهومان معايشان في واقع حياة اليومية، ويمارسان على أنهما جزء من سياقاتها المعتادة التي لا تظهرهما على أنهما يشكلان عقبة مهمة في تبادل العلاقات والمصالح القائمة بين الناس، ولا يقفان عقبة كؤودة في طريق أي مسار ينتهجه الناس في حياتهم اليومية؛ هذه هي الصورة في عموميتها المعتادة، أما التفاصيل فتتضمن الكثير من الحواشي، والتفرعات، وتباين المفاهيم، والممارسات، بل يذهب المفهومان عند إخضاعهما لمفهوم المصالح المشتركة، إلى الكثير من التعقيد في مسارات الحياة المختلفة، حيث ينتقل الفهم من الحالة المعايشة المعتادة إلى الحالة التوظيفية للمصطلحين ذاتهما، مما يرفع سقف مدلولاتهما الوظيفية، ومما تجب الإشارة إليه في هذا السياق أن هناك فارقا جوهريا بين الخلاف والاختلاف- وإن أديا إلى نتائج مماثلة- وهو أن الاختلاف توجد فيه مساحة واسعة للأخذ والعطاء؛ حيث تكون الفرصة متاحة للوصول إلى شيء من التوافق في الآراء؛ وتكون لكل طرف فرصة لأن يقدم ما عنده من الآراء والقناعات والأدلة؛ وهذا كله يكون الأقرب إلى كلمة سواء، أما في حالة الخلاف فإنه لا يكون إلا طريق أحادي الجانب، فإما منتصر؛ وإما منهزم، ولا يوجد خيار ثالث، ولأن في هذا الحديث يتم عن الاستثمار في الخلاف؛ فإن من صورة ذلك- على سبيل المثال-: عندما أختلف معك في أمر ما، فالعادة أن يذهب كل واحد منا في حال سبيله مقتنعا بما هو عليه من موقف، أما عندما أقوم/ تقوم بالبحث عن مثالب هذا الخلاف لتوظيفه لمصلحة شخصية، فهنا تختلف الصورة كلية عن تجريديتها المعتادة والمقبولة، ويصبح لها وظيفة ثانوية، تتطلب الكثير من الأدوات التي يجب تسخيرها لخدمة تحقيق المصلحة، ولأن المسألة فيها اقتناص للفرص واستغلال للمواقف، فإن هذه الأدوات المتوقع توظيفها لن تخرج عن مجموعة من المكائد، والأراجيف، وتوظيف الفتن، والخداع والتضليل، وذلك للوصول إلى تحقيق استثمار هذا الخلاف؛ إما على شكل مكاسب مادية، أو مكاسب معنوية؛ وما أكثر كلا الأمرين، ولا شك أن المكاسب المتحصلة من ذلك تظل إشكالية موضوعية في مسألة العلاقات القائمة بين الناس، وفحوى الإشكالية هنا؛ على أنها مؤسسة على الخلاف، وليس على الاتفاق والتوافق؛ وهما الجانبان المضيئان في العلاقات.
يحل الوفاق والاتفاق على أنهما تبرئة للجروح التي يحدثها الخلاف، ولذلك يمثل الوفاق والتوافق الأمل المنبلج من عين العاصفة، عندما تعصف الخلافات بأي فريقين من الناس (أفرادا وجماعات) وتصل بهم الحالة الخلافية إلى كثير من التعقيد، ومن المعاناة، ومن المحنة التي لا يرى من خلالها أي بارقة أمل لإنهائها، ومع ذلك فالمفهومان (الخلاف والاتفاق) يحضران معا، ويغادران معا في نهاية الأمر، وليس هناك مكوث سرمدي لأي منهما، فبقدر ما يحل الخلاف، يحل معهما الوفاق والاتفاق (كنتيجة) ولو بعد حين، وهذه الصورة لا تخرج عن المعنى نفسه الذي يقول: «لا عداوة دائمة؛ ولا صداقة دائمة، ولكن هناك مصلحة دائمة» وهذه المصلحة هي التي تؤجج صور الخلاف، وهي التي تسترجي في لحظة ما صور الوفاق والاتفاق، وهي ذاتها في ظروف ما تذهب إلى صناعة عدو ما لإثارة مكامن الخلاف، ومن ثم الدعوة على الاتفاق، ويذهب الناس إلى حيث تحقيق استحقاقاتهم عاجلا بإثارة الخلاف، أو آجلا من خلال استدعاء الاتفاق، ولأن المسألة مرتبطة في هذا الحديث عن الاستثمار- اقتناص الفرص- المتحققة من الخلاف؛ فإن