تُطلِعنا السِير الذاتية أو اليوميات والمذكرات الشخصية على التجارب الحياتية التي عاشها أصحابها في منعطفات الحياة التي عصفت بالمنطقة، وتشكل في الوقت ذاته جزءا مهما من الذاكرة الفردية والجماعية وخلاصة تجارب يمكن الاستفادة منها والبناء عليها في التعامل مع العديد من المعضلات الراهنة. تتقاطع بعض السِيّر مع سِير أخرى، نظرا لتزامن الأحداث التي يرويها أصحابها، فمثلا يذكر الأكاديمي والمؤرخ اللبناني كمال الصليبي (1929-2011) في سيرته «طير على سنديانة، دار الشروق/الأردن 2002»، بعض الأحداث التي جرت في الجامعة الأمريكية في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، ويشير إلى اسم الشاب الفلسطيني فتحي البس (1953) الذي سينشر سيرته الذاتية في عام 2008، تحت عنوان « انثيال الذكرة.. هذا ما حصل»، فتحي نفسه صاحب دار الشروق التي نشر فيها كمال الصليبي مذكراته. التقيت بفتحي البس على هامش معرض مسقط للكتاب 2023 بصفته مديرا لمؤسسة محمود درويش، وحدثني عن علاقته مع كمال الصليبي، الذي حذر فتحي من محاولة اغتيال، رغم الخلاف العميق بين الشخصين، لكن الصليبي يُعمل العقل قبل القلب، إذ ذكر في مذكراته «من طبيعة العرب حب النكاية والنيل من بعضهم بعضا، يؤثرون التمتع بالنكاية على ملاحقة مصالحهم بأساليب مفيدة، ومعظمهم يساق بالعواطف بدلا من العقل ولذلك لا يتقدمون».

دفعت سيرة ذاتية فتحي البس، الأكاديمي الكويتي من أصل فلسطيني شفيق ناظم الغبرا (1953-2021)، إلى كتابة سيرته الذاتية التي حملت عنوان «حياة غير آمنة: جيل الأحلام والإخفاقات. دار الساقي 2012». يقول الدكتور شفيق الغبرا «فاجأني قائد السرية الطلابية وكتيبة الجرمق معين الطاهر، الذي خضت معه التجربة في لبنان، بقوله آن الأوان لنكتب التجربة ولنتحدث عنها كما وقعت بموضوعية، فقد تأثر معين بما كتبه فتحي البس المكافح أيضا في صفوف السرية الطلابية في مراحلها الأولى، في كتابه القيم انثيال الذاكرة».

بدأ شفيق الغبرا بكتابة مذكراته عام 1993 «مرحلة الطفولة»، باقتراح من أستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة تكساس (بي جاي فيرينا)، التي جمعت تجارب طفولة لعدد من الشخصيات العربية ونشرتها في كتاب. واصل شفيق بعد ذلك كتابة مذكراته وعلاقته بحركة فتح التي انضم إليها منذ أن كان طالبا في الثانوية في الكويت، ولكنه لم ينشرها، يقول الغبرا «انتظرت 30 عاما لأكتب عن تجربتي مع الثورة والمقاومة من أجل القضية الفلسطينية، تجربتي الذاتية قصة تحول من البراءة إلى الراديكالية ومن الراديكالية إلى التساؤل». إن التحولات التي يمر بها الإنسان هي أهم ما يمكن أن تُروى، نظرا لما تمثله من صدق مع الذات وعلامات على النضج الفكري وحسم اتخاذ القرارات الشخصية.

انضم شفيق الغبرا إلى التنظيم الشبابي لحركة فتح منذ أن كان على مقاعد الدراسة في الكويت، بتشجيع من المعلمين الفلسطينيين في المدرسة. وهو ما سيتكرر في مكان آخر، وفي زمن متأخر قليلا، إذ سينضم شابان عمانيان من مدينة صلالة في أوائل الثمانينيات إلى حركة فتح، بتشجيع من معلمهم الفلسطيني، الذي سهّل لهما إجراءات السفر من صلالة إلى جنوب لبنان مرورا بأبوظبي ودمشق. « الشابان هما المرحوم الإعلامي محمد بن عبدالله العليان (1960-2019)، وعدنان بن عامر الشنفري» (أبو عبدالرحمن كما عرفناه، عبدالله العليان، جريدة الرؤية 5/2/2019).

تحدث الغبرا عن طفولته في الكويت ولندن مرورا بالقاهرة، قبل أن يلتحق بثانوية برمانا في لبنان، وهي المرحلة التي تحمل فيها مسؤوليته الشخصية والفكرية، «وجدت نفسي في سنوات برمانا منجذبا على الدوام مع صديقي مارون إلى صور والمخيمات في نهاية الأسبوع، نذهب معا إلى محاضرات في بيروت يتحدث فيها فواز طرابلسي عن رحلته الشهيرة إلى ظفار في عُمان، في تلك المرحلة سمعت أول مرة عن أحمد الربعي الشاب الكويتي، الذي انضم للفدائيين في الأردن، ثم قاتل في ظفار من أجل التغيير في عُمان، ثم أسر وسُلّم إلى الكويت، حيث كان مطلوبا في قضية تفجير احتجاجا على وقوع تزوير الانتخابات عام 1967».

توسع الغبرا في الحديث عن وجود السرية الطلابية في جنوب لبنان وعن العلاقة بين السرية والسكان الذين يتعرضون للقصف الإسرائيلي. كما تحدث د.شفيق الغبرا عن بعض الممارسات غير الأخلاقية التي يمارسها بعض المحسوبين على الحركات الثورية. تمنح المذكرات فهما للجنوب اللبناني ومكوناته الاجتماعية، وبداية تأسيس نواة المقاومة الإسلامية التي تحملت مسؤولية تحرير الجنوب عام 2000.

بعد نضال استمر سنوات في ظروف سياسية وطبيعية قاهرة، لم يجد شفيق الغبرا إلا الكلمات لتخليد رفاقه. «ماذا نمتلك غير اللغة لاستعادة الأرواح التي غادرتنا شابة حالمة تُختصر حياتها في نعي يستمر لدقائق، وملصق على جدران الأزقة الفقيرة في أزقة المخيمات، وشوارع بيروت وصيدا والجنوب».