مجموعة التوافقات التي قد تحدث، ربما لا تعطي تلك النتيجة المتوخاة في حالة تنفيذها في مرحلة الخلافات؛ حيث يقتضي الأمر التنازل عن بعض الاستحقاقات لخاطر إتمام التوافق بين الأطراف، وهذا أمر قد لا يرضى به الكثيرون ممن يرون المصالح الذاتية فوق كل اعتبار، ولا يعيرون أي أهمية لشيء من الجوانب الإنسانية التي تركن كثيرا إلى جوانب الاتفاقات والتوافقات، والأمر في كلا الحالتين لا يجب أن يوجد شيئا من الدهشة والاستغراب، فالبشرية هذا ديدنها، والفرد منها؛ إن تنازل عن شيء من مصالحه في لحظة ما، فإن ذلك التنازل يبقى أمرا ثانويا، وليس قاعدة، فالقاعدة هي الانتصار للذات دائما، أما ما تذهب به الأقوال الذاهبة إلى تعزيز المثاليات، فذلك يبقى في نصه فقط، وليس في واقع الناس الذين تتجاذبهم المصالح، والاتفاقات الثنائية أو الجماعية، وهذه المسألة أيضا ليست مرتبطة بزمن دون آخر، أو بمحدد جغرافي أو قومي، وإنما هي حالة إنسانية معايشة منذ بدء الخليقة، تعيشها البشرية على امتداد البسيطة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
واليوم كما كان بالأمس هناك مجموعات سياسية كثيرة تمارس هذا الفعل الشائن، كما يقوم بالفعل ذاته الأفراد على مستوى المجتمع الواحد، حيث تؤجج الخلافات بين الأطراف لتحقيق مصلحة ما، حتى لو أدى ذلك إلى الاقتتال والتناحر، والدخول في معترك الخصومات القاسية التي تشتت الوحدة في المجتمع الإنساني ككل، وتؤدي إلى تشريد البشر، وتشتيتهم في بقاع الدنيا بلا هوية إنسانية، ومع ذلك ينظر إلى كل ذلك على أنه أمر معتاد وفق سياق الحياة اليومية وإشكاليات البشرية فيها، فلا يثير تلك الحمية الجماعية للناس كلهم، حيث يكتفي الجميع بالأسف لما يحدث، وعلى الرغم من الإحساس بوطأة الفعل المنجز في الخلاف، وهو الصدام والتقاتل؛ استحدثت البشرية مؤسسات ومجالس، ومنظمات تحت مسميات دولية، للحد من استفحال الخلافات ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة من المآسي، إلا أن كل ذلك لم يسفر عن نتائج جوهرية؛ استطاعت أن توقف وقفا قاطعا مجموعة الخلافات التي تحدث بقصد وبغير قصد، حيث ظلت الصورة المأساوية تراوح ذاتها في كل بقاع العالم، وظلت دول دون غيرها هي التي يقرر نشوء الخلافات واستمرارها أو توقفها بالكلية، وذلك كله خاضع لمستويات المصالح المتحققة سواء لدولة بعينها من الدول المتنمرة على الشعوب، أو مجموعة دول تجمع بينها مصالح مشتركة، وإمعانا في هذا التوجه وجد ما يسمى بـ «الحرب بالوكالة» حيث تدس دول أو مجموعات بشرية، لتقوم بالأدوار ذاتها في نشوء النزاعات والخلافات مقابل ثمن ما، بينما تبقى الدول الراعية لها هي التي تستثمر في الفراغ الحاصل بين الطرفين، في مجمل الخلافات القائمة لصالح نفوذها الممتد، وهذا الاستثمار قد يكون على شكل استغلال الثروات الطبيعية، أو بيع الأسلحة، أو تضعيف القوى الناشئة؛ فلا تكون لها قائمة تذكر، أو توظيف سياسات هدامة لزعزعة اللحم الاجتماعية والسياسية والثقافية، لاستمرار تصدع المجتمعات حيث تبقى واهنة ضعيفة، بدلا من الالتفات إلى مصالح أوطانها، ومصالح حيواتها الاجتماعية والثقافية الأخرى بما يعزز الوجود الإنساني واستقراره، وذلك كله إمعانا وتكريسا للضعف، والوهن، وتعميقا للخلافات القائمة، أو استحداث خلافات جديدة، بأدوات جديدة أكثر قسوة وشمولية في التأثير والحدة.
ومن أشد أسباب الخلافات القائمة لدى الشعوب هي تفرع الهويات (الهويات الفرعية) وهي الهويات التي تعزف عليها القوى الاستعمارية لاستمرار الخلافات بين حاضنات الشعوب، وعلى الرغم من وضوح الرؤية في هذا الجانب، إلا أن الحالة لا تزال تراوح نفسها، وكأن الشعوب معمية أبصارهم، أو أن عقولهم وقلوبهم كستها أدران القضايا الخاصة، فلم تلتفت إلى قضاياها العامة، حيث يظل تكرار الخطأ سمة واضحة لدى كل الشعوب بلا استثناء، وما يبعث على الاستغراب هذا الاستسلام المطلق لمجمل التأثيرات المتقصد في تصديرها لإعطائها صفة الديمومة، أو إعادة إنتاجها وفق الظروف والأماكن والثقافات، مع أن الأسباب في مجملها تكون نمطية، وقد عايشتها الشعوب من خلال تجربة الحياة التي قطعتها خلال مسيرتها الإنسانية الطويلة، وبقدر الإيمان بالوقوع الحتمي للخلافات في كل العلاقات؛ إلا أن البشرية غير معذورة في إعادة إنتاجها للخلافات في كل مرة، فالتحديات الموضوعية التي تواجهها في مختلف شؤون الحياة اليومية- وما أكثرها- يفترض أن يوجه أي جهد لصالحها ومعالجتها، وطرح البدائل التي تزيد من عمر الحياة لدى البشرية، وليس العكس؛ كحال الخلافات التي تنهك الحياة، وتظهره وجهها قاتما مكفهرا.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
يحل الوفاق والاتفاق على أنهما تبرئة للجروح التي يحدثها الخلاف، ولذلك يمثل الوفاق والتوافق الأمل المنبلج من عين العاصفة، عندما تعصف الخلافات بأي فريقين من الناس (أفرادا وجماعات) وتصل بهم الحالة الخلافية إلى كثير من التعقيد، ومن المعاناة، ومن المحنة التي لا يرى من خلالها أي بارقة أمل لإنهائها، ومع ذلك فالمفهومان (الخلاف والاتفاق) يحضران معا، ويغادران معا في نهاية الأمر، وليس هناك مكوث سرمدي لأي منهما، فبقدر ما يحل الخلاف، يحل معهما الوفاق والاتفاق (كنتيجة) ولو بعد حين، وهذه الصورة لا تخرج عن المعنى نفسه الذي يقول: «لا عداوة دائمة؛ ولا صداقة دائمة، ولكن هناك مصلحة دائمة» وهذه المصلحة هي التي تؤجج صور الخلاف، وهي التي تسترجي في لحظة ما صور الوفاق والاتفاق، وهي ذاتها في ظروف ما تذهب إلى صناعة عدو ما لإثارة مكامن الخلاف، ومن ثم الدعوة على الاتفاق، ويذهب الناس إلى حيث تحقيق استحقاقاتهم عاجلا بإثارة الخلاف، أو آجلا من خلال استدعاء الاتفاق، ولأن المسألة مرتبطة في هذا الحديث عن الاستثمار- اقتناص الفرص- المتحققة من الخلاف؛ فإن مجموعة التوافقات التي قد تحدث، ربما لا تعطي تلك النتيجة المتوخاة في حالة تنفيذها في مرحلة الخلافات؛ حيث يقتضي الأمر التنازل عن بعض الاستحقاقات لخاطر إتمام التوافق بين الأطراف، وهذا أمر قد لا يرضى به الكثيرون ممن يرون المصالح الذاتية فوق كل اعتبار، ولا يعيرون أي أهمية لشيء من الجوانب الإنسانية التي تركن كثيرا إلى جوانب الاتفاقات والتوافقات، والأمر في كلا الحالتين لا يجب أن يوجد شيئا من الدهشة والاستغراب، فالبشرية هذا ديدنها، والفرد منها؛ إن تنازل عن شيء من مصالحه في لحظة ما، فإن ذلك التنازل يبقى أمرا ثانويا، وليس قاعدة، فالقاعدة هي الانتصار للذات دائما، أما ما تذهب به الأقوال الذاهبة إلى تعزيز المثاليات، فذلك يبقى في نصه فقط، وليس في واقع الناس الذين تتجاذبهم المصالح، والاتفاقات الثنائية أو الجماعية، وهذه المسألة أيضا ليست مرتبطة بزمن دون آخر، أو بمحدد جغرافي أو قومي، وإنما هي حالة إنسانية معايشة منذ بدء الخليقة، تعيشها البشرية على امتداد البسيطة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
واليوم كما كان بالأمس هناك مجموعات سياسية كثيرة تمارس هذا الفعل الشائن، كما يقوم بالفعل ذاته الأفراد على مستوى المجتمع الواحد، حيث تؤجج الخلافات بين الأطراف لتحقيق مصلحة ما، حتى لو أدى ذلك إلى الاقتتال والتناحر، والدخول في معترك الخصومات القاسية التي تشتت الوحدة في المجتمع الإنساني ككل، وتؤدي إلى تشريد البشر، وتشتيتهم في بقاع الدنيا بلا هوية إنسانية، ومع ذلك ينظر إلى كل ذلك على أنه أمر معتاد وفق سياق الحياة اليومية وإشكاليات البشرية فيها، فلا يثير تلك الحمية الجماعية للناس كلهم، حيث يكتفي الجميع بالأسف لما يحدث، وعلى الرغم من الإحساس بوطأة الفعل المنجز في الخلاف، وهو الصدام والتقاتل؛ استحدثت البشرية مؤسسات ومجالس، ومنظمات تحت مسميات دولية، للحد من استفحال الخلافات ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة من المآسي، إلا أن كل ذلك لم يسفر عن نتائج جوهرية؛ استطاعت أن توقف وقفا قاطعا مجموعة الخلافات التي تحدث بقصد وبغير قصد، حيث ظلت الصورة المأساوية تراوح ذاتها في كل بقاع العالم، وظلت دول دون غيرها هي التي يقرر نشوء الخلافات واستمرارها أو توقفها بالكلية، وذلك كله خاضع لمستويات المصالح المتحققة سواء لدولة بعينها من الدول المتنمرة على الشعوب، أو مجموعة دول تجمع بينها مصالح مشتركة، وإمعانا في هذا التوجه وجد ما يسمى بـ «الحرب بالوكالة» حيث تدس دول أو مجموعات بشرية، لتقوم بالأدوار ذاتها في نشوء النزاعات والخلافات مقابل ثمن ما، بينما تبقى الدول الراعية لها هي التي تستثمر في الفراغ الحاصل بين الطرفين، في مجمل الخلافات القائمة لصالح نفوذها الممتد، وهذا الاستثمار قد يكون على شكل استغلال الثروات الطبيعية، أو بيع الأسلحة، أو تضعيف القوى الناشئة؛ فلا تكون لها قائمة تذكر، أو توظيف سياسات هدامة لزعزعة اللحم الاجتماعية والسياسية والثقافية، لاستمرار تصدع المجتمعات حيث تبقى واهنة ضعيفة، بدلا من الالتفات إلى مصالح أوطانها، ومصالح حيواتها الاجتماعية والثقافية الأخرى بما يعزز الوجود الإنساني واستقراره، وذلك كله إمعانا وتكريسا للضعف، والوهن، وتعميقا للخلافات القائمة، أو استحداث خلافات جديدة، بأدوات جديدة أكثر قسوة وشمولية في التأثير والحدة.
ومن أشد أسباب الخلافات القائمة لدى الشعوب هي تفرع الهويات (الهويات الفرعية) وهي الهويات التي تعزف عليها القوى الاستعمارية لاستمرار الخلافات بين حاضنات الشعوب، وعلى الرغم من وضوح الرؤية في هذا الجانب، إلا أن الحالة لا تزال تراوح نفسها، وكأن الشعوب معمية أبصارهم، أو أن عقولهم وقلوبهم كستها أدران القضايا الخاصة، فلم تلتفت إلى قضاياها العامة، حيث يظل تكرار الخطأ سمة واضحة لدى كل الشعوب بلا استثناء، وما يبعث على الاستغراب هذا الاستسلام المطلق لمجمل التأثيرات المتقصد في تصديرها لإعطائها صفة الديمومة، أو إعادة إنتاجها وفق الظروف والأماكن والثقافات، مع أن الأسباب في مجملها تكون نمطية، وقد عايشتها الشعوب من خلال تجربة الحياة التي قطعتها خلال مسيرتها الإنسانية الطويلة، وبقدر الإيمان بالوقوع الحتمي للخلافات في كل العلاقات؛ إلا أن البشرية غير معذورة في إعادة إنتاجها للخلافات في كل مرة، فالتحديات الموضوعية التي تواجهها في مختلف شؤون الحياة اليومية- وما أكثرها- يفترض أن يوجه أي جهد لصالحها ومعالجتها، وطرح البدائل التي تزيد من عمر الحياة لدى البشرية، وليس العكس؛ كحال الخلافات التي تنهك الحياة، وتظهره وجهها قاتما مكفهرا.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني